ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    جماهير الترجي : فرحتنا لن تكتمل إلاّ بهزم الأهلي ورفع اللقب    كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    زيادة ب 4.5 ٪ في إيرادات الخطوط التونسية    وزارة السياحة أعطت إشارة انطلاق اعداد دراسة استراتيجية لتأهيل المحطة السياحية المندمجة بمرسى القنطاوي -بلحسين-    وزير الخارجية يواصل سلسلة لقاءاته مع مسؤولين بالكامرون    عمار يدعو في ختام اشغال اللجنة المشتركة التونسية الكاميرونية الى اهمية متابعة مخرجات هذه الدورة وتفعيل القرارات المنبثقة عنها    رئيس البرلمان يحذّر من مخاطر الاستعمال المفرط وغير السليم للذكاء الاصطناعي    الرابطة 2: نتائج الدفعة الأولى من مباريات الجولة 20    الترجي الرياضي يفوز على الزمالك المصري. 30-25 ويتوج باللقب القاري للمرة الرابعة    بطولة مدريد للماسترز: أنس جابر تتأهل الى الدور ثمن النهائي    سجنان: للمطالبة بتسوية وضعية النواب خارج الاتفاقية ... نقابة الأساسي تحتجّ وتهدّد بمقاطعة الامتحانات والعمل    إمضاء اتفاقية توأمة في مجال التراث بين تونس وإيطاليا    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    توزر: الندوة الفكرية آليات حماية التراث من خلال النصوص والمواثيق الدولية تخلص الى وجود فراغ تشريعي وضرورة مراجعة مجلة حماية التراث    تعاون مشترك مع بريطانيا    دعوة الى تظاهرات تساند الشعب الفلسطيني    هيئة الأرصاد: هذه المنطقة مهدّدة ب ''صيف حارق''    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    تامر حسني يعتذر من فنانة    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    الرابطة الثانية : نتائج الدفعة الأولى لمباريات الجولة السابعة إياب    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الثقافة الإيطالي    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    خط تمويل ب10 مليون دينار من البنك التونسي للتضامن لديوان الأعلاف    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    عاجل/ خبير تركي يُحذّر من زلازل مدمّرة في إسطنبول..    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    قفصة: ضبط الاستعدادات لحماية المحاصيل الزراعية من الحرائق خلال الصّيف    تونس : أنس جابر تتعرّف على منافستها في الدّور السادس عشر لبطولة مدريد للتنس    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    انطلاق أشغال بعثة اقتصادية تقودها كونكت في معرض "اكسبو نواكشوط للبناء والأشغال العامة"    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع القيادي الاسلامي التونسي علي العريض
نشر في الفجر نيوز يوم 19 - 11 - 2009

علي العريض (54 سنة مهندس) انتمى إلى حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حاليا) منذ شبابه وتحمل فيها كل المسؤوليات القيادية تقريبا. حوكم عدة مرات منها واحدة بالإعدام سنة 1987، وفي سنة 1990 حكم عليه بالسجن لمدة 14 سنة قضى منها 13 سنة في العزل.
اقترحنا عليه حوارا شاملا حول الانتخابات الأخيرة التي جرت نهاية الشهر الماضي في تونس، وعن حركة "النهضة" وغيرها من المواضيع، فرحب مشكورا.. وبعد أن توجه بالتحية للساهرين على صحيفة "العرب" وقرائها ذكّر بأنه "سيجيب في حدود ما تسمح به الظروف المختلفة التي يعيش فيها" وهذا نص الحوار. :
* ما تقييمكم للانتخابات الأخيرة؟
- الانتخابات التي تجري في أجواء ديمقراطية عادة ما تعمق الشعور بالوطنية والشراكة والتطور السلمي، وتكون فرصة مناسبة للتقييم والمراجعة. ونحن رأينا كيف أن العديد من المجتمعات حققت التنمية والاستقرار عبر هذه الآلية الديمقراطية، كما نجحت في بث مشاعر النخوة والغيرة على الوطن في أبناء شعوبها. في المقابل تحرم أنظمة التسلط مواطنيها من كل ذلك وتعرّض بلدانها للمخاطر أو للانفلاتات التي لا يمكن التنبؤ بها.
ومؤخرا قيل الكثير في بلادنا عن الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت نهاية أكتوبر الماضي وعن الظروف التي مرت بها، وتمحورت مطالب عدد من القوى السياسية والمدنية حول توفير حد أدني من الحرية وحياد الإدارة وتكافؤ الفرص، علاوة على التنبيه إلى خطورة أن تتحول العملية السياسية إلى مظاهر شكلية تعيد إنتاج الأوضاع وتعطل التطور نحو الحرية والديمقراطية بدل المساعدة عليها.
من جانبي لم أكن أنتظر حصول مفاجآت في الانتخابات الأخيرة، والآن وقد مرت تلك الانتخابات فإن الأهم هو النظر إلى المستقبل، وأعتبر أن مستقبلنا مرتبط من جهة بجهود كل القوى الوطنية وحسن ترتيبها للأولويات، وهو مرتبط من جهة ثانية بالخيار الذي ستتبعه السلطة، وهل ستعمل من أجل الإصلاح السياسي الذي يقر بحقوق الجميع ويتيح لهم المساهمة في بناء وطن معافى من الداخل ومصان السيادة من الخارج ويمتلك المؤهلات الضرورية للانتماء للحضارة الإنسانية والمساهمة فيها والإشعاع عليها ويعتز إلى جانب ذلك بهويته وانتمائه العربي الإسلامي.
وفي نظري فإن ثالوث الحرية والتنمية العادلة والهوية الحضارية تمثل أركان المشروع الوطني في هذه المرحلة التاريخية، وعلى قدر التوافق عليها كقواسم مشتركة والانخراط فيها والالتزام بها والابتعاد عن كل ما هو شخصي أو حزبي ضيق بقدر ذلك يكون تقدم البلاد.
ويمثل تحقيق مطلب الحرية والديمقراطية عائقا بارزا نظرا لتأخرنا الكبير في هذا المجال، وهذه المطالب ليست من باب الترف الفكري أو هي مطالب خاصة بالساسة والمثقفين والصحافيين، بل على العكس من ذلك هي تهم المجتمع ككل وتنعكس آثارها الإيجابية على كل الشرائح وكل المجالات. وكل هدف تضعه الدولة أو الأحزاب أو الجمعيات يفترض ألا يكون فوق حرية المواطن وحقوقه وإنما نابعا منها وخادما لها وهي حزمة من المبادئ والإجراءات من شأنها أن تحدث انفراجا عاما وتمنح المواطن مشاعر العزة والاطمئنان وتوفر مناخ التعاون والتنافس والمسؤولية وتطوّق جغرافيا الكراهية وتبني عقلية تفهّمية بدل عقلية العراك.
* وأين حركة النهضة من كل الذي يجري الآن بالبلاد؟
- مضت ثلاثة عقود منذ الإعلان عن ميلاد حركة "النهضة" عاشت خلالها الحركة والبلاد النجاح والفشل والفرح والألم. وأهم ما صمد طيلة هذه الفترة في الحركة فكرها الذي بقي ناهضا يتطور ويتأمل ويؤثر بوجاهة مضمونه وتماسكه. ورغم ما أصاب تنظيم الحركة وأبناءها فإنها تبقى برأيي حركة وطنية تنهل من الفكر الإسلامي وتعمل من أجل إصلاح يقر بحقوقها وحقوق غيرها، لكن في الواقع يجري حرمانها من العمل، أما مستقبلها فهو شديد الارتباط بمستقبل البلاد.. هكذا أرى، فلا أتوقع ديمقراطية جديرة بهذا الاسم من دون تسوية سياسية لملف حركة النهضة، كما لا أتوقع تسوية سياسية لهذه القضية من دون أن يكون ذلك في سياق إصلاح سياسي بالبلاد.

* وهل تتوقعون حصول ذلك؟
- ليس من السهل التقدم في الاستشراف لكني أعتبر أن مستقبل النهضة ومستقبل الحرية والديمقراطية في البلاد ليس شيئا جاهزا سنكتشفه وإنما هو شيء نصنعه أو نبنيه، وأتمنى أن يوجد حل وطني لهذا الملف (أي ملف النهضة)، لأن بقاء مشكل الحركة دون حل أسهم في تراجع بل تعطل المسار الذي انطلق سنة 1987، وبعد كل هذا الوقت ونتائجه الماثلة أمامنا لا أظن أن قدر بلادنا التسليم بالعجز عن إيجاد حل سياسي لهذه القضية.. حل وطني يراعي مصلحة البلاد وقوانينها ومبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة، ولا أظن أن قدر بلادنا الاستسلام لبعض الذين يعملون على تأبيد هذه الحال بدعوى أنه لا مجال لديمقراطية تستفيد منها حركة النهضة، فثمة طريق أخرى يمكن أن تنطلق بها البلاد نحو الديمقراطية دون خوف على استقرارها ومكاسبها ووئامها الداخلي وسيادتها، وأنا هنا أتحدث من موقع الغيرة على الوطن والرغبة في الدفع نحو الحلول الممكنة. ثم إني أعتقد أن الوقت حان بعد كل هذه السنين الطويلة من المحن والاحتراب الإعلامي ليتغلب النظر إلى المستقبل وتجاوز المخلفات ولو تدريجيا والاعتبار بتجارب بلدان أخرى ونشر فكر وقيم الاعتراف والاحترام والتعاون بدل فكر النفي الوجودي والقطيعة والتعبئة الضدية التي لا تطمئن على المستقبل ولا تقي من الردود غير المحسوبة.

* البعض اعتبر أن المشكل مع حركة النهضة هو مرجعيتها الإسلامية؟
- الأحزاب الاشتراكية تنهل من الفكر الاشتراكي وموارده المختلفة، والأحزاب الليبرالية تستلهم مرجعيتها من الفكر الليبرالي وأصوله، والأحزاب المسيحية تسلتهم برامجها ومقارباتها من الفكر المسيحي ومقاصده.. هكذا تعرف نفسها، وحركة "النهضة" تؤكد في أطروحاتها أنها تستلهم من رصيد الفكر الإسلامي الدافق والمتطور بمختلف تياراته وتستفيد من رصيد الخبرة الإنسانية دون احتكار أو نفي لحقوق الآخرين وحريتهم أو ادعاء الانفراد بالحقيقة وإنما هو اجتهاد ككل المقاربات الأخرى.. وهذا يبدو لي جد طبيعي في بلد عربي إسلامي، فما المانع إذا من احترامها في إطار مرجعيتها، أي قراءتها الخاصة؟.. لا أظن أن بلدنا يضيق بهذا بل يغتني به.
* ولكن هناك خشية حقيقية من الانغلاق والتمييز بين المواطنين على أساس الدين الذي قد تأتي به النهضة؟
- الإسلام والعروبة وتاريخ بلادنا بأحقابه والفكر الإنساني هذه كلها موارد متاحة لينهل منها كل مواطن وكل تيار قدر ما يشاء، دون أن يحتكرها لنفسه أو يحرم منها غيره. وفي كل البلدان الديمقراطية أو التي قطعت خطوات في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة يتاح لأتباع الفكر الاشتراكي وأتباع الفكر الليبرالي وأصحاب المرجعيات الشيوعية أو العروبية أو الوطنية أن يطرحوا مشاريعهم السياسية والاجتماعية وقراءاتهم للدين وللعروبة وللقضايا الدولية، ويتاح هذا الحق للجميع، فكيف يريد البعض حرمان حركة النهضة منه، لاسيَّما وقد أكدت الحركة دائما احترامها لحقوق الآخرين وهي تأمل أن تُحترم وتُناقش وتُنافس في مقاربتها ومقترحاتها للشأن الوطني على هذا الأساس.
إن حركة النهضة معروفة بفكرها الإسلامي الوسطي وبدعوتها لتطوير هذا الفكر وتجديده، وهي معروفة بمساهمتها المحترمة في إثرائه. إن التجديد والحفاظ على هويتنا في رأيي لا يحصل بالجمود على الموجود ولا بالاستلاب وإنما باتباع طريق عميق الصلة برصيدنا وتراثنا دون انطواء عليه والوقوف فيه وعميق التجذر في العصر وخبراته دون الذوبان فيه كذلك.
ولا أشك في أن توفير مناخ الحريات والإبداع والاحترام المتبادل والحوار سيدفع إلى تركيز المناقشة حول البرامج التي تقدم حلولا لمشاغل الوطن والمواطن، وأن مثل هذا المناخ يساعد على تجذير جملة من الثوابت الوطنية التي هي اليوم بصدد التحول إلى أرضية عامة وإطار تستظل به كل التيارات وتحترمه وتضعه فوق الجدل وفوق التشكيك، ومن ذلك بالخصوص احترام الهوية العربية الإسلامية للبلاد واحترام قيم ومبادئ الجمهورية والحريات العامة وحقوق الإنسان والتضامن والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، إضافة إلى التجذّر في العصر والحداثة والتعاطي مع المسائل الدولية من منظور وطني خالص وغير هذا من الثوابت والمشتركات التي تتسع باستمرار.
فبلادنا قطعت خطوات مهمة في هذا الاتجاه، أعني انتصار وتجذّر جملة من الثوابت الوطنية، بعضها وقع التشكيك فيه أو النيل منه في بعض المراحل، وواضح لي أنه على قدر تجاوزنا للجدل حول بعض الثوابت الوطنية سيكون تركيز القوى الوطنية على الحلول العملية لقضايا التشغيل والتعليم والصحة والسكن والاستثمار والفلاحة والبيئة والتكنولوجيا وغيرها من القضايا.
وأتوقع أن تعيد بعض التيارات التي ارتبط وجودها بالدفاع عن إحدى هذه الثوابت أن تعيد النظر في وجودها ودورها وما تقدمه للوطن حالما تسود هذه الثوابت وتصير فوق الجدل، وهي اليوم بصدد التحول إلى ذلك بعد عشريات من الحوار والتجاذب والصراع التي لم تكن سهلة ولا قليلة التكلفة.
* البعض يدعو إلى العلمانية ويعتبرها هي الحل. ما رأيك؟
- العلمانية علمانيات وبعضها له خلفية إقصائية والديمقراطية طور متقدم عليها يستفيد من بعض إيجابياتها ويتجاوزها لأن الديمقراطية تقر التعدد وتدمجه وتجعل له ترتيبات وحلولا سياسية وقانونية للتعايش والتنافس والتعاون، وبالتالي فلا أرى فائدة لطرح هذا الشعار في مجتمعنا التونسي خاصة أن العلمانية مصطلح مشحون بصراعات وقعت بين الكنيسة وغيرها من القوى في حقبة معينة من التاريخ الأوروبي الخاص.
المهم هو أن الشأن السياسي العام يحتكم فيه إلى الرأي ولا عصمة فيه لأي وجهة نظر بحجة العقلانية أو العلمانية أو أي فهم أحادي للدين الإسلامي.
وبالنسبة لحركة النهضة فإن طرحها الفكري إدماجي ونظرتها للهوية الوطنية كذلك، فهي لا تقصي أي مرحلة من تاريخ بلادنا ولا تتنكر لأي حقبة من حقبه لأن هويتنا العربية الإسلامية جامعة تعترف بكل تلك المراحل وتدمجها، وهكذا كان شأن حضارتنا مع حضارات وتاريخ البلدان التي فتحتها منذ صدر الإسلام. فهي تغتني وتنهل من المكتسبات الإنسانية بلا انغلاق ولا خوف من الذوبان وقد كانت مؤمنة بذاتها جاذبة ومؤثرة، لكن مراحل الركود خلخلت هذا التمشي ولا أظن أنه يمكن اليوم لأي حضارة أن تكتفي بذاتها وهي لن تستطيع ذلك حتى لو أرادته.
والحركة أيضا ومن خلال مواقفها ونصوصها تتبنى طرحا سياسيا لا يقصي غيره ما دام وطني المنشأ والأهداف ويقبل الاحتكام للقوانين الديمقراطية، فالحقوق والواجبات تبنى على أساس المواطنة وليس على أساس اللون أو الجنس أو الموقع الاجتماعي أو الانتماء السياسي والديني.
* تقولون لا عصمة في السياسة، بل هو الرأي، هل معنى ذلك أنكم تفصلون بين الدين والسياسة؟
- موضوع العلاقة بين الدين والسياسية يلفه الكثير من الخلط والتوظيف، فثمة من يرى ذلك حلا عاما صالحا لكل الأديان مهما اختلفت ولكل الأزمان وكل مكان وتبلغ درجة استغراقه حد التعاطي مع هذه القناعة كعقيدة دينية طاردة للفوارق بين الأديان في علاقاتها بالسياسي والفوارق بين الحقب الزمنية في التجربة التاريخية لكل دين.
وفي رأيي المتواضع توجد بعض القواسم المشتركة بين الأديان، ولكن نفي الفوارق والسعي لتعليب هذه العلاقة وصب الأديان وتجارب الشعوب في قالب واحد هو قفز على شواهد الواقع وحقائق التاريخ ونفي للتعدد وفتح لأبواب الإكراه.
بل إن كل مجتمع على حدة شهد مسارا أو تجارب مختلفة لهذه العلاقة لأنها متأثرة بالثقافة والاقتصاد والاجتماع. وفيما يخص علاقة الدين الإسلامي بالمجال السياسي في بلد عربي إسلامي في هذا العصر أراها تقوم على بعض القواعد العامة وأخرى خاصة بكل بلد على حدة.
فمما هو عام أن المجتمع العربي الإسلامي تسوده قناعة عقائدية وثقافية بأن الإسلام دين يغطي العقيدة والعبادة وسائر مجالات الحياة وليس مفصولا عن مجالات الشأن العام سياسة واقتصادا واجتماعا، وأنه مصدر اعتزاز وعماد نهضة وعلامة عليها، وعوامل التخلف والانحطاط ليست منه بل من غيره ومن الابتعاد عنه. ومما هو عام أيضا أن شمول التصور الإسلامي لمختلف مجالات الحياة (الفرد والأسرة والمجتمع والأمة) لا يعني حصول تماهٍ بين السياسة والدين أو أن الدين يعوض العقل ويحدد له كل شيء وإنما ثمة تمايز –وليس قطيعة أو صراعا– بين الدين الإسلامي ومجالات التدبير أو السياسة. فإذا كان الدين الإسلامي يفصل في مجالي العقيدة أو العبادة فإنه في باقي مجالات الحياة الدنيا يضع قيما ومقاصد وتوجهات عامة ليقع الاهتداء بها.
فالمجال العام ليس في قطيعة مع الدين وإنما هو مجال الاجتهاد والإبداع المهتدي بقيم الدين ومقاصده وأخلاقه والمسترشد بما راكمته التجربة الإنسانية من خبرات وشرائع دولية، وهي بصفة عامة تعبر عن مقاصد الإسلام أو تلتقي معها. أما الاعتبارات الخاصة بكل مجتمع والتي تسهم في تحديد مضمون علاقة الدين الإسلامي بالسياسة فهي كل ما يتعلق بالخصائص التاريخية الوطنية وبدرجة نموه الاقتصادي والثقافي والسياسي وكيفية تفاعل مجتمع من المجتمعات مع قيم العصر وبالخصوص بنمط المشروع الوطني الذي يعبر عن تطلعات قواه الحية اليوم، ولذلك لا توجد نسخة أو وصفة عامة وإنما هي تجربة خاصة يشتقها كل مجتمع بناء على رصيده وواقعه وتطلعاته.
* كأنك تغمز إلى أن الديمقراطية هي الحل، ولكن ثمة من الإسلاميين من لا يزالون يعارضون الديمقراطية؟
- لا تثير العلاقة بين الديمقراطية والإسلام إشكالا كبيرا إلا لمن يجد صعوبة في استيعاب قانون التطور السياسي والاجتماعي أو يعتبر الإسلام خصما لهذا التطور وبالخصوص لا يفرق بين الإسلام كدين يوجه سائر مجالات الحياة من جهة وبين صور التدين أو اجتهادات التمثل للإسلام والتي هي مرتبطة بالمكان والزمان، وبالتالي تتطور في بعض أشكالها. وبصفة عامة لا أرى أي مشكل بين الإسلام والديمقراطية، فالإسلام دين والديمقراطية حلول سياسية وطرق في الحكم، وإنما يحصل المشكل بين نوع من التدين والديمقراطية، فالأمر عائد إلى وعي المتدين لا إلى الدين الإسلامي الذي لا يمكن إلا أن يكون منسجما وحاثا على كل ما ثبت صلاحه إن لم يكن بالنصوص فبالمقاصد.
وإذا كان بعض الإسلاميين ما زالوا يجادلون في الديمقراطية أو يتحفظون عليها فقد يكون ذلك بسبب خلطهم بين الحرية والإباحية ظنا منهم أن الحرية تعني التملص والتفصّي من كل التزام أخلاقي أو ديني أو اجتماعي، بينما الحرية لا تعني التحرر من كل تلك الالتزامات وإنما تعني اعتراف الجميع بأهليتهم للمشاركة والاختيار والمسؤولية. وقد يكون ما يظهر من شطط في بعض المجتمعات الغربية يدفع البعض إلى التحفظ أو الرفض للحرية والديمقراطية، في حين أن تلك المظاهر موجودة كذلك في المجتمعات الرازحة تحت الاستبداد حيث يسحق الفرد سياسيا واجتماعيا. والمهم هو المجرى العام للمجتمع الحر حيث يتمتع الفرد بحقوقه ويعي مسؤوليته ويسود الاستقرار المدني وحيث تتقلص الحاجة إلى أجهزة الإكراه، فتتطور المجتمعات بخطى حثيثة ويقوى وئامها الداخلي وشعورها بالكرامة والانتماء للوطن والغيرة عليه وعلى مؤسساته ومكاسبه.
* الجميع يؤكد على ضرورة وأهمية التغيير الديمقراطي، لكن ألا ترى أنه ليس أمرا هينا في بلادنا وأنه فعلا يحتاج إلى وقت وإلى التدرج كما تقول السلطة؟

- الانتقال الديمقراطي صار اليوم قضية كل دولة متخلفة، ولا شك أن أمامه عدة صعوبات كنقص النضج وهشاشة التنظيمات الحزبية والمدنية وضعف قاعدتها الاجتماعية أحيانا وكالتحديات العالمية الضاغطة، لكن تجاوز الصعوبات لا يكون في نظري بالتوقف أو التردد وإنما بالتوغل في الإصلاح الديمقراطي لأنه يقوي الرابطة الوطنية ويغرس احترام الدولة ومؤسساتها باعتبارها دولة الجميع ومؤسساتها لحماية وخدمة الجميع.
ولا بد من ملاحظة أن الاستبداد هو الذي يوفر المناخ للمظالم والتشوهات والاستقالة ويغذي أسباب النزاعات الداخلية. إن التدرج مبدأ نبيل ولا أظن أن أحدا اعترض أو يعترض عليه اليوم، لكن كيف نحمي التدرج من أن يميّع أو يضيع المطلب الديمقراطي؟ وكيف نحميه من أن يتحول إلى ذريعة لدى بعض الحكام أو الفئات أو الطبقات للحفاظ على الأوضاع دون تقدم وتأبيد المؤقت؟ وكيف نجعل التدرج يمضي قدما نحو غاياته المأمولة؟ قد يتولى الحاكم نفسه الدفع بالتغيير والسهر على ضخه في مختلف المواقع مسنودا بالمجتمع وقواه الديمقراطية، وهذا أقصر الطرق وأقلها كلفة، لكن مثل هؤلاء القادة والمصلحين ليسوا كثرا في التاريخ، وكم من حاكم كان السبب في تعطيل مسار شعبه نحو الحرية. أما عقبة القوى الخارجية التي تبني سياساتها لا على احترام حقوق الشعوب ومصالحها ولا على قيم العدل والإنصاف بل بدرجة أولى على رعاية مصالحها ولو على حساب القيم، فإنها ليست عقبة حاسمة أمام التغيير الديمقراطي لأن العوامل الحاسمة في رأيي تبقى القوى الوطنية ومدى قدرتها على إشاعة روح التغيير في الشعب والإقناع بأن التغيير في كل مرحلة هو فعل إرادة ذاتية للشعوب المؤمنة به والراغبة فيه والمستعدة للتضحية من أجله رغم كل العقبات.
(المصدر: جريدة العرب (يومية – قطر ) بتاريخ 19 نوفمبر 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.