القاعدة.. وإشعال الفتنة في الجزائر الجزائر/ عبد الحق بوقلقول
لم تكن التفجيرات التي عاشتها الجزائر في الحادي عشر من آخر شهور العام الماضي مجرد حدث أمني اعتيادي، خصوصًا ذلك التفجير الذي ضرب مكاتب الأممالمتحدة في حي "حيدرة" الراقي الذي ما يزال الجزائريون يسمونه حتى الساعة "سويسرا الصغرى"؛ إذ وفضلاً عن مظاهر الاخضرار والفخامة التي تميز المساكن والفيلات (أو بالأحرى، القصور) فيه، هو حي تتواجد فيه معظم السفارات الأجنبية وإقامات الدبلوماسيين المحليين والأجانب أيضًا زيادة على كبار كوادر القطاع النفطي الجزائري وصولاً إلى كبار قيادات الجيش والأجهزة الأمنية أيضًا. من الواضح إذن أن هذه المعطيات هي الدافع الأساسي الذي جعل ما بات يعرف بتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" يخطط لتنفيذ هجومه؛ لأن العملية من أساسها هي ضربة إعلامية ذات بُعد عالمي بكل المقاييس فهي أنتجت وبشكل فوري، أزمة بين الجزائروالأممالمتحدة حينما قررت هذه الأخيرة تشكيل "لجنة تحقيق" اعتبرتها الأولى، تدخلاً في شئونها الخاصة و"تشكيكًا في جدية التحقيقات التي باشرتها" حتى تمّ التوصل بعد شدّ وجذب، إلى تشكيل لجنة يرأسها الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي كحلّ وسط يرضي الطرفين. مع ذلك فإنه وبعد هذه العملية التي أدّت إلى مقتل عشرات الأشخاص من بينهم 17 موظفًا للمنظمة الأممية، فلقد نشر التنظيم بيانًا تفاخر فيه كالعادة، مستخدمًا عبارات توحي أن التفجيرات قلبت موازين القوى العالمية حيث جاء في بيان التبني قوله: إنه تمكن من التسلل إلى "الكفار المختبئين في "المنطقة الخضراء" في إشارة منه إلى المنطقة الأمريكية بالغة التحصين في بغداد مع أنه وللأمانة، لم تؤدِ العملية إلا إلى مقتل موظفين بسطاء لم يكونوا كما ادّعى البيان من الكفار ولا من الصليبيين، بل إنهم لعلم المعجبين بالفكر القاعدي هذا، جزائريون مسلمون أبًا عن جدّ ومنذ مئات السنين. بالتالي فإن الرسالة التي وجهتها القاعدة إلى الجزائريين والغربيين واضحة وتبعث على التوجس: إن هؤلاء الذين حملوا عنوان القاعدة وأعلنوا انضمامهم إلى فكرتها قبل نحو عام من ذلك فقط، قادرون على أن يسدّدوا ضرباتهم في قلب الجزائر العاصمة وأكثر مناطقها أمنًا، وأن هذه المجموعة تعِدُ بنشر ما تعتبره جهادًا في جميع أنحاء شمال إفريقيا وأنها بلغت مستوى جديدًا، خاصة وأنها سارعت بعد ذلك إلى تبني عملية (ما تزال حيثياتها مبهمة) في العاصمة الموريتانية نواكشوط ضد سفارة الكيان الصهيوني هناك بشكل عبثي أيضًا، لا لشيء سوى لتلطيف صورتها أمام الرأي العام المغاربي والإسلامي عمومًا. قضية انضمام التنظيم الذي يقوده المسمى عبد المالك دروكدال المكنى بأبي مصعب عبد الودود إلى القاعدة، هو أمر يحتّم إعادة ترتيب في الأولويات وتقديم الخارج على الداخل بمعنى أن القاعدة وإن كانت في نظر المتخصصين، هي فكرة أكثر من كونها تنظيمًا بالمعنى العلمي للكلمة، تشترط في حال الانضواء تحت يافطتها، استعداد المنضم إلى تحييد حساباته الآنية وقواعد حركته وجعلها تندرج في إطار جهد تكاملي إقليمي على أقل تقدير، وفي هذا الصدد يقول أحد خبراء الاستخبارات الأمريكية: إنه "حينما تتسمى إحدى المجموعات باسم القاعدة فإن هذا يضع على عاتقها مسئوليات عمل بموجب الضغوط التي تدفعها في هذا المنحى" قبل أن يضيف: "إن الهجوم على الأممالمتحدة يندرج تحت هذا الإطار". يقودنا هذا إلى الاستنتاج أن هنالك مزيدًا من الاتصالات المباشرة بين التنظيم الإقليمي وقيادة القاعدة، وأن هذه الأخيرة- على ما يبدو- مارست ضغوطًا على هؤلاء بقصد التحرك، ومن هنا فإن التنظيم الجزائري الذي يتمتع في الوقت نفسه بامتياز أنه يحظى بما يشبه الاستقلال، بادر إلى توسيع شبكاته وتقليد أساليب عمل جناح القاعدة في العراق. يتذكر المتابعون للشأن الجزائري أن الأسابيع التي سبقت هجمات شهر ديسمبر، عرفت موجة هدوء اعتبرتها الحكومة دليلاً على تمكنها من تحقيق سلسلة من النجاحات ضد المسلحين، ولكن الأمر ظهر على عكس ذلك فلم يكن ذلك الواقع إلا "هدوءًا يسبق العاصفة" حيث إن المسمى "رابح بشلة" تمكّن وهو الجدّ ذو الثلاث وستين سنة، أن يدفع بشاحنة معبأة بعدة مئات الكيلوجرامات من المتفجرات صوب الشارع الضيق أسفل مكاتب الأممالمتحدة ويفجرها في ذات التوقيت الذي شهد هجومًا مماثلاً على مقر المجلس الدستوري نفّذه شاب قالت المصادر الأمنية الجزائرية: إنه أحد الذين أفرج عنهم من السجون واستفادوا من تدابير العفوّ التي أوجدتها سياسة المصالحة مما جعل أبواق التيارات الاسئصالية المعادية لكل نهج تصالحي، تصعد من حملتها الإعلامية ضد أنصار المصالحة بل وضد الرئيس بوتفليقة نفسه متهمة إياه بأنه سبب عودة الأعمال الإرهابية حتى يُخيَّل إلى السامع أن الجزائر قبل وصول الرجل إلى سدة الرئاسة، كانت تنعم بالاستقرار أو لكأنّ سياسة الحلول الأمنية لم تؤدِ إلى مقتل نحو ربع مليون جزائري في التسعينيات الأخيرة وفقًا لبعض التقديرات. طبيعي إذن والحال على ما هي عليه، أن تطفو على سطح المشهد السياسي هنا، تساؤلات حول مدى فعالية قوات الأمن في التصدي للخطر وتكييف تكتيكاتها لمواجهة الأساليب الجديدة ل"لإسلاميين" فمن الغريب أنه ومع اختلاف المواقف بين المتابعين داخل البلاد وخارجها إلا أن الجميع يقولون: إن وقوع هجمات مستقبلية، هي أمر بات حتميًا فليس هنالك أية قوة في العالم في وسعها أن تمنع شخصًا من أن يفجر نفسه حينما يكون مصممًا على فعلته وهذا يقودنا بالضرورة إلى الاستنتاج أن مواجهة هذه الأعمال هي عملية يمثل الشقّ الاستخباراتي منها نسبة لا تقل عن 99 بالمائة. أما عن تأثير هذا الواقع الجديد على صورة البلاد الخارجية فسيكون كافيًا جدًا القول بأن عملية واحدة من هذا النوع كانت كفيلة بأن تقصم ظهر جهود سنوات من العمل الدبلوماسي المُضْنِي؛ إذ وبعد عشرات السفريات والخطابات التي ألقاها الرئيس بوتفليقة في أنحاء العالم ومن على منابر ما لا يحصى من المؤتمرات والندوات الدولية، أدّت عملية تفجيرية إلى نتائج عكسية تمثلت في قيام بريطانيا مثلاً خلال الشهر الماضي بتحذير رعاياها من أي سفر غير ضروري إلى الجزائر، في حين أن الولاياتالمتحدة نصحت مواطنيها هنا بتجنب كل تنقل غير أساسي في العاصمة وخصوصًا، تجنب الأماكن التي يرتادها الغربيون. هذه التحذيرات كما سبق، ضربت المساعي الجزائرية الرامية إلى اجتذاب الاستثمارات ومحاولة السلطات الطمأنة حول قدرتها على احتواء التهديدات، خصوصًا وأنها تقع وسط إشاعات تقول بأن شركات النفط سوف يتم استهدافها، مما أدّى إلى أن يبادر أحد المتعاملين الدوليين في الشهر المنصرم إلى أمر موظفيه في العاصمة بالبقاء مؤقتًا في منازلهم أو ما أعلنته شركة السيارات الفرنسية "رينو" مثلاً التي قرّرت إعادة بعض العاملين لديها إلى فرنسا فيما يعتقد أن غيرها من الشركات الفرنسية سوف تحذو حَذْوها. على حسب أحد المحللين السياسيين الجزائريين فإن: "الدولة فقدت مصداقيتها" وهذا الكلام معناه أن تنظيم القاعدة المحلي تمكن من تكييف نفسه مع "الوضع الجديد" في مقابل أن: "قوات الأمن الجزائرية ما زالت تعتمد وسائل تقليدية في مكافحته" وبدلاً من أن يضعف هذا الأخير كما كان المتابعون يعتقدون، عزّز التنظيم صفوفه مجندًا الكثيرين بناء على نجاحاته "الإعلامية" ومستفيدًا في ذات الوقت، من تفشي المشاعر المعادية للغرب التي أوجدتها حرب العراق. خلال الحرب الأهلية في التسعينيات التي شهدت مقتل أكثر من 150 ألف شخص (وفقا للأرقام الرسمية)، لم يكن أحد يسمع بالهجمات التفجيرية ولكن منذ أبريل الماضي، كان هنالك أحد عشر هجومًا من هذا النوع؛ حيث بات مقاتلو التنظيم يصعدون من استعمال العبوات المزروعة على جوانب الطرقات ويكثرون من السيارات المعبأة بالمتفجرات وفي شهر سبتمبر، قتل شخص كان يرتدي حزامًا ناسفًا، أكثر من ثلاثين إنسانًا بمدينة باتنة شرقي الجزائر في ما بدا أنها محاولة لاغتيال الرئيس عبد العزيز بوتفليقة علاوة على أن مصالح الأمن الجزائري صارت في الفترة الأخيرة تعلن في كل مرة تمكنها من احتجاز كميات كبيرة من المواد القابلة للانفجار أو حتى تلك التي تدخل في صناعة المتفجرات ولا أحد يدري بالضبط حجم الكمية التي لم تتمكن الأجهزة الأمنية من رَصْدها. إن ما يثير قلق الجزائريين يتعلق تحديدًا حول ما إن كان للهجوم على الأممالمتحدة أثره في تعزيز صفوف التنظيم بمزيد من الأفراد ومزيد من الأموال أيضًا؛ إذ وقبل عامّ فقط حينما أعلن التنظيم عن تحوله إلى التسمية الجديدة بعد أن كان يعرف باسم "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" (أو GSPC وفقًا للاختصار الفرنسي للعبارة)، كان قليلون فقط متأكدين أن هذا التحول ستكون له دلالة بالمعنى العملياتي. هذه الجماعة التي تأسست في العام 1998 منشقة عن فصيل آخر من الحركات الإسلامية كان يعرف اختصارًا باسم "الجيا" (GIA التي هي الأحرف الأولى من العبارة الفرنسية التي تعني: الجماعة الإسلامية المسلحة) والتي كانت تحارب القوات الأمنية قبل أن تتحول علانية إلى قتال كل الناس بعد أن وصلتها فتاوى "لندنية" أباحت لها دماء الجزائريين وأعراضهم، ما جعلها تتطور إلى فصيل يندر إيجاد نظير له في التاريخ المعاصر وهي الظروف التي أدّت وفقًا لبيان تأسيس "الجماعة السلفية" إلى خروج هؤلاء بقيادة المدعو حسان حطاب والمكنى "أبو حمزة" بعد أن كان هذا الأخير قائدًا على المنطقة الثانية في الجيا (منطقة القبائل المحاذية للعاصمة شرقًا). كان هذا التنظيم الذي تأسّس أصلاً هروبًا من حمام الدم المستفحل هو أكبر عوامل انهيار التنظيم الأم قبل أن تظهر الأيام أن الفصيل الجديد يملك أجندة عمل محلية أما في السنوات الأخيرة فلقد كان الاعتقاد السائد عنه يدور حول أنّها جماعة تعيش أزمة عميقة بسبب مراسيم العفوّ العام ونجاح العمليات العسكرية للدولة، وحينما أُعلن عن التحول، كان كثيرون يعتقدون أن الأمر لا يعدو أن يكون محاولة من حركة ضعيفة هدفها إنعاش الصفوف عبر ربط نفسها بيافطة عالمية تستثمر ظروفًا دولية حرجة أما الجزائريون الذين كانوا يأملون في أن تمضي بلادهم على جادّة الاستقرار، فلم يكونوا يقبلون احتمال نشوء أية ظاهرة جديدة. رغم ذلك، ظهرت أولى بوادر ما هو قادم في أبريل حينما أوقعت ثلاثة هجمات تفجيرية متزامنة من بينها على وجه الخصوص تلك التي استهدفت مقر رئاسة الحكومة الذي يضمّ أيضًا مقر وزارة الداخلية، ثلاثة وثلاثين قتيلاً وفيما عدا الهجوم على قافلة مركبات كانت تنقل عمالاً أجانب فرنسيين وإيطاليين في سبتمبر، كان يبدو واضحًا أن التنظيم يركز على الأهداف المحلية فلقد هاجم مركزًا لخفر السواحل وثكنة عسكرية إلى جانب عدد من مراكز الشرطة علاوة على أن أكبر جزء من نشاطه كان يقتصر على منطقة القبائل الجبلية الواقعة إلى الشرق من العاصمة. إلى ذلك فإن المسئولين الغربيين يبدون قلقًا بالغًا حول ماهية الهدف المقبل منذ هجمات أبريل، خصوصًا وأنهم يشتكون من قلة تواصل الأجهزة الأمنية للدولة معهم أما من ناحية الأممالمتحدة فإن هذه الأخيرة وفقًا لمصادرها، تقول: إنها طالبت منذ تفجيرات أبريل، بتوفير مزيد من الحماية بقصد تأمين مكاتبها ولكن "الجزائريين لم يستجيبوا" لهذا المطلب ويقول أحد دبلوماسييها: إن السلطات الجزائرية كانت تمتلك أدلة على قيام إحدى خلايا التنظيم بمراقبة مكاتب الأممالمتحدة بعد أن تمكنت من قتل قائدها ولكنها مع ذلك: "فشلت في إبلاغنا بهذه المعلومات" وهي الرواية التي ينفيها الطرف الجزائري بشدة. الظروف بهذا الشكل مهيأة وأعداء المصالحة على اختلاف مواقفهم ورؤيتهم للحلّ، متكتلون في معسكر واحد ضد الرئيس بوتفليقة أما المصالحون فهم مختلفون حول تفسير معنى سياسة المصالحة إلى اليوم بين من يراها وسيلة لتبرير "المتسببين الحقيقيين في الأزمة" إلى من يراها "وسيلة ناجعة تصون البلاد من شرّ التدويل" وبالتالي فلا يتطلب الأمر هنا جهدًا عقليًا خارقًا ليتوصل المرء إلى الاستنتاج أن هنالك مخططًا يهدف إلى إعادة البلاد برُمَّتها إلى أتون الحرب الأهلية؛ لأن ظروف الاستقرار وبوادر عودة مياه القانون والمحاسبة إلى مجاريها، لا تناسب الكثيرين من الذين استفادوا من تفشي غياب مؤسسات الدولة وسيادة منطق الحرب التي تعشش في ظلّه، كل مظاهر الفساد وتتلاشى تحت وقعه المخاوف من الحساب فضلاً على أن خزينة الدولة التي بلغت احتياطات الصرف فيها ما يفوق رقم المائة وعشرة مليارات من الدولارات وفقًا للأرقام الرسمية، هي غنيمة لا يملك الذين اغتنوا من ريعها أي استعداد للتنازل عنها بدليل أن الجزائر التي هي فرضًا دولة غنية وتملك موارد تغني أبنائها عن التفكير حتى في كيفية جلب الرساميل، باتت واقعًا دولة فقراء لا يكاد تفكير معظم شبابها يتعدّى مجرد الحلم في مغادرتها نحو المجهول فوق قوارب مهترئة تجعل منهم في أغلب الأحايين، طعامًا لأسماك البحر حتى قبل الوصول إلى شواطئ بلدان تعتبرهم إرهابيين بالوراثة !!