الحمد لله الذي بلّغنا رمضان والصلاة والسلام على خير ولد آدم محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين. لم يكن الدرس الذي يُجلَس له بعد صلاة العصر الذي حضرته البارحة هو أوّل درس يلقيه الدّاعية الكريم الشابّ الشيخ علي أبو خليل المصري، بل كان - حسب فهمي للسياق - الثالث في سلسلة رمضانيّة تُفرغ الحاضرين وتملأهم تماما كما كان يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع صحابته الكرام!... تحدّث الشيخ عن رمضان وعن الصوم، ذلك العمل الذي نسبه الله جلّ وعلا لنفسه "كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به" لما تميّز به من سرّية لا يكشفها إلّا هو جلّ وعلا. تحدّث الشيخ سابقا في مثل درس البارحة عن الطاعة المطلقة لله ربّ العالمين، ثمّ تحدّث في ثانية عن المجاهدة (مجاهدة النّفس والهوى والشهوات) وواصل البارحة الحديث عن المقاومة. وهي وإن كانت عندي لا تبعد عن المجاهدة إلّا أنّ الشيخ الكريم قد فصّلها وشرحها حتّى لا يسمعها سامع إلّا غنم منها... فالصائم مدعوّ إلى مقاومة أمراض نفسه وشهواتها ومنها على وجه الخصوص: - الشحّ والبخل والحرص: فالصائم مدعوّ إلى التوقّف مع المال وقفة فقه وفهم كي يرى نفسه مستخلفا فيه فيُحسن من ثمّة التصرّف فيه ويجعله له وسيلة للارتقاء والفلاح "ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون" ولا يحرص عليه وعلى جمعه ف"ما نقص مال عبد من صدقة". بل يكون في رمضان جوادا معطاء اقتداء بالحبيب صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، فقد كان "أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة". يفعل المؤمن الصائم ذلك وهو موقن بأنّ "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النّارَ". يفعل ذلك استجابة لأمر ربّه ورسوله وهروبا من البخل الذي علم آثاره "ومن يبخل فإنّما يبخل عن نفسه"... فمن كان صائما قاوم ذلك والتحق بالمفلحين. - تحدّث الشيخ كذلك عن مقاومة الجوارح مستأنسا مستشعرا بقول عمر ومنه الكثير فقد أرشد رضي الله عنه إلى الرّفق بالنّفس والإقلال من الحرص بقوله "أوكلّما اشتهيت اشتريت"... وهي الآفة التي أصيب بها المسلمون في أيّامنا هذه، فما كان يجدر بهم أن يجروا وراء أعينهم توردهم معارض الباعة يقتنون منها ما يُنشؤون به موائد رمضانيّة استثنائيّة لا يُؤكل منها إلّا القليل ليُلقى باقيها على رؤوسهم ديونا تذلّهم بالنّهار وتؤرّقهم بالليل... كان يمكن الاقتصاد في رمضان في الأكل وتوفير المال بدل صرفه بما بات يخوّف في كثير من البلاد الإسلاميّة من رمضان والعيدين، فإنّه "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"... وهنا نبّه الشيخ الكريم إلى أنّ من ثقل (بالأكل والشرب) تثاقل فعجز عن الطاعة. وقد عرفت من أهل الطاعة من لا يأكل عند الإفطار إلّا قليلا كي يكون قادرا على أداء سنّة التراويح والقيام، وقد حسن بنا الاقتداء بهذه النّماذج كي نستطيع السير على طريق الصالحين!... - وأمّا الشهوة الثالثة التي تعرّض إليها الشيخ علي ودعا إلى مقاومتها فهي شهوة الفرج. وهي من الشهوات التي يمكن إتيانها دون اطّلاع النّاس عليها. وهي من أهمّ ما يؤكّد أنّ الصائم إنّما صام لمّا صام لله تعالى "إلّا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به"، وجزاء الله جزاء لا يجازي به غيرُه. وقد قال الحبيب صلّى الله عليه وسلّم "من ضمن لي ما بين لحييه ورجليه ضمنت له على الله الجنّة". وأرشد الشباب خاصّة إلى وسيلة تساعد على ضمان ما بين الرّجلين (الفرج) "يا معشر الشباب؛ من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"... - وكان آخر مراكز المقاومة الذي نبّه إليه الشيخ أو هو ذكّر به شهوة الحديث أو لنقل شهوة اللسان وتجاوزاته... فقد سأل معاذ رضي الله عنه: "يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به"؟ قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "ثكلتك أمك يا معاذ !وهل يكبّ الناسَ في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم - إلا حصائدُ ألسنتهم"... فعلى الصائم أن يمسك لسانه ويجتنب قول الزور أو شهوده فإنّ "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في إن يدع طعامه وشرابه"... وبذلك ختم الشيخ علي جزاه الله عنّا خيرا واعدا بالمواصلة، وقد حرّضني على صلاة العصر وراءه علّي آتيكم بما يفيض به مجلسه من فوائد للصائم وللمسلمين عموما، والله أسأل لي ولكم الثبات على الحقّ وحسن الخاتمة. وإلى لقاء بإذن الله تعالى... يتبع إن شاء الله... ملحوظة: المضمون للشيخ علي والصياغة بتصرّف للسامع الفقير إلى ربّه ونسأل الله أن نكون ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه... عبدالحميد العدّاسي، الدّانمارك في 25 يوليو 2013