عند دراسة التوجه الإصلاحي الذي ميّز فكر النخب العربية نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين يتبين لنا أنه أول حركة فكرية حديثة وعت بالتخلف في العالم الإسلامي وأنها في ذلك عملت على القطع مع العصر الوسيط في موقفه من الآخر و في إعادة إنتاجه المعرفي. في الجانب الأول تأسس الموقف من الآخر المختلف انطلاقا من قضية العلم التي اعتُبِرتْ أحد العناصر الأساسية للنهوض الأوروبي. في مقالة شرح الشارح للأفغاني نقرأ ما يلي : إن جهل الشرقيين أدى إلى انحطاطهم بقدر ما أن العلم ساعد الغربيين على السيطرة عليهم وما كان بمقدرة الغرب أن يقوم بالفتوحات التي قام بها بدون معارفه. إن ملك العالم ليس ما نراه من ملوك إنما هو العلم. على هذا فإنه لا يكاد يخلو حديث لأحد رجال الإصلاح من إثارة هذه المقولة التي اعتُمدت مدخلا أساسيا لمعالجة انحطاط المسلمين. يقول الأستاذ الإمام محمد عبده في محاضرته بالجزائر سنة 1903 قبل أن ينتقل إلى تونس لإلقاء محاضرة الخلدونية التي سبق الحديث عنها، يقول في تفسير سورة العصر، رابطا بين مقولة العلم وما تفضي إليه من تحميل الإنسان المسؤولية و ضرورة اتخاذ الأسباب،: « العصر هو الزمان الذي تقع فيه حركات الناس وأعمالهم كما قال ابن عباس ...يتوهم الناس أن الوقت مذموم فأقسم الله به لينبِّهَكَ أن الزمان في نفسه ليس ممّا يذمّ ويسبّ ...[ وأن ] أعمال الإنسان هي مصدر شقائه لا الزمان ولا المكان ...». تأكيدا على نفس هذا الوعي السُنني يذهب العلامّة التونسي محمد الطاهر ابن عاشور - وهو من أشد المنافحين عن خطاب الإصلاح مع استصحاب خاص للرؤية الخلدونية - إلى القول بأن « الله تعالى أنزل القرآن كتابا لصلاح أمر الناس كافة ....وأن الصلاح العمراني ... هو حفظ نظام العالم الإسلامي وضبط تصرف الجماعات والأقاليم ...ويسمى هذا بعلم العُمران و علم الاجتماع « . أما الجانب الثاني الذي عمل التوجه الإصلاحي على تركيزه فقد تمثّل خاصة في تطوير منهج جديد في التعامل مع النص القرآني. خلاصة هذا المنهج القائل بأن القرآن الكريم كتاب هداية يفضي إلى اعتبار أن تأويل الوحي هو العمل على تحقيق مآل النص في الواقع المتجدد. تكمن أهمية هذا المنهج في دلالته الثقافية وفي الرؤية التي تنجر عنها للحقيقة. إنه لحظة تمايز أوّلي عن المدرسة التراثية التي ظلّت تعيد إنتاج نفس المعرفة ونفس الفهم للنصّ وكأن الواقع وتحدياته المختلفة لا أثر لهما في فهم الحقيقة المودعة في النص المقدّس. ما ينتهي إليه الحديث عن كون القرآن كتابَ هداية وإصلاح هو استبعاد للرؤية المثالية التي تتصوّر الحقيقة خارج التاريخ والعالَم، إنه توسيع للدائرة المرجعية التي ينبغي أن يعتمدها المفسّر في فهم النص. ما أكّده الإصلاحيون من أنّه لا تعارض بين القرآن و العلم و من ضرورة نقد للتراث التفسيريّ القديم يتجاوز ما أُضفي على ذلك التراث من قداسة. في هذا كان تفسير المنار يشرّع للقول بأنّ الوحي الإلهيّ لا يمكن ضبط دلالاته نهائيا وأن التاريخ والمعرفة الإنسانيين في جدلهما مع النص المقدّس يتيحان فهما أفضل وأشمل لدلالات الحقيقة الكامنة في النص الموحى. إنه المسار الذي سيتحدد تدريجيا حتى نهاية القرن العشرين والذي تصبح معه قدسية النصّ القرآني- في جانب منها- موصولة بالإنسان وأفقه وثقافته أي أن التوصل إلى المعنى يتحقق بالجدل مع طاقات الإنسان و باعتبار فاعليّة واقعه الفكريّ والاجتماعيّ. ما أضافه كل من أمين الخولي وخلف الله وعائشة عبد الرحمن ثم من بعدهم رواد المدرسة الحديثة في الدراسات القرآنية أفاد بصورة أكيدة من المنار و تحوّله المفصليّ. لقد كان توجه عبده مؤشرا لتمش جديد يرى أنّ التفسير هو معاناةٌ للحكمة الإلهية بمشاغل الواقع وأن وظيفة المفسر هو إجراء جدل بين الوحي و التاريخ. على هذا الأساس توصّل الباحثون في الدراسات القرآنية من غير التراثيين بعد عبده إلى ضرورة بناء نظرية في التفسير جديدة لأن البناء الثقافي التراثي أصبح لاتاريخيا فلا بد من تحديد منهج تفسيري قادر على إدراك أفضل ل»مقاصد الشارع « التي لا تنفصل عن مشاغل الإنسان وآفاقه وإمكاناته. احميده النيفر كاتب وجامعي تونسي الصباح التونسية الجمعة 30 جويلية 2010