أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    المنتخب التونسي للبايسبول 5 يتوج ببطولة إفريقيا    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    عفاف الهمامي: المواظبة على التعلم تمنح كبار السن قدرات إدراكية تحميهم من الزهايمر    خطير: النوم بعد الحادية عشرة ليلاََ يزيد خطر النوبات القلبية بنسبة 60٪    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    شوف وين تتفرّج: الدربي ومواجهات الجولة 14 اليوم    التشكيلات المحتملة للدربي المنتظر اليوم    تعرفش شكون أكثر لاعب سجل حضوره في دربي الترجي والإفريقي؟    سحب وأمطار بالشمال وانخفاض طفيف في الحرارة    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    النواب يناقشو مهمة رئاسة الحكومة: مشاريع معطّلة، إصلاح إداري، ومكافحة الفساد    اختتام الدورة الثالثة للمهرجان الوطني للمسرح التونسي "مواسم الإبداع": مسرحية "الهاربات" لوفاء الطبوبي تُتوّج بجائزة أفضل عمل متكامل    الأربعاء المقبل / إطلاق تحدّي " تحدّ ذكاءك الاصطناعي" بالمدرسة العليا للتجارة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    تركيا: 6 قتلى في حريق بمستودع للعطور والسلطات تحقق    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    تشيلسي يصعد لوصافة الدوري الإنجليزي بالفوز على وولفرهامبتون    الأحد: أمطار رعدية والحرارة في انخفاض    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    منخفض جوي وحالة عدم استقرار بهذه المناطق    زيادة في ميزانية رئاسة الحكومة    وزارة الصحة: 1638 فحص أسنان: 731 حالة تحتاج متابعة و123 تلميذ تعالجوا فورياً    منتدى تونس لتطوير الطب الصيني الإفريقي يومي 21 و22 نوفمبر 2025    تونس تحتضن ندوة دولية حول التغيرات المناخية والانتقال الطاقي في أكتوبر 2026    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    من كلمات الجليدي العويني وألحان منير الغضاب: «خطوات» فيديو كليب جديد للمطربة عفيفة العويني    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    عماد الأمن الغذائي والمنظومة الإنتاجية .. الدعم لإنعاش الفلاّح وإنقاذ الفلاحة    الجولة 12 لبطولة النخب لكرة اليد :سبورتينغ المكنين وجمعية الحمامات ابرز مستفيدين    دعوة الى رؤية بيئية جديدة    رئيس الجمهورية يكلّف المهندس علي بن حمودة بتشكيل فريق لإيجاد حلول عاجلة في قابس    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    ألعاب التضامن الإسلامي – الرياض 2025: فضية لجميلة بولكباش في سباق 800 متر سباحة حرة    ربع التوانسة بعد الأربعين مهدّدين بتآكل غضروف الركبة!    الرابطة الثانية – الجولة 8 (الدفعة الثانية): النتائج والترتيب    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    البنك المركزي: نشاط القطاع المصرفي يتركز على البنوك المقيمة    عاجل: من مساء السبت والى الأحد أمطار رعدية غزيرة ورياح تتجاوز 90 كلم/س بهذه المناطق    الدورة الاولى لمهرجان بذرتنا يومي 22 و23 نوفمبر بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس    عاجل/ محاولة اغتيال سفيرة إسرائيل بالمكسيك: ايران ترد على اتهامها..    هام/ الهيئة الوطنيّة للوقاية من التعذيب تنتدب..#خبر_عاجل    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    بايدن يوجه انتقادا حادا لترامب وحاشيته: "لا ملوك في الديمقراطية"    جلسة عمل بوزارة الصحة لتقييم مدى تقدم الخطة الوطنية لمقاومة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية    أمطار بهذه المناطق خلال الليلة المقبلة    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    عاجل: حدث نادر فالسماء القمر يلتقي بزحل ونبتون قدام عينيك..هذا الموعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفتوى والفتيا.. تجربة حياة : د. طه جابر العلواني
نشر في الفجر نيوز يوم 28 - 04 - 2009

في القرآن المجيد جاء قوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) سورة النساء: 127، وقوله تعالى: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ) سورة الصافات: 11، وفي السورة نفسها (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) سورة الصافات: 149.
كما جاءت بصيغة ( أفتوني ) في حكاية القرآن المجيد لما قالته ملكة سبأ: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) سورة النمل: 32.
كما جاء في آيات كريمة أخرى، فعلى السؤال بصيغة "يسألونك" في مواضع عديدة منها قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ) سورة البقرة: 189، (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ) سورة البقرة: 215 ، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) سورة البقرة: 217، )وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) سورة البقرة: 220، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) سورة البقرة: 222، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) سورة الإسراء: 85.
وجاء بصيغة "سأل" نحو قوله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) سورة المعارج:1، وبصيغة "سألك" نحو قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) سورة البقرة: 186.
ومن المتفق عليه بين غالبية المعنيين بعلوم القرآن أن القرآن المجيد لا تكرار فيه ولا ترادف، وإن لكل كلمة فيه معنى يختص بها، والسؤال والاستفتاء يشتركان في أن لكل منهما دلالة على طلب معرفة، لكن السؤال أعم من الاستفتاء؛ فالسؤال يمكن أن يكون عن حكم، ويمكن أن يكون عن غيره، مثل السؤال عن الأهلة وعن الروح، أما الاستفتاء فإنه مختص بالسؤال عن حكم بشيء أو على شيء.
كما أن الاستعمال القرآني لمادة "الفتوى" ينبه إلى دقة وأهمية ما يستفتى عنه، فكأنه سؤال عن أمور تدق عن كثير من الأفهام والعقول، وحين أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم– باستفتاء المشركين عن مصدر خلقهم وطبيعته فإنها بذلك قد ضمنت التعريض بهم والسخرية منهم مقابل السخرية التي كانوا يواجهون بها الآيات المنزلة على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – وهذا يبينه سياق قوله تعالى: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ) سورة الصفات: 11.
وكذلك سياق قوله تعالى: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) سورة الصافات: 149، فقد كان المشركون يؤكدون أن الملائكة إناث دون آية أمارة أو دليل على ذلك، فهم لم يشهدوا على خلقهم ولم يعرفوا أحدا منهم ولم يروا الملائكة لكي يحكموا عليها بأنهم إناث، ومع ذلك فهم يعلنون هذه الآراء والأحكام السخيفة ويجاهرون بها ويعتقدون أنها جزء من المسلمات، وعلى ذلك فهو استفتاء إنكاري ساخر وتعريفي يعرّض بجهلهم وغبائهم واعتمادهم فيما يعتقدون أو يقولون على التخرصات والظنون والأوهام، وكل من الاستفتاء والسؤال أداة ومدخل للتعلم بطريق الاستفهام من الغير؛ كل بحسبه.
والله – تبارك وتعالى – قد نهى عن بعض أنواع الأسئلة في عصر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – ونزل القرآن فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ) سورة المائدة: 101-102.
ولرأفة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – ورحمته بالمؤمنين نهاهم عن الإكثار من الأسئلة، فقال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"، رواه أحمد والنسائي ومسلم وابن ماجه.
أما قوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) سورة النحل: 43، (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) سورة الأنبياء: 27، فليس المراد بها في أي من الآيتين ما اقتبسه البعض شعارا لبرامج الإفتاء وحمله البعض على الأسئلة الفقهية، وطلب العامي من الفقيه إخباره أو إعلامه بالحكم الفقهي لواقعة بجهل العامي حكمها الفقهي، إذ إنها في الموضعين جزء من آية جاء فيها: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) سورة النحل: 43.
إن الرسل رجال من البشر اصطفاهم الله لحمل رسالاته إليهم وليسوا ملائكة، ورسول الله محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – ليس بدعا من الرسل، فهو بشر مثلكم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وبشريته لا تنافي اصطفاءه نبيا ورسولا، فاسألوا سائر الأمم السابقة لكم من الذين أرسل الله إليهم رسلا وأنزل عليهم كتبا أو صحفا؛ لتعلموا أنه لم يكن أحد من رسل الله إلى الناس من غير النوع البشري، فكلهم بشر مثلكم، ومثل أقوامهم.
وتعلل الكفار والمشركين ببشرية الرسل لرفض الإيمان بهم شبهة ألقاها الشيطان إليهم ليدفعهم نحو الغرور بهذه الشبهة وتسويغ رفضهم للإيمان بالنبوات بحجة أنهم ما داموا بشرا مثل أقوامهم الذين أرسلوا إليهم فلماذا يميزهم الله عن سائر البشر باصطفائهم برسالته وبكلامه؟! ولذلك فإن في هذا الاقتباس الذي أخذ البعض منه وجوب استفتاء العوام للفقهاء فيه إخراجا للآية من سياقها وتحملها معنى لا تحمله إلا بتكلف، وتكريس العقلية التقليد التي وردت آيات وأحاديث لا تحصى في ذمه، والتحذير منه، فالأصل في التدين "الاجتهاد" لا "التقليد"(1 ).
ولذلك فقد اختلف العلماء في كثير من مسائل التقليد مثل عدم جواز الفتوى بما يحكيه عن الغير من المجتهدين خاصة الموات منهم، وفي النقل عن المجتهدين الأحياء خلاف –أيضا– إلا إذا توفرت شروط دقيقة.
ومما مر يمكنا القول بأن "الاستفتاء":
طلب "الفتوى" من مرجع له أن يفتي لمن لم يستطع الوصول بجهده واجتهاده إلى معرفة حكم شرعي أو فقهي في واقعة أو نازلة أو حادثة هو في حاجة إلى معرفة حكمها الفقهي.
وأما "الفتوى":
فهي -لغة–: "بفتح الفاء والواو أو بالياء فتضم الفاء الإبانة في اسم من أفتى العالم السائل إذا بين له الحكم الفقهي. ويقال: أصله من "الفتى" وهو الشاب القوي واستعير لما يحدثه ويبينه المفتي للسائل من جواب، فهو مجاز بعلاقة الحداثة أو القوة الناجمة عن إيضاح المفتي (1 ). وذلك بأن السؤال يجب أن يصاغ بقوة وجد وكذلك الجواب ينبغي أن يتسم بالقوة والجد اللازمين للتعامل مع فقه الدين والتدين.
تعريف الفتوى اصطلاحا:
هي الجواب عما يشكل من الأحكام الشرعية(2 ) ففي التنزيل [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ] (سورة النساء 127)، و [فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا] (سورة الصافات 11) وهنا استعملت في سؤال المشركين عن مصدر خلقهم وطبيعته، لتتضمن نوعا من السخرية بهؤلاء المشركين الذين يواجهون رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم– بالسخرية، ويواجهون الآيات المنزلة عليه والآيات التي يريها لهم بتكلف السخرية والتظاهر بها، فحين يؤمر الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم– باستفتائهم: أهم أشد خلقا أم من خلق الله من غيرهم؟ ثم يعجل لهم بالإجابة: [إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ] (سورة الصافات 11). ثم يعاد الأمر [فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ] (سورة الصافات 149) ليبين لهم بذلك مدى سفههم، فهم لا يسألون إلا لتفريعهم وبيان سخف دعواهم الباطلة وافتراءاتهم.
وفي ( سورة النحل 32 ) [ قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ] طلبت منهم الرأي والمشورة والنصيحة لتتخذ الموقف الملائم تجاه رسالة سليمان وإنذاره لها ولقومها.
أو: هي الإخبار بحكم الله -تعالى- أو حكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- في نازلة سأل المخبر عن حكمها.
و"المفتي": هو المخبر بحكم الله -تعالى– أو حكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- لسائله عنه.
واعتبر معظم الأصوليين أن "المفتي والمجتهد" مترادفان من حيث المعنى لتساويهما في الشروط (1 ) ولكن هذا لا يعني "أن الاجتهاد والفتيا" مترادفان؛ فالفتيا: ثمرة الاجتهاد وفرعه (2 ).
الفتيا والفتوى في أمريكا
حين قمنا وبعض أصدقائنا بتأسيس "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" وقررنا التفرغ للعمل فيه كانت هناك "لجنة فقهية"؛ كان قد أسسها "اتحاد الطلبة المساعدين" هناك، ثم صارت اللجنة نفسها "لجنة الفقه" في "الاتحاد الإسلامي لأمريكا الشمالية - إسنا".
فكانت هذه اللجنة التي تتألف من خمسة أو أكثر من المتخصصين في الدراسات الإسلامية تعمل على الإجابة عما يصل الأمانة العامة للاتحاد في المرحلتين: مرحلة " m. s. a " ثم "إسنا". ويلجأ المستفتون إليها بإرسال رسائل تشتمل على المسائل التي يستفتون فيها أو يتصلون تلفونيا ببعض أعضاء "اللجنة الفقهية" ليحصلوا على الجواب، أما المساجد والمراكز التي كان فيها أئمة لديهم معرفة بالفقه فإن روادها يغلب أن يلجئوا إلى أولئك الأئمة للحصول إلى إجابات عن استفتاءاتهم.
وحين تعددت المؤتمرات واللقاءات التي نشطت بعد سبعينيات القرن الماضي في أمريكا صارت تلك المؤتمرات كثيرا ما توجه الدعوة إلى جامعات ومؤسسات إسلامية في العالم الإسلامي، لترسل مندوبين يغلب أن يكونوا من الدعاة أو المتخصصين في الدراسات الإسلامية، فبدأت ظاهرة تقديم ندوات فقهية يجلس فيها فقهاء من أعضاء اللجنة الفقهية أو من الضيوف ليجيبوا على الاستفتاءات الفقهية للحضور والمشاركين في تلك الملتقيات.
وكانت جل الأسئلة التي تدور في تلك الحلقات تدور حول "الهلال والحلال" أي: "إشكالية بدء الشهور القمرية" لتحديد بدء الصيام والفطر وتحديد عيد الأضحى.
وأما "الحلال": فهو السؤال العتيد الذي لم يخل منه مجلس من تلك المجالس لبيان جواز أو عدم جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب. وهناك أسئلة أخرى مثل "العمل في المحلات التي تباع فيها المحرمات" مثل "7 – 11" ونحوها، والاقتراض من البنوك لشراء بيوت السكنى، وسيارات الاستعمال الخاص. وأداء صلوات الجمع والعيدين في الكنائس إذا لم تكن هناك مساجد أو مراكز إسلامية.
ودفن المسلم في مقابر النصارى إذ لم يكن بالإمكان إيجاد مدافن خاصة بالمسلمين، وجمع بعض الصلوات لمن لا يستطيع أن يؤدي الصلوات خاصة الظهر والعصر في أوقاتهما لظروف العمل والانتقال. وربما يثير بعض الداخلين حديثا في الإسلام أسئلة حول علاقاتهم بذويهم وأسرهم، وهل يرثونهم أو يورثونهم؟.
وقد أحصيت ثلاثين سؤالا كانت مدار استفتاءات المجتمع المسلم في أمريكا، وقد حملني اجتهادي على إرسال تلك الأسئلة إلى لجان الفتوى في العالم الإسلامي وكبار المراجع من المذاهب الإسلامية المختلفة. وأرسلت بنسخة منها إلى "مجمع الفقه الإسلامي الدولي" التابع "لمنظمة المؤتمر الإسلامي" في جدة، والذي أتشرف بعضويته.
فأجاب المجمع عن بعض تلك الأسئلة، وأجل البعض من دورة إلى أخرى إلى أن أصدر قراراته بالإجابة عنها. بعد ثلاث سنوات من عرضها عليه كما تلقيت ردودا من بعض مجالس ومراجع الفتوى عن بعض تلك الأسئلة منهم "الإمام الخوني، والمنتظري، ومفتي جمهورية مصر" وغيرهم.
رئاستي للمجلس الفقهي
في عام 1988م كلفت بتسليم مهام "الفتوى وتطوير اللجنة الفقهية"، فبادرت لتأسيس "مجلس فقهي مستقل" يستطيع العمل على خدمة المجتمع المسلم في أمريكا وكندا، وبدأت الاتصال بأفضل من أعرف من المتصدين للفتوى والعمل الفقهي في أمريكا وكندا، ودعوت الجميع للقاء موسع في "فرجينيا"، وبدأنا بإعداد اللوائح والنظم المطلوبة لتشكيل مجلس يكون مرجعية "للمجتمع المسلم" في أمريكا الشمالية وكندا، وبلغ عدد المرشحين لعضوية المجلس للمرة الأولى خمسة وعشرين مرشحا مثلوا مختلف المذاهب الإسلامية التي لها وجود دائم في البلاد، ولأول مرة يضم المجلس علماء وفقهاء من السنة والشيعة يعملون جنبا إلى جنب.
ولأول مرة كذلك ضم المجمع بعض السيدات المشهود لهن بالفقه والمعرفة بالدراسات الفقهية أصولا وفروعا؛ وقبل أن ينطلق المجلس باتجاه أهدافه برزت مجموعة من السلبيات حيث بدأ بعض التيارات الراغبة في الامتداد والانتشار ووضع اليد على كل ما ينسب إلى الإسلام أو ينتسب إليه بالنشاط بعد غفلة أو سبات وإذا بها تتصدى لمناقشة بعض فتاوى المجلس والرد عليها، واتهام المجلس بالتساهل، وربما العمل على فصل المجتمعات الإسلامية في الغرب عن عمقها الإسلامي. ومن الفتاوى التي اعتبرت من فتاوى التساهل: ما سميته "بفتوى الصيعان".
وذلك عندما أصدرنا فتوى تبنينا بها مذهب الإمام أبي حنيفة "ت 150 ه" -رحمه الله تعالى- وغيره من العلماء في جواز دفع زكاة الفطر نقدا، بدلا من "غالب قوت البلد" وإذا بملحق في إحدى السفارات الإسلامية بواشنطن يعلن حرمة دفع "زكاة الفطر" نقدا، ووجوب دفعها من القمح أو الأرز أو الزبيب أو التمر، وعلى أن تكال كيلا بالصاع، وزاد على ذلك بأن استورد "بعض الصيعان" وقام بتوزيعها على بعض مساجد المنطقة، ليجلس بعض الشباب وبين أيديهم أكياس من الحنطة والأرز يكيلونها بصاع أحيط بمجموعة من الأسلاك لتحفظ خشبه المتهالك، وقيل للناس: هذه هي السنة، ولم يقبل الفقراء على أخذ شيء من تلك الصيعان، والذين أخذوا شيئا منها ألقوا به في أقرب حديقة، طعاما للطيور.
ونشر هؤلاء فتاوى أخرى، منها "تحريم التجنيس بالجنسية الأمريكية أو الغربية" بصفة عامة بناءً على فتوى لأحد رجال الفتوى في الشرق بعد أن وضعوا الاستفتاء له بصيغة أشعرت المفتي الفاضل بأن حمل جنسيات هذه البلدان يفقد المسلم المتجنس الالتزام "بعقيدة الولاء , البراء" ولما كثرت الطلبات على السفارة التي كان هؤلاء يعملون فيها بأن آلافا من المسلمين الذين يحملون هذه الجنسيات لا مانع لديهم من التخلي عن جنسياتهم تلك، إذا منحوا جنسيات بديلة من ذلك البلد أو أي بلد إسلامي، يعطي هؤلاء المواطنين فرصا للكسب والعيش؛ مثل الفرص التي لديهم في أمريكا وكندا وأستراليا وأوروبا. فإذا بتلك الإدارة تسحب الفتوى المذكورة.
ثم تتابعت الفتاوى المتشددة، منها فتوى "تحريم أكل التركي، أو ما يعرف بعلي شيش أو الفسيفسي - شيش طاووك" في عيد الشكر.
--------------------------------------------------------------------------------
فقيه أصولي.. رئيس جامعة قرطبة بالولايات المتحدة الأمريكية، ورئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي سابقا.
( 1 ) - وذلك لأن التقليد عبارة عن " قبول قول الغير بلا حجة ولا دليل " على ما في أحكام الأحكام للآمدي ( 4 / 221 ) ط. الرياض، والمستصفى للغزالي ( 2 / 387 ) وبهامشه مسلم الثبوت ( 2 / 400 ) وجمع الجوامع وشرحه بهامش الآيات البيانات ( 4 / 161 ) وإرشاد الفحول ( 234 ) والتعريفات ( 57 ) وقد نص الرازي في المحصول ( 6 /93 ) على أن الأمة اجتمعت على أنه لا يجوز تقليد غير المحق، وذلك يعني أن على العامي معرفة الدليل، ووجه الاستدلال به. ومن العلماء من أوجب على المقلد الاجتهاد في اختيار المجتهد الذي يقلده.
( 1 ) - انظر المصباح 631 – 632.
( 2 ) - انظر مفردات الراغب 373 ومعجم ألفاظ القرآن ( 2 / 314 ).
( 1 ) - انظر : أصول مذهب الإمام أحمد 653.
( 2 ) - انظر أدب القاضي ( 1 / 264 - 265 ).
مدارك
/ 28-04-2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.