اعتقد كثير من المحللين والمراقبين للشأن الإفريقي أن القارة الإفريقية قد تخلصت من الانقلابات العسكرية، بفعل الوعي السياسي المتنامي في ربوع القارة، وبسبب السمعة الدولية السيئة للانقلابات العسكرية وللقائمين بها، لجرأتهم على الدساتير والقوانين الطبيعية ولرغبتهم في تحقيق مكاسب شخصية والتمتع بالأموال والمناصب القيادية. فالانقلابات، اكتسبت سمعتها السيئة لأنها أثبتت أنها مدخل طبيعي للاستبداد والديكتاتورية والانفراد بالسلطة وعدم احترام إرادة المواطنين، فكيف يحترم هذه الإرادة من جاء للحكم بالعنف وبقوة السلاح؟. واكتسبت الانقلابات سمعتها السيئة أيضًا لما رأته الشعوب الإفريقية وتأكدت منه من أنها عائق كبير أمام تنمية وتطوير بلاد إفريقيا، وأنها دعامة للتخلف، ومشجعة على الهجرة والحروب الأهلية، وهي أمور مرفوضة ومُدانة. إلَّا أن انقلاب النيجر الأخير دفع هؤلاء إلى مراجعة مواقفهم، والعودة مرة أخرى إلى الحقائق الثابتة التي تؤكد أن ثقافة الانقلاب، والأنظمة الشمولية، وتزوير إرادة الناس، مازالت هي المسيطرة على الشأن الإفريقي، وأنه مازال الوقت مبكرًا للتخلص من نظام الحزب الواحد ومن التدخلات العسكرية لحسم الشأن السياسي. لكن في نفس الوقت لا يمكن إغفال أن سياسة رئيس النيجر المطاح به، "مامادو تانجا"، هي التي أغلقت كل أبواب التغيير الطبيعي، ومنعت تداول السلطة بالطرق القانونية، فلم يجد الجيش بُدًّا من التدخل لإزاحة هذا الطاغية المستبد وتخليص الناس من استبداده وتسلطه. فقد أدخلت سياسات "مامادو تانجا" النيجر في أزمة سياسية خطيرة منذ أن قرر هذا الرجل -البالغ من العمر 71عامًا، والذي كان يفترض أن تنتهي ولايته الأخيرة قبل خمس سنوات- البقاء في السلطة بأي ثمن، محاولاً الدفع باتجاه تبني دستور جديد يتيح تمديد ولايته، لكن الدستور ينص على أنه لا يجوز أن يبقي الرئيس في الحكم سوى مدتين، كل منهما خمس سنوات، فلجأ إلى تعديله ليسمح له بفترة ثالثة، وحينما رفض البرلمان محاولاته قام بحله، ولما أعلنت المحكمة الدستورية أن بقاءه في الحكم بعد المدة الثانية غير قانوني، بادر بحلها هي الأخرى، ثم أجرى استفتاءً شعبيًّا في أغسطس2009م سمح له بالبقاء حتى 2012م، وأعلن أنه سيدير شئون البلاد بمراسيم قوانين لا تحتاج لموافقة البرلمان، وهنا خرج الآلاف من المحتجِّين إلى الشوارع مطالبين باستقالته، ووصف تحالف أحزاب المعارضة وجماعات حقوق الإنسان والنقابات العمالية الاستفتاء بأنه انقلاب. سلوك رئيس النيجر السابق وعدم احترامه للدستور والقانون هو السبب الرئيس للانقلاب، الذي كان هو المخرج الوحيد لوقف استهتاره بالدستور والتمسك بالسلطة، بعدما فشلت كل محاولات إقناعه بالتخلي عن مساعيه للعبث بالدستور وخصوصًا المواد المتعلقة بتحديد ولاية رئيس الدولة بفترتين فقط. الاحتجاجات الداخلية واعتراضات القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات، تواصلت لإقناع "تانجا" بالاحتكام إلى العقل والمنطق والقانون إلا أنه رفض. أعطى "تانجا" ظهره للجميع، ففي النيجر حياة سياسية وكوادر وأحزاب ومعارضة ومنظمات مجتمع مدني، ولكنه لم يرَ في المشهد إلا نفسَه فقط. هناك تسعة أحزاب، منها سبعة ممثلة في البرلمان، بالإضافة إلى حزبين غير ممثلين، وهذه الأحزاب هي الأساس الأول المشكِّل للحياة السياسية بالنيجر، فحزب الحركة الوطنية لتنمية المجتمع له 47 مقعدًا بالبرلمان، وحزب النيجر الديمقراطي الاشتراكي له 25 مقعدًا، والائتلاف الديمقراطي الاشتراكي له 22 مقعدًا، والحشد الديمقراطي الاشتراكي له 7 مقاعد، والحشد الديمقراطي التنموي له 6 مقاعد، وحزب التحالف للديمقراطية وتنمية المجتمع له 5 مقاعد، والحزب الديمقراطي الاشتراكي له مقعد واحد، بالإضافة إلى حزب الاستقلال وحزب التنمية غير الممثلين بالبرلمان، وهذه الأحزاب تعبر عن إرادة الناس بعد أن وصلت إلى البرلمان في انتخابات حرة، ولكن الديكتاتور أسقط كل هذه الإرادات وأصر على السير حتى النهاية. كما كانت هناك ضغوط من جهات دولية متعددة من أجل إقناع "تانجا" بوقف مشروعه الاستبدادي الأناني، لكن دون جدوى، فبذلت مجموعة الدول الفرانكفونية والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي مساعيَ في هذا الاتجاه، إلا أن الرجل كان مصممًا على الاستمرار في السلطة بأي طريقة وبكل سبيل ولم يستمع إلى أية نصيحة. وهكذا وجه هذا الطاغية طعنة للتطور السياسي والديمقراطي الذي كان يمكن أن يتم تدعيمه في هذا البلد الفقير، الذي احتلته فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، والذي أصبح في عام 1904م جزءًا من إفريقيا الغربية الفرنسية، والذي تحول إلى مستعمرة فرنسية عام 1922م، والذي أصبح عام 1946م من الأقاليم الفرنسية فيما وراء البحار، والتي لها مجلسها التشريعي الخاص بها، بالإضافة إلى التمثيل النيابي في البرلمان الفرنسي، والذي تمتع بالحكم الذاتي تحت الوصاية الفرنسية بعد قيام الجمهورية الخامسة بفرنسا في 4 ديسمبر 1958م، والذي نال استقلاله الكامل في 3 أغسطس 1960م. التطور السياسي في النيجر بدأ بعد الاستقلال بحكم مدني أحادي الحزب، كما هي العادة في غالبية الدول الإفريقية، ثم عانى من الانقلابات العسكرية التي يعقبها انتخابات حرة وتعددية سياسية، وصار الأمر على هذا المنوال حتى تم التوافق على اقتراع وطني لإعلان الجمهورية الخامسة، والذي أشرف عليه مراقبون دوليون وصفوه بالحيادية والنزاهة، ووافق خلاله أبناء الشعب على إقامة الجمهورية الخامسة للبلاد في يوليو من عام 1999م، مما ساعد على إجراء انتخابات رئاسية في أكتوبر ونوفمبر من العام نفسه، فاز خلالها تحالف الحركة الوطنية للتنمية والائتلاف الديمقراطي الاشتراكي برئاسة البلاد تحت زعامة "مامادو تانجا". وتم إقرار الدستور الجديد للنيجر في 18 يوليو من عام 1999 والذي تم بموجبه إجراء أول انتخابات محلية ناجحة في 24 يوليو من عام 2004م. وفي 4 ديسمبر عام 2004م تم إعادة انتخاب الرئيس "مامادو تانجا" لفترة رئاسية ثانية خلال الانتخابات التشريعية للبلاد، وذلك بعد تفوقه على منافسه "مامادو إيسوفو"، حيث حصل "تانجا" على نسبة 65.5% من نسبة الأصوات، في حين حصل منافسه على 35.5% فقط. أي أن الأمور كانت تسير في اتجاه توافق شعبي على تعددية سياسية وانتخابات حرة وتداول سلطة ورفض الانقلابات العسكرية، إلا أن "تانجا" رفض إلا أن يخالف الدستور ويخرق القانون من أجل أن يشبع من الحكم الذي ظل فيه طيلة عشر سنوات كاملة، مما دفع الجيش للعودة مجددًا للانقلابات التي كان آخر عهد البلاد بها عام 1999م. ومنع "تانجا" بسلوكه الأناني التطور السياسي الطبيعي لبلاده، التي تعتبر من أشهر أقاليم الغرب الإفريقي الذي طرح تجربة "المؤتمر الشعبي الوطني" أوائل التسعينيات من القرن الماضي ضد الانقلابات العسكرية التي سادت لحوالي العقدين، متجاوبًا مع تجارب بنين ومالي وغانا وبوركينا فاسو. ولذلك فلم يكن غريبًا أن تعمَّ المظاهرات أنحاء النيجر دعمًا للسلطات الانقلابية الجديدة التي وعدت بإعادة الديمقراطية التي عطلها الرئيس المطاح به. النيجر دولة فقيرة حسب معايير الأممالمتحدة، بسبب التصحر الذي تعاني منه، لكن لديها إمكانيات ضخمة تحتاج لمن يستغلها ويطورها، والذي يستطيع ذلك هو نظام سياسي منتخب ذو قاعدة شعبية يتمتع بالاستقرار الناتج عن رفض التغيير العنيف ورفض تزوير الانتخابات، فالنظم المستبدة تثير القلاقل وتنشر المظالم وتعيث في الأرض فسادًا، ويصبح الفساد هو الشعار والرمز، وهنا تشتعل الأزمات وتُنهب الثروات والموارد ولا تستغل الثروات. فثروة النيجر من "اليورانيوم" كبيرة جدًا، فهي ثاني أكبر دولة منتجة له في العالم، لكن العجيب أن أسعاره العالمية في تراجع مستمر، وكان المذهل أن هذا القطاع الحيوي أصبح يحقق خسائر بدلاً من أن يجني أرباحًا كبيرة، وإنتاج هذا المنتج الحيوي يتم بالمشاركة. فمنذ 40 سنة ومؤسسة "أريفا" العالمية تستنزف مصادر النيجر هذا البلد الأشد فقرًا في العالم، لكي تموِّل به مشروعات فرنسا لإنتاج الكهرباء النووية، بالمجان تقريبًا. وبالإضافة لسرقة الشركات العالمية لخيرات النيجر وثروته من اليورانيوم، فإن هذه الشركات المستغلة أضافت لهذا البلد مشكلتين كبيرتين، هما مخاطر الإشعاع وتراجع مخزون المياه في مناطق كبيرة تعتمد على الرعي، لدرجة لم يعد معها بإمكان كثير من القبائل ممارسة الرعي نتيجة لنضوب المياه، لتسليم الدولة 139 رخصة تنقيب واستغلال عن اليورانيوم في السنة الواحدة، وهذه الأنشطة تتطلّب كميّات كبيرة من المياه. وتشير التقارير إلى وجود كميات كبيرة من احتياطات الذهب بين نهر النيجر والمنطقة الحدودية المتاخمة لبوركينا فاسو. وفي عام 2004م افتتح منجم الذهب بهضبة "سميرة" بمقاطعة "تيرا"، وبلغ إنتاج المنجم في العام الأول 135 ألف أوقية. كما تقوم شركة وطنية لإنتاج الفحم باستخراجه من عدة مناطق، كما تم الكشف عن احتياطات من الفحم عالي الجودة في جنوب وغرب البلاد. وتمتلك النيجر، أيضًا، احتياطات من النفط تقدر بنحو 324 مليون برميل تم الكشف عنها، وبانتظار الكشف عن احتياطات جديدة بصحراء تينيري، وأعلنت النيجر عن إنتاج أول برميل للنفط تصدّره للسوق الدولية عام 2009م. ولكن هذه الثروة تحتاج إلى نظام وطني لاستثمارها وتسويقها بأعلى الأسعار واستغلال مردودها في التنمية.. نظام يستطيع اكتشاف المهارات والكوادر والمواهب الإدارية والفنية التي تبدع وتفيد شعبها. وجرت العادة أن الأنظمة الاستبدادية والعسكرية لا تكتشف ذلك، لأنها لا تمتلك المؤهلات التي تمكّنها من الاكتشاف. ولعل حكامنا العرب، الذين بلغت ديكتاتوريتهم واستبدادهم وعدم مبالاتهم مبلغًا غير مسبوق، لم يقنعوا بعشرات السنوات التي تمتعوا فيها بالسلطة المطلقة بلا أي مردود تنموي وإصلاحي لأوضاع بلادهم، وإنما يسعون لتوريث أبنائهم هذه السلطة التي يرون أنها وقف عليهم وعلى أبنائهم وأسرهم دون بقية المواطنين، لعلهم يأخذون العبرة ويقتنعون بأن سد السبيل أمام الناس للتغيير وغلق أبواب الأمل في وجوههم سيؤدي إلى نتيجة مشابهة لما حدث في النيجر، وربما بشكل أعنف. الاسلام اليوم الاحد 14 ربيع الأول 1431 الموافق 28 فبراير 2010