ما تنشره الصحف المصرية هذه الأيام عن «تسونامي» الفساد في قطاع الإسكان يبعث على الدهشة من زاويتين. فالوقائع المنشورة لا تكاد تصدق. كما أن تعامل السلطة مع الملف ليس مفهوما على الإطلاق. صحيح أن الألسنة ظلت تلوك قصص الفساد في ذلك القطاع منذ عين الوزير المتهم في منصبه في عام 1995 وحتى أخرج منه في نهاية 2005 وهو ما فهمنا أنه إبعاد لمحاولة «تنظيف» سمعة الحكومة، لكننا فوجئنا بأنه كوفئ مرتين، مرة حين منح وساما رفيعا تقديرا له وتكريما. ومرة ثانية حين أعيد تعيينه في منصب رفيع براتب خرافي. وهو ما أشاع قدرا هائلا من الحيرة والبلبلة. ولم يكن هناك من تفسير للمكافأتين الكبيرتين سوى أنهما بمنزلة مساندة للرجل وتحصين له، وإعلان عن أنه تحت حماية السلطة وفي كفالتها. ولم تكن مكافأته هي الدليل الوحيد على ذلك، ولكن تبرئته من تهمة الكسب غير المشروع قبل ذلك كانت دليلا آخر، ربما كان أقوى وأوضح. وفي حين أدرك الجميع بمن فيهم 47 نائبا في مجلس الشعب، أن الرجل فوق الحساب، فاستسلموا لليأس وسكتوا، إذا بنذر الإعصار تتحرك في نهاية العام الماضي، ثم تتوالى موجاته عالية وكاسحة مع إطلالة العام الجديد. إذ فوجئنا صبيحة 2 يناير بعناوين الصفحة الأولى لجريدة «الشروق» التي علمنا منها أن جهاز الرقابة الإدارية فتح ملف الرجل مرة أخرى، واتهمه بارتكاب جرائم الاستيلاء على المال العام، وأنه قدم للنيابة 60 مستندا بخط يده، وآخرين من رجال الأعمال، عززت الاتهامات التى وجهت إليه. وذكر تقرير «الشروق» أن النيابة تحقق في تلك الاتهامات منذ ثلاثة أسابيع (خلال شهر ديسمبر). ومن المعلومات المثيرة التي تضمنها التقرير المنشور أن الوزير دأب خلال 12 عاما أمضاها في منصبه على توزيع الأراضي والفيللات في المدن الجديدة على أفراد أسرته ومعارفه بأسعار بخسة وبالاحتيال على القانون، وفي مقابل رشاوى في بعض الأحيان، آية ذلك أنه في حين أن القانون لا يجيز للفرد الواحد وزوجته وأبنائه القصر الحصول على شقة واحدة أو قطعة أرض واحدة في المدن الجديدة عن طريق التخصيص، فإن صاحبنا منح زوجته وأبناءه 7 قطع وفيلات مساحتها عشرة آلاف متر في القاهرةالجديدة ومارينا، وحسب التقرير فإن ابنه القاصر قدم طلبا لوالده الوزير بتخصيص أرض فضاء بالقاهرةالجديدة للبناء عليها. فمنحه الوزير ألف متر. لكنها «تمددت» وأصبحت عند تسلمها 4500 متر، وعند التحرى تبين أنه ضم إليها في الخفاء ثلاث قطع مجاورة لها، كما أنه خصص لزوجته أرضا مساحتها 1400 متر لبناء فيلا عليها، ثم أضاف إليها حديقة بمساحة 700 متر. وهذا كله مجرد نقطة في بحر. لأن الاتهامات التي وجهت إليه بخصوص تعاملاته مع ثلاثة من كبار المقاولين اختلط فيه التربح بالرشوة التي قدرت بعشرين مليون جنيه. إذ منحهم 8 ملايين متر بأسعار زهيدة، وباع لأحدهم فيللا يملكها بمبلغ عشرة ملايين جنيه، في حين أن سعرها لا يتجاوز 3 ملايين جنيه فقط. والفرق كان رشوة مقنعة. هذه بعض المعلومات الصاعقة التي نشرت في اليوم الأول لهبوب الإعصار. ولك أن تتصور سيل المعلومات المماثلة التي تسربت للصحف خلال الأيام التالية، والتي إذا صحت فإنها ترسم صورة لأكبر عملية نهب وتبديد للثروة العقارية في التاريخ المصري الحديث، خسرت مصر بسببها مبالغ تراوحت بين 200 و300 مليار جنيه (جريدة الفجر 1/11). الأمر المحير أن ذلك كله كان معلوما ومسكوتا عليه طوال السنوات التي خلت، وهو ما يثير أكثر من سؤال حول ملابسات حجب الملف ثم استدعاؤه وتفجير محتوياته. ولأن الرجل ظل محميا من جهات عليا انتفعت من وجوده وحققت من ورائه ثروات هائلة. فإن أسباب رفع تلك الحماية وصلتها بصراعات مراكز القوى تثير سؤالا آخر. ولابد أن يستوقفنا في هذا السياق أنه بعد أسابيع من إعلان تفاصيل التقرير الذي سجل الفضائح صدر قرار جمهوري بتمديد خدمة رئيس الرقابة الإدارية اللواء محمد تهامي لعام آخر، الأمر الذى يعد تعبيرا رئاسيا عن الارتياح لجهوده. وهو أمر مقدر لا ريب، لكنه لا يوقف سيل الأسئلة الحائرة حول هوية المقامات العليا التي تسترت على الملف وتلك التي فجرت محتوياته. ثمة شكوك في أن الرجل سيحاسب في نهاية المطاف، لأنه جر معه أثناء توليه منصبه كل أكابر البلد إلا من عصم ربك في حملة النهب التاريخي لثروة مصر العقارية.. ولم استبعد ذلك لأنه حدث مع غيره. لكني أرجو أن تخيب الأيام المقبلة هذه الظنون. أما السؤال الأخير الذي يلح علي طوال الوقت فهو: هل هذا الذي حدث في قطاع الإسكان والمدن الجديدة، هو كل الفساد الحاصل في مصر؟ أم أنه الجزء الذي ظهر من جبل الجليد فقط؟ وأن الغاطس منه لم يكشف النقاب عنه بعد، ولن يكشف في ظل الأوضاع القائمة؟! الرؤية