رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرب القادمة أو الحرب الدائمة في مركزية المقاومة من أجل تحقيق السلم الدائم
نشر في الفجر نيوز يوم 14 - 06 - 2010

إذا ما أراد الباحث الحصول على تعريف محدد للحرب فإنه من الصعب الحصول على تعريف جامع لها. وبما أن الحرب مثل السياسة مرتبطة بالممارسة اليومية فإن تعريفها عادة ما يرتبط بنوع ممارستها، وبالجهة الممارسة لها، ولذلك فإن تعريفاتها عادة ما تعبر عن الطرف الممارس لها.
من أكثر الأقوال شيوعا في تعريف الحرب أنها مواصلة للعملية السياسية ولكن باستعمال أدوات أخرى. وقد وصف كلاوزفيتز الحرب في كتابه "عن الحرب" بأنها "عمل من أعمال العنف يستهدف إكراه الخصم على تنفيذ إرادتنا". فهي بهذا المعنى صراع على الإرادات. وهي بلغة أخرى إنفاذ إرادة طرف ما على حساب إرادة الطرف الآخر، في حال لا يمكن تحقيق إرادة الأول إلا بإجبار الثاني على إنفاذها، أو في حال اختار وقدر الأول أن ارادته تتحقق من خلال اكراه الثاني. ومن أجل تحقيق اكراه الخصم يمكن أن تصل ممارسة الحرب الى مستويات عليا من التصعيد، ويعود ذلك حسب كلاوزفيز الى جدلية وديالكتيك الصراع وحتمية تصاعده:
"ان الحرب عمل من أعمال العنف، وليس هناك من حدود للتعبير عن هذا العنف، فكل من الخصمين يصنع قانون الآخر. ومن هنا ينتج عمل متبادل، يصعّد الأمور إلى الحدود القصوى. ولا يمكن هزم الخصم أو ربح الحرب إلا عندما يخضع فيها الخصم لإرادتنا".
الحرب إذا حسب هذا التصور صراع وقهر لإرادة الخصم باستعمال وسائل عنيفة تهدد حياة الخصم ووجوده بحيث يدفع العنف بالغرائز البدائية للطرفين المتصارعين، المعتدي والمعتدى عليه إلى السطح، بحيث يصبح الحفاظ على الحياة من جهة، ومن جهة أخرى تهديد وجود الخصم على المحك، وبهذا المعنى فإن الحرب بما هي عمل عنفي تعبير عن استعداد طرف ما لإنهاء وجود خصمه بينما يكون الآخر عادة في وضع لا يرى فيه من حلّ للإبقاء على وجوده إلا بمبادلة العنف بالعنف، أو على الأقل بصدّ العنف الذي يقصد وجوده بعنف يردعه..
في كتابها عن العنف اعتبرت حنة أرند، أن البيروقراطية الحديثة المتجسدة في أجهزة الدولة تمثل أعلى درجات ممارسة العنف والقهر وذلك أنّ بيروقراطية الدولة تحول عملية الإكراه إلى ممارسة شرعية محمية بالقانون، وبرعاية أجهزة الدولة التي تحتكر حق وشرعية ممارسة العنف واحتكار شرعية امتلاك أداواته. ويتجسد عنف الدولة الحديثة حسب هذه المقاربة في تحول عملية التحكم في إرادة المحكومين إلى التحكم في مجال امكاناتهم وأفق حركتهم بل وفي مجال مخيالهم وآمالهم بحيث لا يعود هناك حاجة لاستعمال العنف المباشر بما أن إرادة الخصم متماهية مع إرادة المتحكم.
إلا أنه ورغم تطور أداوت الهيمنة والتأثير، وما رافقها من نظريات لممارسة السلطة من خلال تزييف وعي الجمهور، وتحويله إلى وعي قطيعي يركض وراء مغريات السوق ويخدم مصالح المؤسسات المالية الكبرى العابرة للقارات، وأجندات اللوبيات السياسية المتحالفة مع شبكات المصالح المالية. رغم تطور كل هذه الآليات وتقنيات الهيمنة والاكراه فإن استعمال العنف الحربي لم ينته وذلك خاصة بعد انتهاء ما سمي بمرحلة الحرب الباردة وتمكن الولايات المتحدة من الانتصار البارد على خصمها الاتحاد السوفياتي.
السلم الدائمة والحرب الدائمة
يحيلنا هذا الأمر إلى نقاش ساخن بين أهم الفلاسفة الألمان بشأن هذا الموضوع أحدهما يرى في الحرب شرّا يجب التخلص منه وآخر يرى في الحرب ضرورة تاريخية لا يمكن تصور التاريخ دون فاعليتها. إذ بينما يرى كانط أن على كل الأمم السعي إلى تحقيق السلم الدائمة وذلك من خلال تحالف القوى العقلانية من أجل تكوين سلطة كونية تحفظ هذا السلم وتمنع الدول المارقة من تهديده، يرى هيغل أن فكرة السلم الدائمة فكرة ساذجة، وأن الحرب ضرورية لتقدم التاريخ ويرى عكس كانط أن الحرب أداة فعالة لصهر الشعوب وبناء الروح القومية، وأن فكرة الدولة الفائقة التي تهيمن سلطتها على الدول الأخرى غير ممكنة وذلك أن الروح القومية وسلطة الدولة القومية هي السلطة الأعلى وهي التي تتصرف بحسب مصالحها الذاتية وقدرتها على انفاذها. وعليه يرى هيغل أن الاتفاقيات التي تحكم الدول ليست في الحقيقة إلا اتفاقيات ظرفية محكومة بموازين القوى وأنه يمكن اختراقها متى توفرت الموازين المناسبة التي تجعل طرفا يعتقد أو يثق في قدرته على تحقيق مصالحه الذاتية دون الحاجة إلى التفاوض أو الاشتراك والاتفاق مع الآخرين. فليس هناك عند هيغل من سلطة تشريعية فوق سلطة الدولة القومية وهي أي الدولة القومية بمؤسساتها تمثل التعبير الأرقى عن الحرية.
ويعتبر هيغل الحرب ضرورة تاريخية للأمم، وذلك لأنها أداة تصهر الشعوب وتمكنها من التقدم والاتحاد أمام المخاطر، وذلك أنها في حال زال الخوف من الخطر الخارجي، يفتح المجال لنشوب النزاعات الداخلية، ولا توجد مساحة كافية للتعبير عن الروح القومية التي تتجلى في أعلى درجاتها أمام الآخر وأما التحديات الوجودية.
إن المتأمل في التاريخ الأوربي المعاصر يدرك صدق مقولة هيغل ويدرك أن الحرب كانت الوسيلة الفعالة الأساسية في صياغة وصناعة الروح القومية لأغلب الدول الأوروبية الحديثة وخاصة إيطاليا وألمانيا وفرنسا وكذلك الولايات المتحدة.
على أن تاريخ أوربا والغرب عرف كذلك تطبيقا لنظرية كانط وذلك من خلال مؤسسات الأمم المتحدة، أو على مستوى آخر الحلف الأطلسي وهي مؤسسات قامت، نظريا على الأقل، على الأساس الفلسفي لكانط وعلى قيم تحقيق السلم الدائمة ومن أجل صناعة سلطة فوق سلطة الدول القومية تقوم على تحالف الدول الديمقراطية القائمة أساسا على قيم الليبيرالية. إلا أن ما يمكن أن تواجه به نظرية كانط من نقد، هو كون هذه السلم الدائمة كانت دائما محمية بحرب باردة ما ان انتهت حتى أحس العالم (الديمقراطي) بالخطر والحاجة إلى صناعة عدو جديد وحرب جديدة تحقق الانصهار الداخلي للدول المتحالفة حتى وان احتاج ذلك إلى صناعة ايديولوجية جديدة تنقذ الاجماع الذي كان يؤسس لحالة السلم الدائمة السابقة ولشرعيتها ومشروعيتها.
وقد سجّل التاريخ المعاصر القريب الهزة التي عرفتها الولايات المتحدة قائدة الحرب الباردة ضد العدو السوفياتي وما دار فيها من نقاشات حول الحاجة إلى عدو جديد ومن نقاشات حامية حول موضوع الحلف الأطلسي ومدى الحاجة إلى وجوده بل والحاجة إلى صناعة أيديولجية جديدة للحرب وإلى صناعة عدو جديد يثبت الحاجة إليه، وقد عبر عن هذه الحاجة بعدد من النظريات المصطنعة في الفكر السياسي والعلاقات الدولية منها نظرية نهاية التاريخ لفوكو باما ونظرية هنتغتون في صراع الحضارات، والتي على أساسها بنيت استراتيجية وعقيدة عسكرية جديدة تتجه نحو قلب العالم العربي. وقد مثلت لها أحداث الحادي عشر من سبتمبر فرصة ذهبية لصناعة واطلاق عنان هذه الأيديولوجية الحربية والتي كان عنوانها الأساسي محاربة الإرهاب ونشر قيم الديمقراطية، إلا أن ذلك لم يقع دون هزّ قيم السلم التي حكمت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ أعلن الرئيس الأمريكي السابق عن عناوين قيمه الجديدة وهي أن الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب الباردة هي القوة الوحيدة ذات الأحقية في قيادة العالم، وفي خوض حروبه من خلال تحالف للراغبين وهو أمر صنع أزمة عميقة في المنظومة السياسية الحاكمة للعلاقات الدولية ولا يزال العالم يعيش آثار هذه الهزة التي تحتاج للتأمل والتحليل لأجل معرفة مدى عمقها وأثرها الإستراتيجي في العلاقت الدولية وفي مستقبل توزيع القوة والسلطة في العالم.
يمكن أن نسنتج من خلال هذه الآراء أن الحرب كمنظومة عنف أو منظومة رادعة ضرورة من ضرورات السلم الداخلي لدى عدد من الأمم القوية، وأنها ضرورية في المنظومة الدولية التي وإن رفعت شعار السلم الدائمة فإن هذه السلم بالنسبة لرافعي هذا الشعار تقوم على ضرورة تواصل الحرب، لأن السلم ليست سلما كونية بقدر ما هي سلم داخلي مشروط بالحرب على الخارج. فهي إما سلم قومي أو (سلم بيني) تجمع بين عدد من القوى على اساس تحالفات استراتيجية تقوم على عدد من القيم المشتركة، من مثل أن الديمقراطيات لا تتحارب ولا يعتدي بعضها على البعض. وهذا يعني أن غياب الحرب بهذا المعنى ستؤدي إلى تهديد السلم الداخلي أو البيني، وإلى نشوب حرب داخلية خاصة مع الأخذ بعين الإعتبار الطابع الاكراهي للدولة الحديثة وفي ضوء طبيعة الشرعية التي تقوم عليها مؤسساتها وكذلك في ضوء الاحداث العنيفة التي أدت لتأسيسها.
الحرب الدائمة والدولة العربية
في الوقت الذي ساهمت الحرب في صناعة الروح القومية وفي تأسيس كيان الدولة الحديثة في أوربا والغرب عموما ساهمت الحرب، في العالم العربي، في انشاء مجموعة من الكيانات السياسية أطلق عليها تسميات مختلفة أكانت الدولة الوطنية أو الدولة القطرية.
كل هذه العوامل تجعل من تطبيق نظرية هيغل في الحرب أمرا غير ممكن بالنسبة للدولة العربية أكانت وطنية أم قطرية (يجدر التنويه هنا إلى أن هذا التحليل ينطبق اساسا على ما يمكن تسميتهم بالدول الحديثة التي تقوم على بيرقراطية حديثة ولا تتأسس على العصبية التقليدية وذلك أن الدول والامارت والممالك السلطانية تحتاج في تحليلها إلى أدوات إضافية أخرى كما أن وضعها مختلف نوعيا عن الدولة القطرية الحديثة وان اشتركت مع بقية الدول في الأساس الرئيسي لشرعية الحكم أي بعدها القومي وهويتها الثقافية)، وذلك أنه من الصعب وصف الدولة العربية بأنها أداة للصهر أو للتعبير عن الروح القومية بقدر ما هي تعبير عن غياب أي عملية للصهر، وعن حرب متواصلة داخل المجتمعات العربية من أجل فك الروح التي تصهرها. زد على ذلك فإن هذه الدولة لم تعرف من السلم الا بقدر قدرتها على تجاوز اسباب الحرب التي انتجتها أي بقدر قدرتها على تجاوز هويتها الذاتية ومؤسساتها القطرية وبالتالي بقدر قدرتها على رفع شعارات فوق الدولة من مثل شعار التحرير وشعار الدفاع عن القضايا العربية والاسلامية وخاصة وبالذات الدفاع عن القضية الفلسطينية.
يمكن لنا القول، إذا ما سلمنا أو قبلنا بهذه المقدمة بأن الدولة العربية تكون تعبيرا عن الحرية المطلقة بقدر قدرتها عن التخلي عن هويتها ومؤسساتها القطرية أو الوطنية لصالح الهوية الإقليمية والقومية، كما يمكن القول بأن الدول التي تحمل عمقا إقليميا لها من الشرعية متسع لا تمتلكه الدول الصغرى، ويمكن في هذا الإطار التحدث عن دول مثل مصر وسوريا والعراق ثم الجزائر وكل هذه الدول بسبب عمقها الإقليمي كانت أقدر على رفع وتبني الاجندات القومية لشعوبها اذ يسمح لها عمقها الجيوسياسي بلعب مثل هذا الدور، وهذا لا ينفي أن بعضا من الدول الصغرى عاجزة عن هذا الدور. والملفت في تاريخ نشوء هذا الصنف من الدول هو أن الحروب التي اقامتها لم تكن حروب توحيد مثلما هو الحال بالنسبة للدولة الغربية بل كانت حروب تفكيك وحروب ضد التوحيد قامت اساسا على ترهل الإجماع السياسي القديم الذي كان ينظم ويصهر الروح العامة للشعوب المنتمية للشرعية السياسية التي كانت تؤطر العرب والمسلمين اي الخلافة العثمانية.
وقد كانت الدولة الوطنية قائمة على أساس فقدان دولة الخلافة للاجماع الذي كان يدعم أسسها وشرعية حكمها، إذ أصبحت عرضة أوطانها للاحتلال ولم تقدر على الدفاع على مصالح الشعوب المنتمية إليها في وجه الغزاة والمحتلين، هذا بالاضافة إلى الترهل الذي أصاب عصبيتها والفساد والهرم الذي نشب في دولتها. وهذا أمر أدى إلى نشوب عدد من الحروب في العالم العربي بعض منها كان مباشرا ضد دولة الاحتلال الا أن النتيجة كانت واحدة لهذه الحروب فأدت كلها الى اسقاط شرعية الحكم القديم وتأسيس دولة بهويّة جديدة على اساس شرعية التحرير، وهي في الحقيقة شرعية وهمية لأنها لا تستعيد شرعية الحكم القديم ولا تؤسس لاجماع جديد. ولذلك فان هذه الشرعية سرعان ما تم استبدالها بشعار أعم وأوسع وأعمق في الضمير العربي ألا وهو شرعية تحرير فلسطين ودعم المقاومة. إلا أن فشل محاولات التوحيد بين بعض الأقطار العربية، ثم تكرار الهزائم العسكرية أمام العدو الصهيوني أفقد الدولة العربية الحديثة أي أساس للشرعية بما فيها الدول ذات العمق الإقليمي، وقد أدى استفحال هذا الوضع الذي كرس القطيعة بين الدولة، بما هي أجهزة للحكم والتسلط، والشعوب الممنوعة من التعبير عن روحها القومية وهويتها الثقافية، أدى هذا الوضع، إلى لجوء النخب الحاكمة في الدول العربية إلى البحث عن الشرعية خارج حدودها القطرية فأصبح الخارج سندا لهذه الشرعية وداعما لوجود نخبها الحاكمة وهو وضع انتهى بالدول العربية إلى مرحلة ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير وهو وضع أصبح فيه رأس السلطة في دولة مثل مصر شأن اسرائيلي داخلي لا شأنا مصريا عربيا.
وهو وضع أقل ما يقال فيه هو كونه لا يقوم على اجماع داخلي بقدر ما يقوم على ارادة مفروضة بقرار خارجي. وقد انقلبت في هذا الوضع الموازين وأصبحت العلاقات مع الكيان الصهيوني أساسا متينا للحفاظ على الحكم وهو الأمر الذي عمّق من القطيعة بين شعوب المنطقة وأنظمة الحكم كما افقد بعض نخب وتيارات الشعوب العربية اتزانها بخصوص تحديد الشعار الموحد الصاهر لجهدها أمام العدو الخارجي والمحقق لوجودها وهويتها القومية. ومن تعبيرات هذا الاهتزاز بروز التيارات العنفية الرافعة لراية الاسلام بموزات التيارات الرافعة للافتة الليبرالية المتدثرة بالتطبيع مع الكيان الصهيوني. الأمر الذي ساهم ويساهم في التشويش على أي لافتة شعبية موحدة تحقق الاجماع العام لدى الشعوب العربية ما يمكن أن يرشح نخبا جديدة للحكم. وهو وضع ينذر بمزيد من التشرذم والتشتت وهذه كلها مؤشرات لنشوب الحرب القادمة وتسعير نيران الحرب الراهنة بحيث ينتشر العنف داخليا كما يتم تصديره خارجيا، وهذا لا يحتاج لقدرة على التنبؤ، إذ هو متحقق بأجزاء كبيرة على أرض الواقع.
كل ذلك بسبب التدهور العميق لوضعية القضية المركزية للأمة العربية ألا وهي القضية الفلسطينية، وهو أمر انتبه له الاتراك أخيرا في سعيهم لاستعادة دورهم الاقليمي اذ اعتبر رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان في خطابه للقمة العربية الأخيرة أن الطريق إلى اسطنبول يمر عبر القدس، معتبرا أن القضية الفلسطينية مسألة استراتيجية بالنسبة لتركيا وهو اذ يقول ذلك يدرك جيد ان الكرسي الذي يجلس عليه يقوم على هذه الشرعية، وأن الشرعية الداخلية في تركيا والتي يسندها الشعب التركي تستمد عمقها من هذا البعد العربي الاسلامي وهو الاساس الذي قامت عليه دولة تركيا في عهد الخلافة، وهذا فيه قراءة واعية للحكمة الشعبية التي وعت درس سقوط الخلافة العثمانية والتي تعي أن استعادة المجد يكون من خلال هذا الطريق.
كل هذه الأمور تؤشر إلى مرحلة قد بدأت من الاهتزازات، وهي إما صراعات تؤدي وستؤدي الى تجديد شرعية الدولة في العالم العربي، من خلال تجديد الاجماع أو صناعة اجماع جديد أو تفضي كما أفضت إلى تدخلات مباشرة تكون هي الواجهة المتقدمة للتصادم وتؤدي في النهاية الى الحل الاول.
والحقيقة أن على النخب العربية أن تدرك أن الطريق إلى عواصم أقطارها يمر فعلا عبر القدس فعواصم المتخاذلين تمرّ بالعدو الصهيوني وعواصم الوطنيين تمر بالمقاومة. كما أن هناك حاجة لأن تدرك النخب ولا أقول هنا الشعوب، فالشعوب مدركة وهي تدفع بأبنائها أمواجا لخرق الحدود المفروضة، والجدران العازلة بين أقطار الوطن الواحد من أجل استعادة الدور التاريخي والفعل التاريخي الذي حكم الأمة العربية والإسلامية في تضامن أبنائها مع قضاياهم القومية، يوم كان العثمانيون يرسلون اساطيلهم لتحرير ما تم احتلاله بيد الاسبان، ويوم كان العباسيون يرسلون جيوشهم لدق أبواب البيزنطيين، ويوم كانت جحافل المتطوعين لا تتوقف أمام الصليبيين. لن تنمحي من ذاكرة الشعوب العربية هذه القيم رغم المجهود الجبار لطمس الثقافة والتاريخ، وبقي في الوعي واللاعي تطلع ما للتحرر، ولطلب العزة، والاستقلالية الحقيقية عن القوى الكبرى. إن النخب العربية تحتاج إلى ان تدرك أن الإستراتيجية الحقيقة هي استراتيجية صراع ولا يمكن الحديث عن السلم، بالنسبة لمن لا يقدر على الحرب، وإلا فهي الهزيمة.
موقع أقلام أولين محجوب في تونس
العدد الخامس والعشرون
السنة السابعة/ ماي - جوان 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.