ماذا يفعل بدرشاكر السيّاب في حصاد الجزيرة؟ هل يوجد لشعره محلّ بين أشلاء الضحايا الذين يسقطون يوميّا في العراق وسوريّة؟ لم أصدّق أذنيّ وأنا أستمع إلى مطلع قصيدته الرائعة (أنشودة المطر) في مثل ذلك الموعد المخصّص لأخبار التفجيرات والمعارك. دماء تسيل ودموع تنهمر، وحرائق ودخان أسود يليها مباشرة مشهد الواحة على ضفاف نهر الفرات وصوت حنون يداعب أسماعنا قائلا: ‘عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر، أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر، عيناك حين تبسمان، تورق الكروم وترقص الأضواء كالأقمار في نهر'. مقدّمة غزليّة من أجمل ما كتب السيّاب متحرّرا من القواعد القديمة لكتابة الشعر. وقد كانت القراءة معبّرة عن مشاعر متناقضة لا يفهمها إلاّ عارف بماضي العراق وحاضره، في تقرير يواكب تصوير عمل سينمائيّ عن حياة ذلك الشاعر الذي عاش ومات فقيرا. ورد التقرير في نهاية حصاد اليوم. وفي ذلك الهزيع الأخير من النشرة القاتمة، يجود علينا المحرّرون ببعض التقارير الخفيفة التي تصنّف ضمن ‘الأخبار المنوّعة' للترويح على المشاهدين بعد رحلة ثقيلة مع الأخبار العربيّة السيّئة التي تدمّر النفوس وتخلّف العبوس. وفي هذا السياق، وقفت حينا من الزمن على أطلال حيّ صلاح الدين بمدينة حلب استجابة لدعوة من الناشطين الذين زوّدوا الجزيرة مباشر بصور حصريّة تثبت خلوّ الحيّ من ‘سيطرة مزعومة' للجيش النظاميّ. ولكنّ النزهة القصيرة التي طافت بنا في بعض الشوارع أثبتت خلوّ الحيّ لا من الجنود فحسب وإنّما من كلّ مظاهر الحياة. حلّ الدمار بجميع المباني، فلم نر سوقا مزدحمة بالباعة والمشترين، أو مدرسة صاخبة بطلاّبها، أو سيارات تمللأ الطرقات أو حتّى قططا شاردة. كان المصوّر يتنقّل مزهوّا بذلك الفراغ الذي يثبت حقيقة عسكريّة تخصّ معركته مع النظام. ولكنّ الحقيقة العميقة يختزلها قول الشاعر الجاهليّ ‘قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل'..إلى أن يقول: ‘ وإنَّ شفائي عبرة مهراقة فهلْ عند رَسمٍ دارِسٍ من مُعوَّلِ... وتصوير الواقع السوريّ بأبيات لامرئ القيس مرّت قرون على نظمها، ينطوي على مفارقات موجعة حقّا، فواقعنا العربيّ المأزوم يرتدّ بنا إلى عصور البداوة والجاهليّة الأولى عندما كان الشعراء يقفون للبكاء من فراق الأحبّة الذين رحلوا وتركوا خلفهم أثارا دارسة وأحجارا صمّاء. واقع عربيّ أليم دوّنته مخيّلة الشعراء قبل سنوات من الدخول في أنفاقه المظلمة، لكنّ تقرير الجزيرة عن السيّاب أغفل ذلك المشهد الحزين الذي صوّره في القصيدة قائلا: ‘أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟ بلا انتهاء كالدَّم المراق كالجياع ، ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ، وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ ‘... هكذا رسم السياب في أنشودته معالم العراق الذي يتواعد يوميّا مع الموت والردى والدم المراق فلا مانع إذن من تلاوة قصائد الشعراء لترافق التقارير القادمة من ساحات القتال والانتقام، فكلّها كلمات جريحة وصور ملطّخة بالدماء. كلمات ومقارنات من فرنسا لا أعتقد أنّكم سمعتم يوما بمصطلح ‘الخبر المقارن' قياسا على الأدب المقارن، فهذا علم جديد سأسجّل لنفسي براءة اختراعه وسأعمل على إثبات جدواه. فبعد أن قادتني مشاهداتي لأخبار الفضائيّات بألسنتها المختلفة إلى عقد مقارنات ومقاربات بين تقارير تتشابه وتختلف من بلد إلى بلد، ومن ثقافة إلى أخرى، راودتني فكرة التنظير لهذا العلم الناشئ (على يديّ) خدمة للدارسين الباحثين عن تفسيرات دقيقة لردود أفعالنا في سبيل الإحاطة بما يتحكّم في توجيهها الوجهة التي نرضاها أو نأباها. واعتمادا على ما منحته لنا التكنولوجيا من سهولة التنقّل عبر القنوات والثقافات بنقرات سريعة على مفاتيح ‘الريموت كونترول'، أقترح عليكم هذه التجربة الرائدة بمقارنة (تعسّقيّة) بين الواقع الفرنسيّ والواقع السوريّ... ما أبعد ما يجري في فرنسا عمّا يحدث في سوريّة، هكذا نستنتج منذ البداية، فالفرنسيّون يتوافدون هذه الأيام على مدينة ‘كان' حيث انطلق الاحتفال بمهرجانها السينمائيّ المرموق. بينما يفرّ السوريّون من بيوتهم ،إلى خبر كان، هربا من القنابل والسيوف وكلّ الأسلحة البيضاء والسوداء التي تنشر الموت والرعب ولا تستثني من بطشها طفلا بريئا أو امرأة ضعيفة.. المقارنة إذن مؤلمة إلى الحدّ الذي يدفعنا إلى تجنّبها. ولكن تقريرا عرضته القناة الفرنسيّة الثانية أجبرني على مواصلتها. فخبر الانتحار الذي أقدم عليه كهل يائس في ساحة مدرسة ابتدائيّة قدّم لنا بعض التشابه على مستوى الصدمة التي أصابت الأطفال عندما سمعوا صوت الرصاص وشاهدوا العمليّة المرعبة بأعينهم من نوافذ أقسامهم. الأطفال الفرنسيّون وجدوا بعد تلك الحادثة كلّ الرعاية، وفي اليوم التالي عادوا إلى مدرستهم فكان في استقبالهم ثلّة من الأطباء النفسيين الذين تجنّدوا للإحاطة بهم والاستماع إليهم... والتعبيرعن الحادثة من طرف الأطفال تمرين مفيد لهم حسب الطبيب الذي علّق على تلك المهمّة... فماذا عن الأطفال في سوريّة حيث يُذبحون ويَذبحون؟ ماذا عن الأشلاء التي تحاصر أحلامهم، والدماء التي تلوّث رسومهم ودفاترهم، والدمار الذي لحق ببيوتهم ومدارسهم؟ هل سيجدون من يستمع إليهم وهم يعبّرون عن خوفهم وجوعهم؟... هناك في سوريّة.. لا وقت للتعبير أو الحوار. ولا صوت يعلو فوق صوت السلاح والعويل. إنها الحرب التي لا ينتصر فيها أحد. حرب تخلّف الموت والحزن وتصنع من الأطفال مشرّدين متعطّشين للانتقام، عاجزين عن الكلام. الخوف من الاسلام في تونس الكلمة الطيبّة، عنوان الدرس الذي واكبته نشرة أخبار القناة الوطنيّة التونسيّة في سجن المرناقيّة، وقد هرولت إلى ذلك المكان للتحقّق من الجدل الذي أثاره تنظيم تلك الدروس لفائدة مساجين الحق العامّ، فبعض ‘النقابات المعنيّة'، (هكذا وصفت دون تسميتها بوضوح)، لا تستبعد أن تكون تلك الدروس وعظا في ظاهرها وتوظيفا سياسيّا في باطنها!. ونحمد الله أنّ التقرير طمأن الجميع، فذكر مدير السجن الاحتياطات المتخذة لمنع ذلك التوظيف ما ظهر منه وما بطن، فلديهم رقيب عتيد يحضر تلك الدروس ويقدّم لإدارة السجون تقارير مفصّلة عنها. وعلى العموم، وبفضل يقظة الجمعيّات والأحزاب والنقابات، فإنّ الوضع تحت السيطرة، وقبل إزالة كافّة الألغام ‘البدائيّة الصنع′ التي زرعت في جبل الشعانبي، بشّرنا السيّد عصام الشابي من الحزب الجمهوريّ في ندوته الصحفيّة التي نقلتها قناة (تي أن أن) بإزالة ‘الألغام' التي حاصرت مسوّدة الدستور، وهي الأكثر خطرا على البلاد والعباد. فقال مطمئنا:(لقد تمّت إزالة كل الألغام التي كانت محيطة بالدستور ووقع تغيير عبارة ‘تأسيسا على ثوابت الإسلام' بعبارة ‘ تأسيسا على تعاليم الإسلام'). وهذه البشرى تذكّرنا بالآية الكريمة:' أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ...'َ وبقيّتها لا تسرّ. لذلك تمنّيت لو حضر عصام الشابي درس ‘الكلمة الطيبة' في سجن المرناقيّة، حتّى لا يعتبر ثوابت الإسلام ألغاما. وإذا أثبت غير ذلك سنحثّ إدارة السجون على دعوته للمشاركة في إلقاء الدروس الوعظيّة على روّادها لِيُبيّن (دون توظيف سياسيّ) الفرق بين الثوابت والتعاليم، فللرجل على ما يبدو ثقافة واسعة وعلم غزير يؤهّله لأداء تلك المهمّة بنجاح منقطع النظير! كاتب تونسي* القدس العربي May 21, 2013