خبير الزلازل الهولندي يحذر العالم من زلزال محتمل بداية 2026    كاس امم افريقيا 2025: الجزائر تفوز على غينيا الاستوائية 3-1 و تحقق العلامة الكاملة    طقس آخر ليلة في سنة 2025 كيف سيكون؟    رضا الشكندالي: تخفيض الفائدة تحوّل في السياسة النقدية لكن المخاطر الاقتصادية مازالت قائمة    وزير الخارجية: تونس تفاوض الاتحاد الأوروبي لرفع حصة تصدير زيت الزيتون إلى 100 ألف طن    الخارجية الفرنسية: نتابع بقلق الوضع في اليمن    تحويل جزئي لحركة المرور على مستوى مفترق المروج 1 و2    نيوزيلندا أولى الدول المرحبة بالعام الجديد 2026    بورصة تونس تحقق أداء مميّزا خلال سنة 2025    مركز بحوث وتكنولوجيات المياه بالقطب التكنولوجي ببرج السدرية يحتل المرتبة الثامنة عربيا في مؤشر براءة الاختراع والطلب    كرة اليد: تأجيل النظر في احتراز المكنين الى الخميس القادم    احتفالات رأس السنة في تونس: عادة اجتماعية تعيد الدفء العائلي وتخفّف ضغوط العام    بن عروس: تواصل الدروس التوعوية لفائدة 593 حاجا وحاجة بمختلف معتمديات الجهة    في خطاب رأس السنة.. بوتين يوجه رسالة للجنود الروس    الكاف: تقدم انجاز موسم البذر للزراعات الكبرى بنسبة 90 بالمائة    القنوات المجانية الناقلة لمباراة الجزائر وغينيا الاستوائية في أمم أفريقيا    عاجل: انقلاب شاحنة في باجة وإصابة أربعة أشخاص    باجة: تسجيل 233 مخالفة اقتصادية منذ مطلع ديسمبر الجاري    ليلة راس العام ....الوطنية 2 تفاجئ التوانسة كالعادة    برج الميزان في 2026: عام إعادة التوازن    أبراج تعيش سعادة غير مسبوقة بداية من آخر يوم فى 2025...انت منهم ؟    وزارة الفلاحة توصي الوافدين على تونس بالامتناع عن جلب النباتات والمنتجات النباتية    2 جانفي: الانطلاق في تعويض من تخلّفوا عن خلاص الحجّ بتوانسة في قائمة الانتظار    هام/ الديوان الوطني للمناجم ينتدب..#خبر_عاجل    استشهاد طفلة فلسطينية في قصف الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة..    غدا.. الدخول إلى المتاحف والمواقع الأثرية مجانا..    رئيس الجمهورية يأمر بالتدخل الفوري لرفع النفايات وتنظيف الحلفاوين    محكمة الاستئناف تؤيّد الحكم بسجن الصحبي عتيق 15 عامًا    4 أفكار تنجم تستعملهم وتزيّن طاولة راس العام    مالي وبوركينا فاسو تفرضان قيود تأشيرة مماثلة على الأمريكيين    كيفاش طيّب ''نجمة السهرية ''دجاجة راس العام ؟    قبلي: تكثيف حملات الرقابة على المحلات المفتوحة للعموم تزامنا مع التظاهرات الثقافية والاحتفالات براس السنة الادارية    النجمة العالمية مادونا تختار المغرب لقضاء عطلة رأس السنة    مصر تأمل في استضافة كأس أمم إفريقيا في آخر نسخة بالشكل القديم    مرصد المرور يُحذّر التوانسة: لا تتجاوز حدودك الليلة، حياتك وحياة الآخرين أولوية    اليوم: آخر أجل للانتفاع بالعفو الجبائي على العقارات المبنية    حصيلة أبرز الأحداث الرياضية لسنة 2025 ... (الثلاثي الرابع)    بعد تعادل المنتخب مع تنزانيا: حنبعل المجبري يعترف..    مصالح الحماية المدنية تقوم ب 427 تدخلا خلال ال 24 ساعة الماضية    عام 2026: شوف رسائل التهاني بين التوانسة    عاجل/ حجز 1.2 مليون دينار وإدراج مشتبه به في الصرافة بالسوق السوداء بالتفتيش..    مباراة ودية: الإتحاد المنستيري يفوز على نادي حمام الأنف    زهران ممداني يؤدي اليمين الدستورية عمدة لنيويورك    يهمّ التوانسة: المتحوّر ''K'' لا علاقة له بفيروس كورونا    كاس امم افريقيا (المغرب 2025) : برنامج مباريات اليوم الاربعاء    توقيت استثنائي لعمل الهياكل التجارية للبريد التونسي اليوم الاربعاء 31 ديسمبر 2025    لماذا تعلق الأغاني في أذهاننا؟ العلم يفسّر 'دودة الأذن'    سرقة القرن في ألمانيا.. 30 مليون يورو تختفي من خزائن بنك..ما القصة؟!..    الترفيع في السعر المرجعي لزيت الزيتون البكر الممتاز    سلسلة عروض جديدة لمسرحيات "جاكراندا" و"الهاربات" و"كيما اليوم" مطلع العام الجديد    مختصّة في طبّ الشيخوخة: عزلة كبار السنّ خطر رئيسي يرفع نسب الاكتئاب والوفيات المبكرة لديهم    إعطاء الطفل هاتفاً قبل هذا العمر مضر جداً.. دراسة تفجرها وتكشف حقائق خطيرة..    عاجل: هذا موعد الأيام البيض لشهر رجب    تونس من بين الدول المعنية به..تعرف على موعد أطول حالة ظلام دامس بالأرض خلال قرن..    حضور مميز لمندوبية التربية بجندوبة في احياء الخط العربي    ڤريب الشتاء: كيفاش تتعدى، قدّاش يدوم، ووقتاش يلزم تمشي للطبيب؟    «صاحبك راجل» في القاعات المغربية    مع الشروق .. التاريخ يبدأ من هنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذا التراث الآسر: صفو الزمان وكدره (2/2):احميدة النيفر
نشر في الفجر نيوز يوم 08 - 04 - 2010

حين لم يعد الزمن الماضي هو عين الهوية, وحين غدت هذه الأخيرة تقوى بالعمل في الحاضر ضمن رؤية مستقبلية للعالَم أمكن للخطاب القرآني أن يبدع وعيا عربيا جديدا منفتحا على التجارب الإنسانية. عندئذ انبثق الحاضر والمستقبل زمنين جديدين أنهيا الصلة مع الذات المنكفئة على نفسها المعادية لكل ما عاداها بما شكّل هوية منفتحة ومتألقة بهذا التجدد.
في تلك الدورة الحضارية التي شهدتها الجزيرة العربية لم يهمل التراث القديم بل تحدد له من خلال الوعي الجديد منهج تعامل مختلف نوعيا يمكن أن يحدد في النقاط التالية:
أ- الماضي إبداع بشري نسبي استدعاه تمثل الإنسان لوظيفته الأساسية, وظيفة الاستخلاف في الأرض. فالقيمة الأهم في تلك الوظيفة هي في ذلك الإبداع الناشئ عن تفاعل الإنسان مع قضاياه الحادثة وقتها.
ب- التحيز للتراث أو ضده لا يمكن أن يفضي إلا إلى تقلص الوعي الذاتي وإلى تراجع مفهوم التطور بإلغاء تعددية الزمن، وهو الإلغاء المؤدي إلى رؤية عدمية للحياة والتاريخ في حين أن الأجدى هو انفتاح على إبداع الإنسان وكشوفه أياً كان زمانه عبر عملية المثاقفة.
ج- إذا كان كل تراث إبداعا قائما على وعي ذاتي مناسب له فإنه يستدعي إبداعا جديدا أي حداثة مناسبة له, بذلك يكون كل تراث حاملا في طياته بذور تطويره وتجاوزه, مما يؤدي إلى حداثة جديدة تتحول إلى موروث بمرور الوقت متميز عن التراث الأقدم, لكنه يظل ناطقا بروح الثقافة الأصلية.
انطلاقاً من هذه النقاط الثلاث تصبح المقاربة القرآنية للتراث القديم في عصر التأسيس ذات دلالة ثلاثية الأبعاد: مكانة جديدة للإنسان في الكون, ورؤية ديناميكية للزمن, وانفتاح على الثقافات والتجارب من أجل عمل تأسيسي متواصل. هذا المنهج التركيبي- التاريخي قدم للعرب والعجم طوال القرون الأولى للإسلام آفاقا واسعة تطور فيها تراث كل منهما. نمت الثقافة العربية حين وعت ذاتها وذوات غيرها, كذلك حصل للثقافات الأخرى التي استوعبها الخطاب القرآني إلى درجة أنه أصبح من العسير الفصل الكامل في التراث العربي الإسلامي بين ما هو فارسي ويوناني وهندي.
ثم عندما ذوت جذوة هذا المنهج المتميز حضاريا ضاق الناس ذرعا بأنفسهم وزمانهم، عندها ضاقوا بالاختلاف والتنوع فلم يروا فيه جدوى أو ثراء. عندئذ كتب الطرطوشي (ت 520 ه) ينعى لحظته التاريخية وصيرورتها: "الموت اليوم تحفة لكل مسلم. كأن الخير أصبح خاملا والشر أصبح ناظرا وكأن العقل أصبح مدفوعا والجهل منثورا... اليوم ذهب صفو الزمان وبقي كدره".
يبقى سؤال التراث قائما يبحث عن عوامل التحكم في المكونات النفسية للواقع وفي آليات التفكير وفي القيم المرجعية وصلتها بالعلاقات الاجتماعية والسياسية. هذه المعرفة هي وحدها القادرة على تأسيس بدائل مرتبطة بإحداثيات العصر.
بهذا جاز طرح السؤال المنهجي التالي: كيف تكون دراسة التراث طريقا للوعي الجديد المتحرر من الانحطاط والرافض لمحاكاة الآخر؟
للإجابة يجب التذكير بأن مثل هذا السؤال ما كان ليطرح فكريا قبل منتصف السبعينيات من القرن المنصرم, فقد ظل الفكر العربي في المشرق والمغرب منذ الثلاثينيات أسير اختيارات ومواقف لا تتحرج من التنظير -بأشكال متفاوتة- لمقولة أن التراث مصدر من مصادر التخلف العربي الإسلامي. لذلك لو اخترنا اسما واحدا رامزا -من بين أسماء عديدة- إلى طبيعة التطور الذي عرفه فكرنا العربي بخصوص قضية التراث لاخترنا دون تردد الدكتور زكي نجيب محمود. هذا مفكر عربي عاد من أوروبا أواخر الأربعينيات إلى مصر مفتونا بالفلسفة الوضعية الغربية لا يأبه بالتراث العربي الإسلامي, بل يسخر منه ضمن ما سماه عام 1953 "خرافة الميتافيزيقا", ومع السنوات تهاوت قناعات المفكر الرافض للتالد المتهالك فشرع في بداية السبعينيات في مراجعات نقدية عميقة الدلالة. ظهر "تجديد الفكر العربي" ثم "المعقول واللامعقول في تراثنا" وتلاهما كتاب "ثقافتنا في مواجهة العصر". أغرب ما في أمر هذا المفكر العربي هو أن اهتداءه للتراث العربي الإسلامي كان على يد مفكر غربي هو "هربرت رييد" (Herbert Read) الذي يقول: "... لا يؤخذ التراث في أي شعب من الشعوب بالتقديس, إنما يؤخذ لما فيه من نفع في الحياة المعاصرة". من هذه الشرارة انقدح أمام الدكتور زكي نجيب محمود منطلق أساسي مفقود أتاح له التعامل النقدي مع تراث القدامى. وسواء أقلنا إن الدكتور زكي ارتد على نفسه أم أن التراث كان قائما في ذاته وواقعه لا يغادرهما لكنه ظل أبكم ينتظر منهجا يخرجه من صمته المطبق، سواء أقلنا هذا أم ذاك فإن المؤكد أن ما بلغه في المرحلة الجديدة يمثل انعطافة هامة للوعي العربي. لقد أصبح يقول: "عاودت النظر فيما كنت قرأته من مشكلات القدماء وحلولهم لأرى أيَّ تلك المشكلات يمكن أن تكون قائمة أمامنا اليوم. ثم ماذا بين هذه الحلول يظل حلولا لمشكلتنا؟".
ثم توالت الإجابات العلمية عن السؤال الإيديولوجي بعد أن جسّد الدكتور زكي هذه الحاجة المعرفية التاريخية في نموه الفكري والمنهجي.
من ثم ظهرت محاولات جادة في المغرب: عابد الجابري وعلي أومليل وهشام جعيط، وفي المشرق: فهمي جدعان وحسن حنفي وبرهان غليون. مع هؤلاء وغيرهم لم يبق مراء في أن التراث واقع موضوعي قائم يؤثر فينا وفي ترسيمة أذهاننا وبنية مجتمعاتنا ومؤسساتنا؛ لذلك فإن "حوار الذات مع التراث" أضحى اختيارا لا رجعة فيه, لكنه خيار يتطلب جهدا معرفيا ضخما وبحثا ممنهجا وحياة فكرية منفتحة ومتعددة التوجهات.
هذه المطالب الكبرى قادرة أن تغير نوعيا طبيعة العلاقات بالتراث، فعندما يتحول التراث إلى شاهد على تاريخية الحدث الفكري أي عندما يعاد فهمه على ضوء الواقع الذي أفرزه، عندئذ يبدأ الوعي بالذات فتتضح المعوقات الكبرى و«الثقوب السوداء" في البنية العاقلة والشاعرة والمجتمعية. بهذا الفهم لشروط التراث التي تعنيها المقاربة التاريخية المختلفة عن منهج القطيعة معه تظهر إمكانات عودة آليات الثقافة العربية الإسلامية للفعل من جديد. مؤدى هذا أن الحياة العربية لا تنبجس إلا إذا زالت عن المنظومات والمفاهيم الأصلية حالة التخشب التي رانت عليها منذ قرون مما جعل الحركية التاريخية المبدعة صورا تراثية ناتئة.
إن الخروج من الأزمة المعاصرة يقتضي وعيا تجديديا، به يقع تجاوز المرحلة التراثية التي طابقت بين الهوية وتجربة الماضي وبه يكون الدخول إلى العصر بفكر تاريخي يُنظَر من خلاله إلى الماضي والحاضر والمستقبل في سياق معقلن موصول.
لذلك فمعضلة رجال الفكر والثقافة اليوم في عدم تمكّنهم من ولوج التاريخ باعتماد التراث أي بتجاوزه عبر إبداع المعاني والقيم والبدائل الجديدة والمتجددة. عندها لا يبقى التراث كَلاّ أو قيدا لكنه يضحي حركة وحياة تنتهي معها إشكالية التراث. واضح أنه لا يمكن بحال طرح انبثاق التاريخ من التراث بأسلوب تجاوزي إلا إذا تناولنا أيضا هذا التساؤل بما يقتضيه هذا العصر من حتمية التفاعل والتثاقف مع الشعوب والثقافات الأخرى.
روح الزمن -كما يسميها ابن أبي الضياف، أحد المؤرخين التونسيين- هي التي جعلت العالم يعيد الاعتبار للذات بما يتعذر معه تجاهل تجارب الآخر وقيمه وطموحاته. بذلك لا تكون الهوية المعاصرة مجرد تضخم للذات وخصوصيتها الثقافية بل تضحي تفاعلاً مع هوية الآخر وتثاقفاً معه أياً كانت منطلقاته.
من هنا أمكن القول إنه إذا تعذّر اليوم في المجال الداخلي للثقافة العربية إقصاء أي عنصر من عناصر الحركية التاريخية الماضية والحاضرة عند الشروع في بناء وعي إبداعي، فإنه يتعذر تبعا لذلك في المستوى الكوني، نفيُ الآخر فكريا وثقافيا. ذلك أن تفعيل أبعاد الهوية يحتاج إلى الآخر المختلف, وهذا صحيح أكثر من أي وقت مضى، مما يجعل المماهاة التامة مع الآخر مستحيلة والمغايرة التامة معه هي الأخرى ضربا من المحال.
في نهاية المطاف يكون السؤال الختامي الذي تثيره معالجة معاصرة لقضية التراث هو: كيف تتم المشاركة في سياق كوني عبر استيعاب أفضل للموروث الثقافي الخاص؟ بعبارة أخرى: هل يمكن للعرب والمسلمين أن يبدعوا مفهوما للحداثة لا يكون قاطعا مع انتمائهم الثقافي؟
الإجابة عن هذا التحدي ممكنة إذا كان الرهان الثقافي قائما على الوعي بالذات والحرية وتقدير قيمة الاختلاف.
العرب
2010-04-08


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.