ميرفت أبو جامع من غزة الفجرنيوز لا تزال نحو خمسة آلاف أسرة بقطاع غزة تعيش التشتت بعد أن فقدت المأوى عقب الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة أواخر ديسمبر العام الماضي , مع الحاجة إلى 20 ألف وحدة سكنية لإيواء مشردي الحرب . و مع إغلاق المعابر أمام دخول مواد البناء الأساسية على القطاع تتفاقم معاناة المواطنين مما يدفع باتجاه إيجاد حلول بديلة من اجل إعمار ما تهدم . و كانت أولى المحاولات لجوء بعض الغزيين إلى بناء بيوت من الطين بعد خلطة بمادة "التبن" على غرار البيوت الريفية الفلسطينية القديمة من اجل التغلب على أزمة عدم توفر مواد البناء، إلا أن هذه المحاولات الفردية "ذات الطابع العشوائي" وبشهادة خبراء ليست آمنة لتحمل ظروف الحياة والأحوال الجوية المختلفة كما لا تمنح إمكانية استخدامها في إطار توفير نمط معماري منظم في إطار خصائص هندسية تلبي حاجة الفلسطينيين في ظروفهم الصعبة للمسكن المتميز واللائق. لكن و قبل عام انشأ مجموعة من المهندسين الفلسطينيين مؤسسة متخصصة لعمارة التراث وهي مؤسسة مستقلة ومتخصصة أخذت بعين الاعتبار خلق بدائل طبيعية متميزة للتغلب على شح مواد البناء التقليدية وخاصة مادة الاسمنت والممنوعة من دخول لقطاع غزة بفعل الحصار المضروب منذ أكثر من عام ونصف على فلسطيني القطاع، مما عطل بناء العديد من المؤسسات والمنازل للمواطنين وأوقف الكثير من المشاريع والإنشاءات. ويقول عماد الخالدي رئيس مجلس إدارة مؤسسة عمارة التراث لايلاف: " إن استخدام الطين في البناء لم يكن وليد المرحلة الحالية فهو ضارب في عمق التاريخ , فغزة مثلا و قبل أعوام قليلة أقامت بنائين من الطين الني ومدعم بالخرسانة والاسمنت و لكن توجهنا الحالي هو خلق بدائل من المواد الطبيعية في إطار خصائص هندسية وعمارة قادرة على مواجهة عوامل الحصار وشح المواد من جهة وعوامل الثقافة العصرية من جهة أخرى إضافة لعوامل التميز للبناء الطيني مقارنة بالبناء البوتوني التقليدي العصري لذلك نرى أن المحاولات السابقة أو الفردية التي ظهرت بعد الحرب هي محاولات طبيعية ولكنها ليست مؤهلة لان يستفاد منها في إطار ما نحن بصدده من إقامة مشاريع بديلة من العمارة الطينية المنظمة وذات الخصائص الهندسية المعمارية الملائمة والتي تضاهي بجمالها ومتانتها وجدواها الاقتصادية العمارة الأخرى " . ويشار إلى أن مادة الطين قد عرفها واستخدمها الإنسان منذ (7 - 9) آلاف عام قبل الميلاد وأضحت اليوم من أهم مواد البناء الأساسية وصلب الصناعات الحديثة ،وشيد منها حضارات لازالت تصدع ولم تتأثر بالعوامل الطبيعية كحضارة حضر موت باليمن . وكان العالم الأوروبي كوينتروكس عام 1790م قد قال في ذلك: «ليس هناك أرخص من المسكن الطيني، الطين الذي يضع كل المواد جانبا، إنه الوحيد الذي يمكن البناء به في كل مكان وفي جميع البلاد، إنه هبة الله لجميع الشعوب». ولم تعد اليوم مادة الطين متخلفة عن ركب الحضارة وتطورها،كما يعتقد البعض بل إن هناك دولا كبرى تسير سيرا حثيثا نحو مكننة هذه المادة وتطويرها مثل فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، أمريكا، روسيا، وغيرها أيضا من الدول النامية التي استوعبت أهمية تلك المادة الرخيصة والمتناسبة صحيا مع جسم الإنسان وبيئته. ويقول الخالدي :" في بدايات العام 2008 ومع اشتداد الحصار على قطاع غزة ،تقدمنا لدى الحكومة الفلسطينية بمشروع لبناء حي نموذجي تراثي باستخدام تقنيات الطين المضغوط ، وذلك لكل من سلطة الأراضي والتخطيط والاقتصاد، لكي يتم تأمين قطعة ارض حكومية لعمل المشروع وتمت الإجراءات في اتجاه توفير قطعة ارض في جنوب قطاع غزة خاصة منطقة المستوطنات المخلاة، ضمن تحديدات الخارطة الإقليمية الخاصة بالقطاع والنموذج عبارة عن بناء 130 وحدة سكنية مكونة من طابقين، ومع كافة مرافقها الأساسية للحي من مدرسة وعيادة وغيرها ،ولكن الحرب على غزة عطلت تنفيذ المشروع من ناحية ومن ناحية أخرى دفعتنا إلى طرح مشروع لبناء وحدات سكنية عاجلة للمتضررين بالحرب وفيها كافة مستلزمات المسكن الطبيعي ." وحول أبرز ما يميز البيوت الطينية عن غيرها من البيوت الإسمنتية يشير الخالدي إلى أن البناء الطيني اقل عرضه للهدم خاصة في حالات الزلازل والعوامل الطبيعية فضلا عن انه يقاوم الرصاص ، كما أوضح أن هذا البناء يمثل عنصر نجاة لسكانه بنسبة 70% من حالات الهدم والتعرض للكوارث الطبيعية إضافة إلى أن العناصر الطبيعية الموجودة بالطين لا تفقد خصائصها مع مرور الزمن بعكس البيوت المصنوعة من الاسمنت الذي يبدأ فقد تماسكه بعد 50 عاما من إنشائه كما أوضحت بعض الدراسات. و سرعة إتمام البناء ميزة أخرى فإنشاء وحدة سكنية واحدة بمساحة 100 متر مربع من طابقين في إطار خط إنتاج مفتوح ومتكامل تحتاج إلى 25 يوم فقط. وحول خطوات تنفيذ المشروع قال الخالدي :" بدأنا من شهر فبراير الماضي بإعداد اختبارات خاصة بالتربة الصالحة للمشروع وقمنا بفحص الترب الطينية في قطاع غزة من نحو 20 منطقة من القطاع تحوي التربة الطينية حيث تم تحديد منطقة تواجد التربة الملائمة والمؤهلة لان تستخدم في البناء وهي متوفرة بكميات جيدة تساعد على تلبية حاجة المشاريع المختلفة دون التأثير السلبي على القشرة الأرضية الزراعية ، ثم قمنا بتصنيع الماكينات الخاصة لضرب الطوب في إطار قياس خاص لاستخراج بلوك طوب طيني منتظم وبمواصفات ضغط وخصائص مطلوبة لعمارة هندسية مؤهلة للاستخدام والعيش اللائق، وذلك بعد إجراء كافة الدراسات الهندسية الخاصة بصناعة الماكينة ". وأشار الخالدي أن فريقه انتهى من تصنيع أول ماكينة لضرب الطين تعمل بالضغط اليدوي وأنهم الآن يسيرون في إطار خطوات الانتهاء من تصنيع الماكينة الميكانيكية لضرب الطين المضغوط بتقنية الضغط الهيدروليكي . ومن اجل تبادل الخبرات في تقنية البناء بالطوب المضغوط تم التواصل و منذ بداية المشروع مع خبراء ومهندسين من العرب والأوروبيين منهم المهندس المصري رامي الدهان وهو من تلامذة المهندس حسن فتحي أول من أحيا فكرة استخدام التربة الطبيعية في البناء في منطقة النوبة بمصر ، وأنشأ مدينة السلام في أمريكا ، فضلا عن مهندس فرنسي ومهندسة هندية وخبرات من اليمن و الذين بدورهم أبدوا "اهتماما كبيرا وتشجيعا و استعدادا لمد يد العون " كما قال الخالدي . وعن أهمية المشروع لسكان غزة يقول الخالدي : " سيفتح المشروع المجال لنحو 3000 من الأيدي العاملة للعمل في المشروع خاصة من العمال المتضررين بالحرب و30 مهندس " ,لافتا إلى أن تكلفة البناء الطيني سيكون تقريبا اقل بنسبة 45% في إطار التشطيب من البناء الإسمنتي و60 % في إطار البناء الهيكلي. ويلفت الخالدي أن مؤسسته تشرع حاليا في بناء نموذج من المشروع بتقنية الطين المضغوط على مساحة دونم كوحدة سكنية واحدة لتحقيق وتطبيق اختبار تقنية الطين المضغوط على ارض الواقع ومن ثم الانتقال بعد ذلك لتنفيذ المشروع في إطار تامين وحدات سكنية لائقة لمتضرري الحرب والمرافق العامة المختلفة الأخرى، حيث سيكون النموذج مكتملاً في غضون شهر واحد. أما عن التحديات أمام هذا المشروع يبتسم الخالدي ذو الطبيعة الهادئة قائلا :" الفكرة بحد ذاتها تحد كبير لنا ولظروف غزة المعقدة ، لكني لا أتوقع أن يعرقل أي طرف فلسطيني أي جهود بهذا الاتجاه ، ويضيف :" نتوقع الدعم والمساندة لنا من كافة الأطراف في غزة والضفة الغربية على قاعدة أن إعادة اعمار ما تهدم هو مطلب شعبي وحاجة ملحة لمن تهدمت بيوتهم" ودعا الخالدي كافة الأطراف الفلسطينية إلى تسهيل الإجراءات للإسراع في تنفيذ المشروع ودعم كل المحاولات و المبادرات التي يتم تقديمها كبدائل لكسر جذوة الحصار و الخروج من الأزمة الإسكانية التي يعاني منها القطاع .