تونس ليست سوى جزء من العالم الثالث، الذي لا يأتي رؤساءه إلاّ عن طريق الانقلاب، الاّ ان هذا البلد قد تميّز بانقلاباته الأمنية بدل العسكرية، وبأقل الخسائر الممكنة. وبعد انتخابات 23 اكتوبر، التي شهد لها العالم كله بالنزاهة، ارتدّ المسار الديمقراطي لصالح ما يسمّى بالحوار الوطني، الذي جاء غصبا ومخالفا لمبادئ الديمقراطية، فهل ان هذا الحوار الذي تقوده رباعية منحازة، هو بداية التأسيس لانقلاب أمني أبيض جديد، في تاريخ تونس؟ وممّا لا شكّ، فان هذا هو الانقلاب بعينه، وستتوالى نتائجه الدرامية تباعا، بعد عزل السلطة الحالية وبداية عمل "حكومة الحوار الوطني"، التي يسمّيها البعض تعسّفا، على الواقع، بحكومة "التوافق الوطني". وسوف لن نخرج على السياق كثيرا، فتونس بلد الانقلابات الناعمة بامتياز، فقد شهدت على حسب عدد رؤساءها انقلابين، انقلاب بورقيبة وانقلاب المخلوع. لقد انقلب بورقيبة في سنة 1962 على الباي الأمين، وقد أكّدت ليليا ابنة آخر بايات تونس ذلك، وهي تقول بان الحبيب بورقيبة زار والدها اسبوعا واحدا قبل ان يقوم بانقلابه، وقال له باللغة العامية " هذا مصحف قرآن يطيّحلي في نظري وفي ركايبي كان إنّحيك من بقعتك حتى صاحب الامانة يهز أمانتو" ، وكان الباي على علم بان بورقيبة يحضّر لشئ ما. ومن المعلوم بان بورقيبة قد استعمل ترسانة من القوانين كان قد حضّر لها وهو وزير للباي، ثمّ قام بتجريد أهمّ المقاومين من اسلحتهم، ثمّ استعمل الحرس لينقض على الحكم. ونفس الأسلوب انتهجه المخلوع، وقام بانقلابه الأبيض على رئيسه بورقيبة، وذلك بعد ان عمل لفترة طويلة على تهيئة الأجواء بوزارة الداخلية التي سيستعمل كل اجهزتها للانقضاض على الحكم، وهو ما تمّ فعلا في 1987. الرئيسان، بورقيبة والمخلوع، جاءا بعد انقلابات تميّزت على الأقل بخاصيتين، استعمال اجهزة وزارة الداخلية، والوصول لسدّة الحكم بأضرار لا تكاد تذكر في بدايتها، ثمّ تنتهي في الحالتين بمحارق واغتيالات وسجون. بورقيبة استعمل الحرس لعزل الباي ومحاصرة المناوئين له، والسيطرة على الوضع، والمخلوع استعمل كل أجهزة وزارة الداخلية، التي تدرّب في احضانها، وساهم في تهيئتها لانجاز الانقلاب منذ كان مديرا للأمن. وفي الحالتين كانت المؤسسة العسكرية، في منأى عن هذه الانقلابات، وقد عمل المخلوع، بعد انقلابه، على اضعافها وإفراغها من مضمونها، وذلك لتبقى بعيدة كلّ البعد عن محيط الحكم، كما طوّع وزارة الداخلية وأذرعها لفائدته وأوامره، وهي التي شارك اغلب مدرائها مع رئيسهم في الانقلاب. وزارة الداخلية هذه لم تكن خارج الأحداث في ثورة 14 جانفي، فقد بدأ الحراك الثوري ضدّها، ثمّ لاحقا بخطب ودّها من خلال الإغراءات المالية والزيادات في الشهرية الغير متناسقة مع الواقع الاقتصادي بعد ثورة، ثمّ ظهرت نقابات مسيّسة، تتدخل في الصغيرة والكبيرة، في شؤون البلاد. ويظهر قيادة وزارة الداخلية للأحداث السياسية جليّا من خلال، طرد الرؤساء الثلاث بعد استشهاد اعوان الحرس، حيث لم يكن الأمر تلقائيا وردة فعل غاضبة، اذ ظهرت اللافتات التي تندد برؤساء انتخبهم الشعب، وهو ما بدى بان الأمر مدروس مسبقا. وإذا زدنا، تصريح احد القيادات النقابية بالأمس، بأن رجال الأمن ينحازون الى الشعب في مطلب اسقاط الحكومة، يظهر جليا بان الفعل الحقيقي لإدارة الأحداث في تونس يقف وراءها بعض المجموعات الأمنية. وما خارطة الطريق، الغير منطقية من زاويتين على الأقل، من حيث المبدأ، اذ انها تأتي خلافا للمنطق الديمقراطي، ومن حيث الزمن، اذا يستحيل بعقلية الساسة التونسيين انجاز دستور في غضون ثلاثة اسابيع، الاّ دلالة اخرى على سوء نية وقعت فيه الحكومة، وخاصة حركة النهضة. الإمضاء على خارطة الطريق وتخلي الحكومة المنتخبة سيكون الامضاء النهائي على الانقلاب الناعم الثالث في تونس. وفي غضون شهر من تولي الحكومة الجديدة، ستظهر الأنياب الحقيقية لوزارة الداخليّة ومن يقف وراءها من ساسة، للإعلان الرسمي على الانقلاب، وبداية الاعتقالات. د. محجوب احمد قاهري 27/10/2013