أوقفت الحكومة البريطانية هذا الأسبوع غيرت فيلدرز (Geert Wilders) السياسي الهولندي «الليبرالي» ومخرج شريط «فتنة» بعد منعه من دخول أراضيها. القرار الذي تصدر الأخبار في بعض الأقطار الأوروبية الشمالية تطلب تأطيراً رسمياً، إذ علق المتحدث باسم وزارة الداخلية البريطانية على الموضوع بالقول إن «الحكومة تقف ضد التطرف بكافة أشكاله... وذلك كان القوة الدافعة وراء القوانين المشددة التي أعلنت عنها الوزارة في أكتوبر الماضي فيما يخص عمليات الطرد الناتجة عن سلوكيات غير مقبولة». لا يقود الحكومة البريطانية بالتأكيد حزب «طالباني»، ولا يمكن المزايدة على واحد من أقدم الأنظمة السياسية الديمقراطية الحديثة، وتصبح المزايدة عقيمة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالإشكالية المعقدة المتمثلة في التفريق بين حرية التعبير والتعبير عن الكراهية من خلال «الخوف» المفبرك لأي ظاهرة بشرية الذي هو مغزى أي «فوبيا» بما في ذلك الإسلاموفوبيا، إذ في مجتمعات الغاب وحدها يمكن القيام بخلط مماثل. حالة فيلدرز تحيل على ملف يحتاج وقفة، ليس في السياقات الدولية فحسب، بل أيضاً في بعض السياقات العربية التي انتعشت في العشرية الأخيرة. ولكنه قبل كل شيء يحيل على تاريخ الإسلاموفوبيا الراهن خاصة أنه تاريخ متعلق بالظرفية البريطانية بشكل محدد. بدأ وسط التسعينيات نقاش بريطاني حول الموضوع أخذ بعداً جديداً مع تقرير بعنوان «الإسلاموفوبيا: تحدٍّ لنا جميعا» صدر سنة 1997 لمركز البحث «وقف رنيميد» (Runnymede Trust) المؤثر خاصة في شؤون محاربة العنصرية. التقرير استعمل مصطلح «إسلاموفوبيا» بجدية كافية حتى يصبح واسع الانتشار، والأهم من ذلك حتى يصبح منذ ذلك الوقت مدرجاً ضمن التقارير الرسمية بما في ذلك في الخطاب الرسمي لوزارة الداخلية البريطانية. حدد التقرير «الإسلاموفوبيا» كما تجسمت في السياق البريطاني آنذاك، خاصة منه في جانبه الإعلامي، بأنها تحتوي ثمانية عناصر: الإسلام كتلة موحدة وجامدة ولا تستجيب للتغيير، ويقع النظر إلى الإسلام على أنه «الآخر» الذي ليس له بشكل جوهري أي نقاط مشتركة مع ثقافات أخرى، ويقع النظر إلى الإسلام كذلك على أنه أدنى مرتبة من «الغرب» فهو بربري وبدائي وغير عقلاني، يقع النظر إليه أيضاً على أنه عنيف ويغذي «الإرهاب» ومن ثم يغذي «صراع الحضارات»، وكذلك على أنه نظرية سياسية متكاملة، وعلى أن أي انتقادات تصدر عن الإسلام إلى الغرب يقع رفضها بشكل آلي، وأنه يقع توظيف الإسلاموفوبيا للتمييز ضد الأقليات المسلمة، وأخيراً أن العداء الموجه ضد المسلمين يقع التعامل معه على أنه أمر عادي. لكن التقرير أعلاه كان متفاعلاً مع ظرفية التمييز التي تتعرض لها الجاليات البنغالية والباكستانية بالتحديد، ولم يكن تصوراً محيطاً بكل الجوانب المتعلقة بالظاهرة في سياقات متنوعة. كان الموضوع هو بالتحديد النسخة البريطانية ل «الإسلاموفوبيا». وهكذا بدا أن تاريخ المصطلح وظروفه هي إلى حدود كبرى بريطانية. كما أنه تم توجيه انتقادات عموما للتقرير خاصة أنه فرض نوعا ما نقاشا من نوع «الأبيض أو الأسود» («مع الإسلام أو ضده») يتجاوز المساحات الرمادية التي يستوجبها نقاش أي ظاهرة دينية وتاريخية بهذا الحجم ترفض منهجياً أي تصور شمولي لها. النقاش البريطاني تواصل فيما بعد مع إصدار تقرير مكمل من قبل نفس المركز سنة 2004. حيث تشير الإحصائيات إلى تأثير النقاش البريطاني المفتوح حول الموضوع على طريقة معالجة الأوساط البريطانية لموضوع الإسلام: تزايد نسبة البرامج الإعلامية التي تغطي الإسلام إلى أكثر من %240 في حين أن %90 فقط منها يركز على السلبيات. غير أن هذه النسب تتعلق بالتأكيد بظرفية دولية جديدة وليست بريطانية فحسب بما في ذلك أثر هجمات 11 سبتمبر، كما أنها تأتي في سياق جدال أوروبي متصاعد حول المسلمين كمهاجرين وعلاقتهم بالمنظومة الديمغرافية والاقتصادية والفكرية السائدة. وهكذا فإن الإسلاموفوبيا كانت أيضاً في اتصال مع حراك أوروبي سياسي داخلي مرتبط بقوى اليمين والتي تعرف الإسلاموفوبيا ضمن نفس إطار الفوبيا ضد المهاجرين بشكل عام وضد المسلمين بشكل خاص. وفي هذا السياق يجب النظر بشكل خاص إلى أمثلة من أوروبا الشمالية بما في ذلك أزمة «الرسوم المسيئة» أو مواقف غيرت فيلدرز والتي تحتاج تفصيلاً أكبر فيما بعد. وهنا تحديدا تأتي أهمية التقرير الذي صدر سنة 2002 عن «المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية والكراهية ضد الأجانب» (التابع لمؤسسات الاتحاد الأوروبي) والذي أعطى طابعا أوروبيا للموضوع وأدخل من ثم المصطلح إلى الخطاب الرسمي الأوروبي. غير أن العلاقة الخاصة بين الإدارة الأميركية المتخلية والإسلاموفوبيا هي التي تحتاج بعض التدقيق. مر العالم في السنوات الفارطة بوضع سياسي وفكري دولي أسهم في تحديد اتجاهاته الموقع المؤثر لإدارة الرئيس بوش وبالتحديد لعقلها «النيومحافظ». ليس ذلك الأهم في هذا السياق، بل نمو خطاب الإسلاموفوبيا الذي ترافق مع هذا الوضع. العلاقة بين الخطاب «النيومحافظ» وخطاب الإسلاموفوبيا معقدة وليست بالوضوح الذي يمكن أن يفترضه البعض، فالإدارة الأميركية حرصت باستمرار على التموقع مشهدياً، من خلال الحضور في مناسبات دينية، في إطار يجعلها «تحترم ممارسة الشعائر الإسلامية»، كما أن علاقتها الاستراتيجية مع دول إسلامية وأهمية ومحلية الظاهرة الدينية الإسلامية في الولاياتالمتحدة تجعلها حذرة إزاء أي موقف إسلاموفوبي يأخذ طابعاً رسمياً. في مقابل ذلك كان النشاط الأيديولوجي لفريق «النيومحافظين» بشكل فرادى أو جماعات يصنع خلفية أخرى للإدارة المتخلية، بما في ذلك النشاط الذي لعبه مركز البحث ذو التأثير البديهي على إدارة الرئيس بوش «معهد المؤسسة الأميركية» (American Enterprise Institute) والذي عين ضمن قائمة «الزملاء الباحثين» فيه آيان هرسي علي وهي رفيقة فيلدرز في قيادة «الحزب من أجل الحرية» الهولندي والتي لا تختلف مواقفها في خصوص الإسلام عن مواقف فيلدرز. أستاذ «تاريخ الشرق الأوسط» في جامعة روتغرز العرب 2009-02-16