بقلم د. محمد عبدالرحيم كافود (ناقد وأكاديمي قطري) كنا ولازال- البعض- مبهوراً ومعجباً بالأنظمة الغربية وما وصلت إليه من تأسيس نظام ديمقراطي تتمثل أهم عناصره في نظام انتخابي حر يؤدي إلي تداول السلطة. وسن القوانين التي تكفل حقوق الإنسان- ومن أهم عناصرها- العدالة، والمساواة، وحرية التعبير.. إلخ. وكلها أمور واضحة الدلالة، منجزة إلي حد كبير داخل المجتمعات الغربية- وأؤكد علي داخل تلك المجتمعات- وفي حدود المواطنة- ولكنها خلال السنوات الأخيرة بدأت و بصورة واضحة، تتقلص وتتواري معظم تلك القيم، أو يتم تجييرها لدوافع سياسية، وشخصية، واقتصادية.. إلخ. وربما يكون لسقوط المعسكر الشرقي الاتحاد السوفييتي سابقا أحد الأسباب حيث أن الأنظمة الغربية- ذات الطابع الديمقراطي تواجه النظام الشمولي في الأنظمة الشرقية- وكانت قيم الديمقراطية- آنذاك- أهم عنصر من عناصر المواجهة والمفاضلة بين النظامين، فكانت تلك القيم سلاحاً فعالاً في المواجهة والتحدي. أما السبب الثاني والأساسي في تخلي وتضحية المجتمعات الغربية ببعض قيم الديمقراطية، فهي أحداث سبتمبر 2001م التي هزت تلك المجتمعات من الداخل متمثلة بداية بالمركز- الولاياتالمتحدةالأمريكية- رمز القوة العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، لتلك المجتمعات. تبع ذلك ارتدادات لهزات متفاوتة عصفت بالمجتمعات الأخري التابعة- ورغم استنكار ورفض غالبية المسلمين لمثل تلك الأعمال- لكن النتيجة أن هذه الأحداث كانت جزءاً من المبررات التي سحقت أو جبرت القيم الديمقراطية في الغرب- وإن كانت هناك انحرافات، وتجاوزات وأهواء دنست قيم الثقافة الديمقراطية بين الحين والآخر، ولكن لم يصل الأمر إلي ما و صل إليه خلال العقد الأخير من القرن المنصرم، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأما عن تلك الممارسات السابقة حول التلاعب بالقيم الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان فقد تناولها الكثيرون، ولكن لكي أكون موضوعياً - أريد أن أحيل القاريء إلي كتابين للمفكر الأمريكي المعروف نعومي تشومسكي علي اعتبار أنه وشهد شاهد من أهلها.. وهما كتاب القوة والإرهاب، جذورهما في عمق الثقافة الأمريكية.. وكتاب الربح علي حساب الشعوب .. حيث يفند من خلالهما بعض الممارسات والانحرافات بل والتجاوزات لكل القيم الديمقراطية والإنسانية، تحت زيف مظلة العدالة، وحقوق الإنسان، والأمن والاستقرار، ومحاربة الارهاب.. إلخ وهي كما نقول دائماً كلمة حق أريد بها باطل. في الوقت الذي باتت فيه قيم الديمقراطية تترنح تحت وطأة التجاوزات والانتهاكات في المجتمعات الغربية وعلي رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية، في الوقت نفسه علت دعواته وتوجيهاته بل وتهديداته بضرورة نشر الديمقراطية في المجتمعات الشرقية، وفي المجتمع العربي بصفة خاصة. وهي كدعوة ومبادرة مقبولة من حيث المبدأ بل مرحب بها- خاصة أن المجتمع العربي يفتقد، ويفتقر إلي تلك القيم الديمقراطية التي هي مطلب إنساني تتطلع إليه البشرية علي اختلاف أجناسها منذ أن خلق الله الإنسان، وكرمه وجاءت الرسالات السماوية والكثير من النظم والقوانين الوضعية التي تنادي بمثل تلك القيم. ومن هنا فإنه لا يمكن لأي إنسان سوي أن يعارض أو يقاوم تلك القيم لأنها مطلب أساسي لدي جميع الشعوب. إذن لماذا توجس البعض، وتحفظ البعض، ورفض البعض تلك الدعوات التي جاءت في الآونة الأخيرة من الغرب وعلي رأسها دعوات وتوجيهات الرئيس الأمريكي بوش ؟!. لا يتوقف الرفض علي مجرد أنه مشروع أمريكي كما صوره ويصوره البعض، معللين ذلك بأنه يرجع إلي موقف عدائي تقليدي بين العالم العربي والغرب، وإن كل ما يأتي من الغرب وإن كان فيه صلاح إلا أن الشك ونظرية التآمر تقف حجر عثرة في طريق الإصلاح.. وهو تعليل يلجأ إليه البعض ممن يحسنون الظن، أو ممن مازالوا يعتقدون أن أمريكا تمثل قمة الديمقراطية والمصداقية في تعاملها مع الشعوب.. وهذا خلاف ما تؤكده الممارسات والسلوكيات التي تتعامل بها علي أرض الواقع. بل إن الرفض للمشروع الأمريكي جاء من قبل معظم الأنظمة العربية إن لم يكن كلها ولو علي استيحاء.. لأن هذه الأنظمة تدرك أو تعتقد أن أي تنفيس أو انفتاح فيما يتصل بالأنظمة السائدة سوف يفقد هذه الأنظمة قدرتها علي السيطرة والتحكم ويؤدي إلي تقليص صلاحياتها، وإن كانت ديمقراطية صورية يتم ترويضها وتأطيرها بما يضمن مصالح الأنظمة، والمصالح الغربية المتعاونة في الوقت نفسه.. إلا أن بعض تلك الأنظمة أعلنت معارضتها بحجة أنه تدخل في الشؤون الداخلية. وفي اعتقادي أن المشروع الأمريكي للدمقرطة تتلخص أهدافه من وجهة نظري الخاصة- وقد أكون مخطئاً- في الأبعاد الآتية: 1- توجيه أو ممارسة قدر معين من الضغط علي الأنظمة العربية لمزيد من التنازلات، وخاصة علي بعض الأنظمة التي تحاول شق عصا الطاعة. 2- استرضاء- بخس- لشعوب المنطقة، بل نوع من المخادعة، لتمرير مشروعاتها- وتخفيف وتهدئة للغضب الشعبي- غير الفاعل- الذي تواجهه بسبب ممارساتها السياسية والعسكرية في المنطقة. 3- تأكيداً وتبريراً لدعم مزاعمها أن غزو واحتلال العراق من دوافعه هو وضع نموذج ديمقراطي لكي يحتذي في المنطقة. 4- ايجاد مزيد من الانشقاق والتباعد بين الأنظمة العربية وشعوبها حول قضية الديمقراطية والحريات العامة. نعود للقول إن الديمقراطية والحريات الحقة مطلب إنساني، وهو حق مكتسب والمنطقة العربية ليست استثناء من ذلك فهي في أشد الحاجة إليه حيث أنه لا استقرار ولا تنمية ولا نهضة دون تهيئة الأرضية والبيئة المناسبة وهو وجود الحرية والعدالة والمساواة التي تعد من أهم عناصر ومقومات الحكم الديمقراطي.. لكن الرفض والتوجس الذي واجهه المشروع الأمريكي الغربي ناتج عن مجمل المعطيات التي أشرنا إليها، بعضها بل معظمها موضوعي ومنطقي وبعضها قد يكون موضع خلاف خاصة عندما نقول إن المشروع بأبعاده الاستراتيجية السياسية ينطق بأن وراء الأكمة ما وراءها.. فلو أمعنا النظر وبرؤية عقلانية موضوعية في الممارسات والمواقف لوجدنا أنها هي التي أجهضت وأسهمت في فشل عملية الإصلاح. فبالإضافة إلي الأسباب التي أشرنا إليها، نجد أن هناك مجموعة من المعطيات تتجسد علي أرض الواقع تتناقض والمزاعم التي يبشر بها المشروع. ونقتصر علي بعض الأمثلة منها: الانتخابات ونتائجها في فلسطين حين وصلت حماس إلي السلطة رفضت أمريكا ومعظم الدول الغربية الاعتراف بها أو التعاون معها وعملت ومازالت تعمل المستحيل لاسقاطها. مخالفة لكل القيم الإنسانية والديمقراطية. وبغض النظر عن كونك تختلف مع - حركة حماس- إلا أن الممارسة الديمقراطية لها استحقاقاتها، وعليك أخلاقياً أن تلتزم بها. ولكن نتائج الديمقراطية هنا لم تكن في صالح المشروع الأمريكي الغربي، ولا في صالح بعض الأنظمة العربية في المنطقة، وعلي رأسها السلطة الفلسطينية، فأفقدت النتائج الانتخابية هؤلاء صوابهم، فكان الحصار والتجويع، والتهديد والضغط بمختلف الطرق لاسقاط حكومة حماس التي تشكلت بعد مساومات ومماطلات معروفة.! أهذه هي الديمقراطية؟ ومثال آخر تجسد قبل ذلك في موقف الغرب من جبهة الانقاذ في الجزائر، حين سعوا من خلف الستار إلي الغاء الانتخابات التي كانت سوف توصل الجبهة إلي السلطة. وإذا كان البعض يعترض ويري عبارة خلف الستار من سوء الظن، ونظرية التآمر والتشكيك، فلنعد عن ذلك، ونطرح السؤال أو التساؤل الآتي: وهو لماذا سكت الجميع ولم يعترض أحد عن تصرفات السلطة الجزائرية آنذاك ويستنكر ذلك الموقف المشين من الديمقراطية بإلغاء نتائج الاقتراع..؟!. هناك أنظمة كثيرة عربية وغير عربية تمارس القهر والاضطهاد وبعيدة كل البعد عن قيم الديمقراطية. ولكن لأن تلك الأنظمة متجاوبة ومتسقة مع الأنظمة والمصالح الغربية، أصبحت تلك الأنظمة في مأمن وبعيدة عن أية مساءلة أو نقد، بل من الغريب أن مثل هذه الأنظمة تتمتع بالرعاية والأفضلية مع زعماء الدول الديمقراطية في الغرب. لعل مثل هذه المواقف المتناقضة تكشف بجلاء الزيف والتدليس حول الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يتشدقون بتصديرها وتطبيقها في المجتمعات العربية، وهم يفعلون النقيض من ذلك. قيم الديمقراطية وازدواجية المعايير- حرية التعبير نموذجاً:، تلك المزاعم الجوفاء، والدعاوي الزائفة تتحطم عندما تحتك عند أهم عناصر ومقومات الديمقراطية وهي حرية التعبير التي ينادون بها ويتباكون أحياناً علي ضياعها- وهذا حق- ولكن أين حرية التعبير، وإلي أي قدر تثبت مصداقيته في ممارساتهم وسلوكياتهم تجاه الآخر؟. لا نتردد في إدانة وتجريم أولئك الذين ارتكبوا ما يعرف بالمحرقة ، المحرقة التي راح ضحيتها بعض اليهود أي المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وهذه الحرب كانت ضحاياها لا تعد ولا تحصي، ولا تقل عنها فظاعة وإجراماً قنبلتا هيروشيما و نجازاكي في اليابان اللتان كان ضحاياهما أبرياء من الأطفال والنساء والكبار... والمحارق كثيرة وليس ولن يكون آخرها محرقة غزة. ولا تختلف الإبادة بالحرق عن الإبادة الجماعية بالقنابل الذرية، أو قنابل النابالم، والقنابل الذكية التي رغم ذكائها لا تفرق بين الجندي المحارب وبين المدني المسالم. ولكن رغم ذلك نقول بإدانة المحرقة النازية، ولكن من مبدأ حرية التعبير لا يجوز أن يجرم ويعاقب أي صاحب رأي حين يحاول تفنيد وتصحيح بعض المزاعم والأباطيل والمبالغات التي نسجت حولها حتي وصل بها حد القداسة، ومن ثم أصبح محرماً الاقتراب منها.