من المهم الوعي بأن الشعائر الدينية ليست مقصودة لذاتها إنما هي مدخل لتحقيق مقاصد ومن المهم أيضا الوعي بأن العبادة لا تتحقق في علاقة عمودية بالله إنما تتحقق بمدى تأثير تلك العلاقة العمودية في علاقاتنا الأفقية، علاقاتنا بمن وما حولنا من البشر ومن الطبيعة ومن الكائنات كلها.. إن العالم كله معبد متحرك نعبد فيه الله حين نعمل وفق ما أراده الخالق من الصلاح والعدل والمحبة والتقدم.. وحين نسعى نحو الكرامة والكمال الإنسانيين كدحا نحو الله « يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»، لا معنى لطقوس باهتة غير ذات أثر في الواقع وفي علاقة صاحبها بمن وما حوله. ففعل الصلاة مثلا هو فعل تطهر دائم من معوقات الحياة والتجدد وهو استدعاء روحي وذهني للكمال والصفاء والأمل والمستقبل الدائم بحيث يستجمع المصلي من العزم ومن القوة ومن الشوق ما يقتحم به الواقع بتعقيداته ومشاغله بقدر من الإستقامة والتوازن والتماسك. وإذ يصوم الصائم فإنما يتخذ قرارا واعيا بالإمساك عن الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في حالة من مغالبة الجوع والعطش وانفعالات الغرائز والشهوات وحالات الغضب ونوازع الثأر والحقد. وفي الحديث « من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». الصوم ليس مجرد إمساك مكره عن الأكل والشرب تتولد عنه حالات من الغضب والإنفعال بما تسوء به العلاقات والمعاملات مع الآخرين، وبما يدفع بعض الصائمين إلى الهروب من أنفسهم حين يتجنبون مغالبة شهواتهم وغرائزهم فيتخفون بالنوم طيلة أو جل النهار ويتجنبون الإقتراب من الناس مخافة الإشتباك معهم لغير سبب... إن «النية» بما هي شرط صحة الصوم شرعا إنما هي العزم والقرار وهي تعبير عن الإرادة الحرة حين يحتل العقل مكانته في توجيه الغريزة وتتخذ الإرادة مكانتها في ضبط الشهوات والإنفعالات بما يحقق انتصار « الإنسان « على «الحيوان» الكامن فينا وبما يكسر الرتابة والعادة والبداهة و«الاستجابة الشرطية» إن شهر الصيام هو أشبه ما يكون بموسم سنوي للتدرب على التحرر، التحرر من القيود الداخلية المكبلة للإرادة والعزيمة والوعي، وإن أخطر ما يتهدد حرية الأفراد ليس ما يفرض عليهم من قيود خارجية إنما هو ما يقيم فيهم من خضوع وضعف وكسل وعجز متولد عن سيطرة الغرائز والشهوات حيث يكون الناس عبيدا ل»أنفسهم» يستعبدهم من يظنونه ممسكا بشهواتهم تخر قاماتهم حيث يسيل لعابهم لا يقوون على مواجهة ركض الغرائز تهز شخصياتهم... حالة التحرر تلك حين تتجاوز الأفراد إلى المجتمع تنتج حصانة داخلية قوية تحمي المجتمع من مظاهر الصراع الغرائزي وما ينتج عنه من عنف وفقدان أمن مدني وأمان نفسي وتنتج حصانة خارجية تحمي السيادة الوطنية وتمنع أي محاولة اختراق خارجي عبر اشتراء الذمم وعبر المواد الإستهلاكية وحملات الإشهار حتى في حالات الضعف الإقتصادي . وحتى لا يكون شهر الصيام أشبه ما يكون ب«العقوبة الذاتية» حين نجوع ونظمأ بغير جدوى كما المكرهين، علينا أن ننظر في مدى ما تحقق لنا من أهداف الصوم الجوهرية، أي مدى ما تحقق فينا من مساحة صفاء ومن مقدار طاقة على الاصطبار وعلى ضبط الشهوات والانفعالات ومن مدى وعي بالذات الإنسانية في كرامتها ومسؤوليتها وفي مدى اقترابنا من الشخصية المتماسكة في مختلف أبعادها التكوينية بما هي جسد وروح وعقل وحتى لا نكون ممن يقول فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم :« رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُب قائم ليس له من قيامه إلا السهر». بحري العرفاوي كاتب وشاعر تونسي الصباح التونسية 17/08/2010