إن الفكر العربي الإسلامي لا يثبت الثبات المرجو وترتكز دعائمه الصلبة إلا بأهله العاملين والراغبين في التغيير إلى الأحسن والساعين إلى امتلاك آليات التحديث ، التي لا تزال مفاتيحها بعيدة عنا طالما نحن في غيبوبة لا نتحرك ، ولا نبذل الجهد في الطريق الصحيح لأن أفكارنا لا تزال برمجيتها معتمدة على الماضي فقط ، ودون نظر إلى حاضرنا المختلف الذي تفشت فيه العطالة الفكرية في مختلف الإتجاهات ، وأصبح بيننا وبين التنوير الصحيح مسافات من التصحر والجفاف ونحن نترقب في محطة الإنتظار الزمن الوردي الذي لا ولن تأتي به الصدف والمعجزات ، إنما تأتي به الإرادة الخلاقة الفاعلة والتي تفرق بين الجوهر من الدين الذي تتضمنه نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة وبين الأحكام الإجتهادية الأخرى لأيمّة الدين المبنية على علة أو عرف متغير أو مصالح مرسلة تقتضيها حاجة الناس في المجتمعات الإسلامية لأن جوهر الإسلام له البقاء والخلود ، وما عدا ذلك فإن أحكامه قابلة للتطور وإعمال الرأي ، وهذا مبدأ من المبادي التي ميزت هذا الدين عبر العصور عن غيره من الأديان . فالتطور والإجتهاد في الفكر الإسلامي ، ليس معنى ذلك أن نغير ونحول المبادئ والأهداف والقواعد الشرعية للإتجاه بها نحو الأفكار المادية البحتة والمسايرة للأهواء . كلا وألف كلا لأن هذا يسمى ذوبانا في المستنقعات الآسنة. " فالمجتمع المسلم المعاصر في نظر التفكير الإسلامي المحافظ ينبغي أن يتقيد كل التقيد بما كان عليه المجتمع المسلم الأول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين على الخصوص فلا يكاد يوجد إذن للعقل والإجتهاد دور للتكيف إسلاميا مع مقتضيات العصور . ومن المؤكد أن ( الطالبان حكام أفغانستان ) قبل 11 سبتمبر 2001 كانوا يمثلون المنظور السياسي الديني الإسلامي الأشد تحفظا أو تطرفا على الإطلاق في العالم الإسلامي في العقود القليلة الماضية .....إلا أن المجتمع الإنساني الأمثل في القرن الحادي والعشرين اليوم أو في الماضي القديم أو في المستقبل البعيد ، لا يبدو أنه قابل للتحقيق إلا في تلاحم جدلي بين الروحي والمادي ، يجب حصول الحوار المثمر والمستمر بين المعرفة الإنسانية المادية ، والمعرفة السماوية الروحية . ومن ثم ينبغي تبني هندسة المجتمع العالمي أو المجتمع الصغير نتيجة لحوار متواصل بين الهدي السماوي وهدي العقل الإنساني هنا على الأرض ، إنه " باختصار " مجتمع حوار العقل مع النقل كما أكد على ذلك النص القرآني بكل وضوح ، وكما نادى بذلك أهل الذكر المسلمون الأولون عن علماء وفقهاء ، ومفكرين في الحضارة العربية الإسلامية في أوج نهضتها وسيادتها في العالم بأسره . فالآيات القرآنية المتحدثة عن سمة التفكير المميزة للإنسان عديدة " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا " (الإسراء الآية 70) إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " " إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " " إن في ذلك لآية لقوم يتذكرون " .... فالدعوة إلى أهمية التفكير في القرآن كانت دائما موجهة إلى الإنسان وهذا يعني أن التفكير هو ميزة الإنسان الكبرى التي تفصل بيننا وبين بقية المخلوقات بطريقة جذرية قاطعة ، وتعطيه وحده في الوقت نفسه التأهل الكامل لأداء دور الخلافة / السيادة في هذا العالم . إذن فالدعوة إلى التقليل من شأن التفكيرعند الإنسان تتعارض مع موقف الإسلام المستوحى من القرآن والسنة كما أنها تتناقض أيضا مع مقولة الإسلام المشهورة وهي : " أنه دين عقل ونقل وليس دين نقل فقط " الدكتور محمود الذوادي المجلة العربية عدد 391 أوت 2009 ص 87 . فأزمة الفكر الإسلامي وإن بدت فيه بعض العناصر التنويرية هنا وهناك ، إلا أن ذلك لا يفي بالطموحات المنشودة ، حيث إن الأفكار المتحجرة والجامدة أبت أن تساير العقول المتزنة ، إذ كثيرا ما نشاهد في عديد القنوات التلفزية بعض الدعاة من أصحاب الفكر التكفيري والجهادي والذين تحجرت أذهانهم ولا يركنون للحوار وفهم الإسلام الفهم الصحيح حسب المقاصد الشرعية على مدى العصور ، فهؤلاء المتطرفون الذين يطلون علينا بين الحين والحين ، وكأنهم أوصياء على الدين وامتلاك الحقيقة ، بينما للدين رب يحميه وله رجالاته البررة في كل قطر من أقطارنا تصونه وترعاه من التوظيف لهذه الجهة أو تلك ، ولسنا اليوم في حاجة لمن يريد منا التمترس في غياهب الفكر الجامد المقيت من ناحية ، والمتسيس من ناحية أخرى ، والذي عانيناه طويلا قديما ، ونعانيه اليوم بأشكال وعناوين مأساوية مختلفة كلها ترفض التجديد ، وتغتال العقل ، وتحتكر الحقيقة ، وتنشر الدمار . فالفكر الإسلامي في المشارق والمغارب يحاولون جره عنوة إلى الفكر المتشدد الذي يحارب الإجتهاد ومواكبة العصر فيما ينفع الناس ، علاوة على ما في هذا الفكر من أطروحات تجيز العنف بفروعه القاسية والمختلفة هنا وهناك ، وقد وعينا أهدافه العقائدية والإيديولوجية ، والمذهبية والطائفية . وعندما نضع هذه الممارسات في إطارها الصحيح ندرك أن هؤلاء الرهط أساؤوا إلى الفكر الإسلامي إساءة لا تمحى من الذاكرة الفكرية السنية على مدى التاريخ . فالعمليات الإنتحارية والسيارات الملغومة ، والعبوات الناسفة التي ذهب ويذهب ضحيتها آلاف الأبرياء من الأطفال والشباب والنساء والشيوخ ، ولم تسلم حتى بيوت الله التي يذكر فيها اسمه ، وكذلك النزل والأسواق التجارية والمشافي .......في العراق ، والجزائر ، ولبنان ، والصومال ، وأفغانستان ، وباكستان ، والسودان ، واليمن ....فهذه الممارسات التي تقتل الأبرياء من الناس ليست مقاومة شريفة تقرها الشرائع ، بل هي ضرب فضيع من الإرهاب تتقزز منه الإنسانية بمختلف انتماءاتها الدينية والمذهبية ، وقد دأبنا على مشاهدة هذه الفضاءات على الشاشات العربية والأجنبية ، ولا تستطيع أي جهة إيقاف هذا الفكر المغولي النازي الهدام والذي أحال دماء الناس أنهارا وفي عديد الأماكن من بلاد الإسلام . حبذا لو نستطيع إيقاف هذا التيار المنحرف بالحكمة والفكر المعتدل لنتجنب المزيد من الضحايا التي طفح بها الكيل ، بعد الجرح الفلسطيني النازف منذ عقود ولا زال ... لكن الشيء الغريب الذي نسمعه ونشاهده من بعض القنوات التلفزية وحتى الجادة منها التي تفسح مجالها الإعلامي لبعض المحللين الذين لا يتحدثون حديثا منطقيا وإنسانيا، يشجب ويشنع مثل هذه الممارسات المنبوذة من الجميع ، بل نراهم يعطون أبعادا نضالية لهؤلاء السفاحين ولشيوخهم فلان وعلان . ألهذا الحد وصل بنا التوظيف الرخيص ؟ ودون اعتبار لقيم ديننا الإسلامي الحنيف الذي يقول قرآنه : " ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق " الأنعام الآية 151 وقوله تعالى : " لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " المائدة الآية 28 . وفي الختام نرجو التوفيق لعلماء الأمة ومفكريها ليهبوا هبّة رجل واحد ، للوقوف سدّا منيعا لمحاصرة الثقافة العرجاء التي نأت وتنأى بنا عن اليقظة والتجديد ومسايرة العصر في كل ماهو إيجابي لحياة الناس ، وبدون هذا سوف لا يكون لنا مكان في عالم القرن الواحد والعشرين وحتى لا نبقى مستهلكين لنتاج حضارة الآخر أبد الدهر ، علينا إعداد الأجيال الصاعدة إعدادا حسب منهجية واضحة ومدروسة دراسة معمقة من أهل الذكر ، اجتنابا للإرتجال الذي عانينا منه طويلا ، حيث أجهضت عديد التجارب التربوية في بلداننا مشرقا ومغربا وبدون ذلك سوف تعصف بنا رياح التخلف العاتية وتغمرنا أمواج " تسونامي" وإلى الأبد. صحيفة "الوطن" العدد 131 الصادر في 2 أفريل 2010 المصدر بريد الفجرنيوز