خبير ومحلل عسكري لا يمكن فهم المغزى الحقيقي للمناورات الاسرائيلية واستعدادات الجبهة الداخلية الشاملة بمعزل عن سياقها السياسي والظروف الاسرائيلية الداخلية وتأثرها بالمتغيرات الدولية والاقليمية، في السابق كانت القيادة الاسرائيلية تتخذ قرار الحرب وتبلغه للحليف الأمريكي الذي كان يبدي بعض التحفظات والملاحظات على شكل الحرب وليس مضمونها، وهذا غير متوفراليوم لاسرائيل، حيث ما صدر عن الادارة الامريكية والرئيس الامريكي باراك اوباما يؤشر على تغير جوهري في التفكير الاستراتيجي الامريكي فيما يتعلق باستخدام القوة العسكرية، وهو بالتأكيد محصلة لتجارب الماضي والاستنتاج بعدم نجاعتها، والتوصل لقناعة بأن هذه الحروب الأمريكية (العراق وأفغانستان) ومعها الحروب الاسرائيلية (فلسطين ولبنان) لم تجلب لهم سوى الويلات والاحقاد، وهم بحاجة الى الخروج من مآزقها وليس الدخول في حروب جديدة بل ويسعون لتحسين صورة الولاياتالمتحدة وتخفيف التوتر بين الدول يعزز ذلك المحادثات الامريكية الروسية للإ تفاق على تخفيض الترسانة النووية في كلا البلدين، وهذا يحد من القدرة الاسرائيلية على شن الحرب بدعم امريكي، إلا اذا قررت ان تخوضها منفردة، وهنا ستواجه القيادات الاسرائيلية معاضل أخرى (عسكرية وسياسية) منها ما يتعلق بقدرات الجيش الاسرائيلي وكفاؤة جنوده القتالية التي شابها الكثير من نقاط الضعف والتراجع في حروبهم الشاملة النظامية والتقليدية ضد المجموعات الفدائية وحرب العصابات وبدعم عسكري وسياسي امريكي كامل، فكيف يكون الأمر حينما تخوض اسرائيل الحرب بدون هذا الدعم، وما زال مثل حرب رمضان عام 1973 ماثل في الأذهان وكيف تمكن الجندي المصري والسوري بدعم من أخيه العربي من اقتحام خط بارليف الحصين والوصول الى مشارف طبريا، وفي وصفه لهذه الحرب قال شارون في كتابه الذي نشر فيه مذكراته عن هذه الحرب وتحت عنوان عبور القناة "كان يوم الثامن من تشرين أول(اوكتوبر) كارثة حقيقية وكابوسا لرجال الدبابات" وجاء الإنقاذ لاسرائيل بالدعم الأمريكي اللامحدود خاصة في مجال التزويد بالعتاد والسلاح وتعويض النقص أو بالتقنيات الحديثة ووسائل جمع المعلومات الميدانية ومواقع نشر القوات بالأقمار الصناعية والسيطرة على مسرح العمليات ، وما يزيد الأمر تعقيدا هو تغير نظرة الجندي العربي لكفاؤة الجندي الاسرائيلي والهالة التي كانت تحيط به وأنه لا يقهر، كما تعلم كيف يستعيض في تحضيراته واستعداده للحرب على التفوق الاسرائيلي الجوي والبري والبحري، واصبح هناك إضافة للفدائي (الذي برهن على جدوى نمط حرب العصابات) جنديا متدربا على خوض الحرب الحديثة المتحركة بالخطط المرنة لتجاوز التفوق الاسرائيلي المطلق ، لذلك تدرك القيادة الاسرائيلية ان أي حرب قادمة أو عدوان ستشنه بمعزل عن الدعم الأمريكي سيكون له تبعات خطيرة أقلها ان اسرائيل لا تحتمل أي خسارة (هزيمة) ميدانية مما يضاعف من احتمال استخدامهم لأسلحة الإبادة الجماعية ( البيولوجية من جرثومية وكيماوية) و أسلحة الدمار الشامل (النووي) ، واسرائيل الوحيدة في الشرق الاوسط التي تملك مثل هذه الاسلحة وهي مصدر الخطر، لكنها ليست في مأمن عن هذا الخطر أو عن ما سيواجهها من ردود، وهو ما يفسر حجم الاستعدادات والتحضيرات والمناورات والتصريحات الاعلامية الاسرائيلية التي ترافقها، ويبدو ذلك واضحا في اعداد الجبهة الداخلية وتهيأتها لامتصاص الصدمة والاستعداد الدائم للحرب المفاجئة بانماطها المختلفة بهذا الحجم وبتعويم مقصود وهل هذه المناورات لصد الهجمات ام لشن الضربات..؟؟، وهي وإن كانت تحمل رسائل متعددة الا أنها تدلل على ان القيادة السياسية الاسرائيلية في حيرة من أمرها بعد ان وجدت نفسها مكبلة بوعود انتخابية غير قادرة على تنفيذها، عكست نفسها على تصرفات القيادة العسكرية والتي أخذت تتحدث عن الحرب البرية النظامية وامكانية التعديل عليها لتلائم الحروب الفدائية والمجموعات الصغيرة والاعتماد على الأسلحة الحديثة والوسائل التقنية المتطورة، واستعدادات الجبهة الداخلية على الحرب غير التقليدية والصواريخ بعيدة المدى حاملة الرؤوس وتطوير النظم الدفاعية والدرع الصاروخية وتطبق المناورات لمسافات بعيدة بذراعها الطويلة فوق البحر المتوسط شرقي اليونان وفوق مضيق جبل طارق وتخوض المعارك التجريبية وتضرب القوافل وتغرق السفن في السودان بعد ما قصفت ما قالت بأنه منشأة نووية في سوريا، وتعلن استعدادها للحرب على جبهات متعددة ضاربة بعرض الحائط كل المتغيرات الدولية والاقليمية، وفي مقدمتها ألأزمة الإقتصادية العالمية والمحلية، ودون محاولة أخذ العبر والاستفادة من تجارب الحليف الأمريكي وسعيه للتغيير. من المعلوم ان اسرائيل تضع دائما أهدافا استراتيجية وتهدف لأقصى الطموحات (ضرب ايران) ولكل منها كلفته وقيمته، لكنها تضع أيضا أهدافا وسيطة (تكتيكية) متاحة للتنفيذ قابلة للتعديل كما فعلت في خطتها في عملية اورانيم عام 1982 وتحدثت عن 40 كم ووصلت بيروت، ويمكن أن تتضمن هذه الأهداف أيضا التغطية على الضعف في مواجهة التحديات واشغال الداخل الاسرائيلي وابعاد الأنظار عن المتغيرات التي تؤثر على المعنويات ومنها كشف شبكات التجسس في لبنان، وكل من هذه الأهداف بحاجة الى تطبيقات ومناورات تحاكيها لاختبار الأداء بما فيها القيادات. اسرائيل تعيش الآن (مرغمة) مرحلة أنصاف الحلول وتبقى قدرتها على استخدام قوتها في حدود فلسطين (عمليات محدودة متنوعة تصعيدية) وبدرجة أقل في لبنان، ولو انها غير كافية بالنسبة لهم لكنها تأتي في سياق التأكيد على أنهم يملكون زمام المبادرة وهذا جزء هام من العقيدة الاسرائيلية السياسية والعسكرية التي تزرع في نفوس الاسرائيلين بانهم مهددين بشكل دائم ويجب ان يظلوا في حالة يقظة وأن الحرب قادمة لا محالة، وما الحديث عن السلام الا ضرب من الأوهام. 20 ايار 2009