في سابقة خطيرة قرر الإكليروس العلماني المهيمن على شئون الثقافة المصرية أن يمنح مجلة إبداع عفوا كهنوتيا شاملا باعتبار أنه "لا تضر مع التنوير معصية". القرار صدر بإجماع أعضاء المجمع العلماني غير المقدس برئاسة "الشاعر السابق" أحمد عبد المعطي حجازي، وبمقتضاه تقرر أن تصدر مجلة إبداع المحكوم بإيقافها بحكم قضائي تاريخي واجب النفاذ صادر عن محكمة القضاء الإداري. لكن الإرادة غير المقدسة للمجمع هي فوق الدستور وفوق أحكام القانون، وكما أن الدستور ينص على جعل الشريعة الإسلامية مرجعية تعلو على الدستور، فإن هناك من يرى أن "الشريعة العلمانية" تعلو على الدستور والقانون!! إننا أمام تطرف علماني أهوج يصر على تحويل السجال الإسلامي العلماني من الرؤى إلى العقائد، أي جعله صراعا دينيا، وهم يحولون العلمانية إلى دين ثم يملأون الدنيا صراخا وعويلا عندما يكون مسلكهم الملتوي موضوع إدانة من الشرع أو القضاء. وهذه الممارسات المنحطة لها سوابق، فعندما أصدر القضاء حكمه التاريخي بالتفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته تعرض القاضي لهجمات "تكفيرية علمانية"، والخطير أن هذا الورم التكفيري العلماني يتضخم في الواقع الثقافي المصري دون أن يتدخل أحد لاستئصاله، وقد أثبتت التجربة أن كل المتاجرة المفضوحة بالخوف على الدولة المدنية من "الإسلاميين المتوحشين"، كان مجرد تلاعب وتحريض مجاني أهدافه سياسية، أو بتعبير أكثر صراحة أهدافه أمنية غير نظيفة! فالجوقة التي استأجرتها الدولة لتقوم في معركة التعديلات الدستورية باللطم والنواح على الدولة المدنية التي يوشك الإسلاميون الظلاميون على هدمها، إذا بهم هم أنفسهم بأسمائهم وبأشخاصهم يدوسون بتجرؤ مذهل على الدولة ودستورها وقانونها وكرامة قضائها!! وهذا مؤشر على موقف العلمانيين المصريين الحقيقي من قضية الديموقراطية وفي أي صف يقفون، ولمن بالضبط يريدون الحرية؟ والأمر أمر جد لا هزل وما لم تثبت الدولة أنها راغبة دون مواربة أو لف أو دوران على تأكيد احترام القضاء وسيادة القانون وحفظ كرامة القضاء، فإن النتائج ستكون خطيرة، لأن القضاء ليس جزءا من توازنات الصراع الدائرة على روح مصر وهويتها منذ عقود، ولا يجوز أن يكون. واحترام أحكامه لا يجوز أن يكون موضوعا للانتقاء ولا التأويل. وإذا كانت العلمانية قد تحولت إلى دين له شريعته التي يريد له البعض أن تعلو على مرجعية الشريعة والاحترام الواجب للدستور والقانون، فلماذا لا يذهب العلمانيون المتطرفون للقضاء طالبين الاعتراف بهم كطائفة دينية؟ وإذا كانوا غاضبين من حكم الشريعة، ومصدومين من حكم القضاء، وحانقين على من قرروا اللجوء للتقاضي وهو طريق سلمي وقانوني للنزاع؟ فما الذي يرضيهم؟ وكيف يمكن التعايش مع فئة لا تقبل إلا وضع قناعاتها الشخصية موضع المقدس الذي لا تجوز مناقشته ولا تقييمه ولا تقويمه... ويصرون فضلا عن ذلك على فرض هذا القناعات بلغة تبشيرية مستفزة عبر وسائط تمول بأموال دافعي الضرائب وتملكها الدولة وتديرها لحساب مواطنين متدينين؟ وما الفرق بين "شرفة ليلى مراد" والرسوم الدانماركية المسيئة؟ ولماذا تحركت الدولة في أزمة الرسوم المسيئة معترضة بصوت مسموع، بينما تصمت في هذه القضية؟ إن المبدأ لا يتجزأ واحترام المقدسات الدينية واجب دائما، واختلاف الموقف من الإساءة باختلاف جنسية من صدرت عنه الإساءة موقف عنصري مرفوض، فلماذا تكلمت الدولة عندما أساء "دانمركي" للرسول وصمتت عندما أساء مصري للذات الإلهية؟ والضحية التي لا يبكي عليها أحد في هذه المعركة غير المجيدة التي أشعلها حلمي سالم وبالغ في تصويرها كما لو كانت معركة شجاعة وحرية ومصير وكينونة...إلى آخر الادعاءات الفارغة، هو الإبداع الذي أصبح ساحة مستباحة لنفخ السموم الأيديولوجية، فلا "التهريج المنمق" الذي كتبه حلمي سالم يستحق أن يسمى شعرا، ولا الدفاع الذي تطوع به كتبة وأشباه نقاد انحيازا إلى موقف حلمي سالم يدخل في باب التقييم النقدي أو التحليل الفكري، لكنه في معظمه يدخل في باب النزق واللدد والفجر في الخصومة الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور عن علامات النفاق. وقد قرأت المقال الذي نشره حلمي سالم في جريدة الحياة اللندنية (15 /4 /2009) "يتبرأون من القصيدة... ويعبرون فوق جثة الشاعر"، وعجبت من قدرة حلمي سالم على الاستمرار في خداع النفس كل هذه السنوات، فهو أعلم الناس بأن هذه المناحة ليس فيها جثة ولا... ...شاعر"!!! كاتب مصري*