لماذا نجحت وزيرة الخارجية البلغارية السابقة إيرينا بوكوفا وخاب مسعى فاروق حسني وزير الثقافة المصري في الحصول على منصب المدير العام لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو»؟ هل كان لبلوغ هذه المرتبة هذه الدرجة من الأهمية حتى يحتدم التنافس عليه بصورة لافتة للنظر بلغت حدّا جعلت الرئيس مبارك يتدخل لدى رئيس حكومة الكيان الصهيوني من أجل وقف الحملة ضد المرشح المصري مقابل إنجازات تطبيعية ثقافية جديدة؟ ماذا يعني عجز شخصية عربية عن بلوغ هذا المنصب الدولي الذي تم إنشاؤه سنة 1946 والذي ظل منذ ذلك الوقت في وضع شبه احتكاري بين الأيدي الغربية؟ وهل لهذه النتيجة فعلا دلالات حضارية تفيد أن الهوّة بين الحضارات والأديان مدعوّة للتفاقم وأن الحوار بين الثقافات مجرد شعار كاذب؟ لو جلسنا، في هدوء، نتأمل المسألة التي أثارت ضجة إعلامية وسياسية عربية صاحبت ترشيح وزير الثقافة المصري ثم تواصلت بعد ذلك ضاريةً منذ الإعلان عن النتيجة التي خيبت جانبا من الآمال العربية. أوّل ما يبادرنا في هذه المسألة أنها المرة الثانية على التوالي التي تترشح فيها شخصية عربية لإدارة المنظمة الثقافية العالمية دون طائل. كانت البداية منذ عشر سنوات مع الدكتور غازي القصيبي الأديب والسياسي السعودي الذي ترشح ليخلف فريديريكو مايور الإسباني بعد اثنتي عشرة سنة من إدارة تنفيذية غربية أتاحت للمنظمة الثقافية أن «تنعتق» من استثنائية تسيير ثقافي متحرر تحقق في ولايتي أحمد مختار أمبو السنغالي (من 1974 إلى 1987). في الدورة الثامنة التي سبقت الحالية لم ينجح القصيبي في انتخابات المدير العام وفاز عوضا عنه أستاذ القانون والدبلوماسي الياباني كوتشيرو ماتسورا. مع هذا الأخير تبيّن أن المنصب ليس شرفيا وأن المنظمة لم تكن إطارا صوريا يهتم بالمعالم الأثرية وحماية ثقافات الشعوب الضعيفة. لقد غدت المنظمة المهتمة بالثقافة والتعليم والعلوم ذات نهج ليبرالي معولم، فيه الكثير مما يقال من حيث اختيار أفضل السياسات الثقافية والتعليمية لغالبية الدول التابعة للمنظمة. بعد ذلك وتأكيدا لهذا المعنى نشر الدكتور القصيبي في كتابه «العولمة والهوية والوطنية» تحليلا لتجربته مع اليونسكو والدروس المستفادة من فشله في تلك المعركة الانتخابية لسنة 1999. من أهم ما قاله في هذا الصدد هو أنّه «لا بد هنا من أن نعترف أننا في المعسكر العربي لم نبذل جهداً كافياً لمنع ظهور مرشحين جدد، ولا جهداً كافياً في محاولة تنظيم صفوف المرشحين». كان بذلك يحدد وجها أول من وجوه المعضلة: إنه ضعف الأداء العربي وافتقاد الخبرة والتنسيق الكافيين لتوجيه جهود ممثلي بلدان الجنوب الوجهة الأنسب لصالح العالم النامي والساعي إلى الخروج من التخلف والتبعية بأفضل سياسات تعليمية. عند النظر في نتائج انتخابات اليونسكو لهذا العام بجولاتها الخمس يدرك المتابع صواب ما ذكره الدكتور القصيبي. لقد انسحبت المرشحة النمساوية لصالح منافستها المرشحة البلغارية التي أصبح لها 29 صوتا بعد أن كان لها 13 صوتا، ثم لترتقي في الجولة النهائية إلى 31 صوتا من 58 مقابل 27 للمرشح المصري. بعد انكشاف الخسارة العربية الثانية تبيّن أنه كان للدول الأوروبية الأعضاء مع ممثل الولاياتالمتحدة في اليونسكو الدور الأعظم في إخفاق المرشح المصري بفارق ضئيل من الأصوات. عندئذ كتب الدكتور القصيبي، مضيفا عاملا ثانيا إلى جانب ضعف الأداء العربي في إدارة معركة انتخابية بهذه الأهمية قائلاً: «من المشكوك فيه أن تصوّت الدول الغربية والمستغربة لمصلحة مرشح لا يجيء من صميم الليبرالية الأوروبية». لقد ثبت للخبير والدبلوماسي السعودي المتحرر أن ادعاء وقوف دول أوروبية ذات ثقل إلى جانب «مرشح عربي مسلم.. هو حديث خرافة!». بذلك يبرز وجه آخر للمسألة وهو أن المنظمة الثقافية العالمية لا يمكن، في تقدير أصحاب النفوذ الدولي، أن تؤول إلى شخصية تنتمي إلى فضاء ذي مجازفات كبيرة لكونه «غير مضمون وغير مستقر» في وجهته الثقافية والاقتصادية والسياسية. إن ما تميّز به المرشح المصري طوال سنوات تسييره للثقافة من مواقف حدّية «متحررة» متعلقة بطبيعة الدولة وبمناهضة الحركات الإسلامية وخاصة لظاهرة الحجاب لم تفده في إعطاء ضمانات مطمئنة لترجيح كفته أو الركون إلى مطالب النظام السياسي الذي يسنده. ما تعتمده الدول النافذة لتسيير دفة المنظمة العتيدة لا يولي الاعتبار الشخصي قيمة كما لا يعتمد على مواقف رسمية لحكومات هو أعلم من غيره بمصداقيتها في زمن قلق لم تحسم فيه القضايا الكبرى بالصورة التي ترضي الأطراف الدولية الفاعلة. في باريس أدرك المرشح المصري أن المسألة تتجاوز الاعتبارات الفردية والسياسات القُطرية الضيقة، كما اكتشف ما كان غائبا عنه، أو متجاهَلا من قِبَله، في القاهرة وهو أن زمن العولمة جعل للخيارات السياسية والتكتلات الدولية رهانات ثقافية ودينية واجتماعية لا مناص منها. ذلك ما دعاه للقول وهو يوجه التحية إلى ممثلي ما كان يعرف بالعالم الثالث وبعض الدول الأخرى التي ساندته في جولات المنافسة الانتخابية الأربع الأولى، والتي مكّنته من الحصول على نسبة عالية من الأصوات أتاحت له تفوّقا ملحوظا قبل الجولة النهائية، قال: «إن مجتمعات الجنوب لقنوا الشمال درسا لن ينساه». هل هو الحنين إلى زمن «باندونغ» ورجال عدم الانحياز أم تراه وعي بطبيعة العولمة في سياقها الغربي الليبرالي المتوحش؟ أيّاً كان الأمر فإن المناسبة كانت فرصة تاريخية ممتازة لتدرك النخب العربية مكانتها الحقيقية في العالم ومقتضيات المنافسة المجدية على إدارة شؤون الداخل المحلّي أولا ومع الذات الثقافية والإنسانية للمجتمعات النامية أساسا. هي مدعوّة أن تتأمل نتائج هذه الدورة من زاوية الخيارات الإستراتيجية وإحداثياتها الثقافية والتنموية الشاملة حتى تتوصل إلى سبل الفاعلية الدولية ومتطلباتها الداخلية. مثل هذا الموقف سيبيّن أن العولمة بقواعدها الحداثية الغربية لا يمكن أن تفيد العالم العربي والإسلامي إن فُهمت على أنها تقليد أو اقتباس أو حتى تمثّل عقلي أمين. ما يتكشّف من وراء انتخابات اليونسكو الأخيرة وما صاحبها من الحرص العربي على الحضور في المشهد الدولي في السياق المعولم هو أننا لن نمتلك موقعا فاعلا في العصر، إلا إذا أدركنا أن المعاصَرة ليست مجرد مسايرة للعصر وليست أمراً مُعطى يسهل اكتسابه عبر ولاءات هشّة. إنها تتطلب وعيا بطبيعة الصراع التاريخي بين القوى المختلفة في الداخل والخارج وما ينجم عن ذلك من ضرورة الارتقاء بالأداء السياسي والفكري بما يمكّن من فاعلية أفضل ودائرة نفوذ أوسع. في نهاية المطاف وبالعودة إلى أسئلة البداية، يمكن القول إن هذه التجربة العربية الثانية التي وقع خوضها لبلوغ مراتب دولية عليا أثبتت أن الطريق ما تزال وعرة، وأن الإصرار على المضي فيها يتطلب تغييرات نوعية في مستوى الوعي بالدلالات الحضارية للعصر ومقتضياتها الحركية في الخارج والداخل. أمّا الانتهاء إلى الفجيعة أو الإنصات إلى الشامتين والمحبطين فهو من قصر النظر الذي قال عنه أحد عظماء فرنسا، «شارل دي غول»: نقيق الضفادع لا يغيّر مسار التاريخ. صحيفة العرب 2009-10-15