منير العوادي تونس الفجرنيوز هناك مسألة تستدعي البحث والتمحيص المعمقين في واقع الحركة النقابية اليوم، وهي مسألة المحاولات الحثيثة لإحياء النزعة العشائرية من جديد، ومحاولة جعل التعبيرات المنبثقة عنها تتصدر المواقع الأمامية والأولى في صلب الاتحاد العام التونسي للشغل. لذلك سنحاول هذه المرّة التطرق لهذا الأمر من خلال البحث عن دواعي عودة هذا التوجه في العشرية الأخيرة، وكيفياته، من خلال لحظتين مؤسستين، هما: مؤتمر جربة (2002)، مؤتمر المنستير (2006). بدايات الأزمة: بدأت أزمة الإتحاد في التفاقم مع منتصف الثمانينات، أي حينما تخلت السلطة عما كانت تدعيه من أنّها "دولة الرعاية الاجتماعية"، واتجهت إلى تطبيق سياسة "نيوليبرالية"، تقوم على أساس تعارض جوهري بين الصيرورة الاقتصادية، القائمة على مبدإ المنافسة والنجاعة من جهة، و المنطق الاجتماعي القائم على مبدإ الإنصاف من جهة أخرى. إنّ السياسة النيوليبيرالية تقوم على أساس توجه هو : تطبيق القوانين الاقتصادية في المجال الاجتماعي ((1)(L'économisation du social، وهو ما يعني عمليا جعل المجالات الاجتماعية الأساسية : التشغيل السكن الصحة التعليم، من اختصاص رأس المال الخاص. وبما أنّ القطر التونسي يفتقر إلى وجود طبقة بورجوازية وطنية، قادرة على أن تخطط وتبرمج وفقا للاحتياجات الداخلية للمجتمع، فقد أوكلت السلطة مجمل هذه المجالات إلى الرأس المال الأجنبي وحلفائه من البورجوازيين الكمبرادوريين، الذين لا يهمهم في النهاية إلاّ السعي المحموم لتكديس الثروات المالية الطائلة بأيسر جهد وأسرع وقت. مهمة التصدّي لهذه السياسات الاجتماعية لم يستطع الإتحاد القيام بها، بل إنّ قيادة الإتحاد في عهد إسماعيل السحباني ساهمت في تكريس هذه الاختيارات، معتبرة أنها جزء من "العولمة"، وأنّه لا يمكن إلاّ "مقاومة المظاهر المجحفة لهذه العولمة". وقد كانت مختلف التمثلات حول "العولمة"، واعتبارها مرحلة جديدة، ذريعة للعديد من العناصر "اليسارية" للانتقال نحو تبنّي توجهات جديدة ليبيرالية. لقد انخرط الإتحاد بشكل واعي في تزكية الاختيار القائم على "سلعنة الخدمات الاجتماعية"، لأنّ بيروقراطية الإتحاد لا تعاني ما يعانيه العمال وما تعانيه الطبقات الشعبية نتيجة لذلك. وهذا العجز مرشح اليوم إلى مزيد التفاقم نتيجة هيمنة الاهتمامات الذاتية الخاصة لرموز التحالف العشائري "القرقني القفصي"، الذين لا يقودهم إلاّ هاجس واحد هو اقتسام النفوذ والسعي إلى مزيد الغنائم. مؤتمر جربة: ترميم البيت العشائري عملت قيادة الإتحاد، في الفترة الفاصلة بين سبتمبر 2000 (تاريخ إزاحة الأمين العام السابق اسماعيل السحباني) وفيفري 2002 (تاريخ عقد مؤتمر جربة)، على واجهات متعددة، ووفق خطة محكمة ومتدرجة: في البداية أكّدت هذه القيادة أنّ الجسم النقابي سليم، وأنّه لا وجود لأزمة داخل الإتحاد، معتبرة أنّ الخلل ينحصر في انحرافات الأمين العام السابق، وبالتالي فلا داعي لعقد مؤتمر استثنائي . ثم قامت في مرحلة ثانية بالمساهمة في مزيد تشتيت صفوف المعارضة النقابية، من خلال إغراء البعض من رموز هذه المعارضة بمواقع ثانوية، أو بالأحرى هامشية، في علاقة بالجهاز النقابي، واستبعادهم بالتالي من إمكانية العودة لمواقع قيادية، حيث اتخذ الأمين العام عبد السلام جراد، خلال بداية شهر جانفي2001 قرارات بتعيين كل من: الحبيب بسباس، كأمين عام للإتحاد النقابي لعمال المغرب العربي. عبد المجيد الصحراوي، كممثل للإتحاد العام التونسي للشغل بالإتحاد النقابي لعمال المغرب العربي. خير الدين بوصلاح، كمدير لمكتب الإتحاد الدولي للنقابات الحرة (السيزل)، الذي يوجد مقره في العاصمة الأردنية عمّان. أعطت هذه التعيينات انطباعا سلبيا حول ما يسمّى ب"المعارضة النقابية"، التي أصبحت تغلّب الهواجس الذاتية على متطلبات الواقع الموضوعي، والتي خفّفت شيئا فشيئا من حدّة نقدها لقيادة الإتحاد، ثمّ تحوّلت إلى قوّة دعم ومؤازرة لهذه القيادة، وهو ما سيتجلى لاحقا، بدرجات متفاوتة، ولكن بشكل واضح في حيثيات مؤتمر جربة. لقد انطلق هؤلاء الذين تمّ استدراجهم من وعي سطحي وساذج لطبيعة قيادة الإتحاد، فقبلوا بتصوراتها، وهو ما جعلهم يفقدون بعض الرصيد من المصداقية الذي كانوا يحضون به. في مرحلة ثالثة قامت" القيادة" باستكشاف دقيق لمختلف مواقف المجموعات والحساسيات، بل ذهبت بعض العناصر القيادية تحرّض بقوّة على ضرورة "الحرية التامة"، و"الجرأة"، و"الشفافية"، و"الصراحة"...... لم تتصرف "قيادة التصحيح" على هذا النحو عشقا في الحرية أو وَلعًا بها، بدليل أنّ جريدة الإتحاد "الشعب" واصلت بؤسها الإعلامي والمعرفي ومصادرة الرأي المغاير والتفكير الحر، بل هي اختارت هذه الحيلة كطريقة لجسّ نبض القواعد العمالية وممثليها، ورصد وتَرصّد كلّ ردود الأفعال، من أجل الوصول إلى تقدير حقيقي لموازين القوى الفعلية. وكان المجلس الوطني للإتحاد، المنعقد أيام 20 و21 و22 ديسمبر 2001، فرصة للقيام بمسح تفصيلي شامل، للتمكن من كشف كلّ الأوراق والمواقف والأطراف الفاعلة في الساحة النقابية وتحديد مدى تأثيرها وفعلها. وبالتوازي مع ذلك، كانت العناصر المتنفّذة تُجري اتصالات سرية مع علي بن رمضان، من أجل "رصّ الصفوف وإرساء مصالحة نقابية شاملة"، مع تنبيهه إلى ضرورة "تجنّب المزايدة" و"الجنوح إلى التهدئة الإعلامية والدعائية"، كشرطين لازمين وضروريين لإبرام صفقة عودته للاتحاد، خاصة وأنّ قيادة الاتحاد قد تكون تلقّت إشعارا، من دائرة رسميّة ما، أنّ السلطة ليس لديها "فيتو"، ولا ترى مانعا لرجوع علي بن رمضان. لم تتبنى "قيادة التصحيح" خيار المؤتمر الإستثنائي إلاّ بعد أن وفّرت كلّ هذه الشروط ، وبعد أن أحكمت قبضتها الحديدية على أغلب الهياكل القطاعية وخاصة الجهوية، أي حينما أيقنت أنّ المؤتمر سيكون تحت السيطرة الكاملة، وسيُفضي بالضرورة إلى النتائج المرجوّة والمحددة سلفا. في هذا المناخ انعقد المؤتمر الاستثنائي بجربة، أيام 7 8 9 فيفري 2002، بحضور 467 نائبا، باحتساب نائب واحد عن كلّ 700 منخرط، وباعتبار أنّ هناك 318.365 منخرطا. وكانت قيادة الاتحاد تسعى، من خلال هذا المؤتمر، إلى تحقيق ثلاثة أهداف عملية مباشرة: 1 القضاء على البقية الباقية من مجموعة الأمين العام السابق. وهذه المهمّة هي أيسر المهام وأقلها تكلفة في هذا المؤتمر، إذ يتعلق الأمر تحديدا بثلاثة عناصر: سالم عبد المجيد، الذي لم يترشح أصلا لعضوية المكتب التنفيذي، بعد أن عرف تماما حظوظه وحدوده. مصطفى بن أحمد، الذي كان في حالة ذهول تام بما يدور حوله، خاصة وقد أقفلت دونه كلّ القائمات، فكان فراغا يسبح في فراغ، فنال في نهاية المؤتمر على 72 صوتا. محمد الهادي التواتي، الذي فهم، بفعل الأمر الواقع، وبعد فوات الأوان، أنّ الصّدق مع الذات ومع الآخرين، قد يكون أهمّ من كلّ المواقع، ولم يحصل إلا على 70 صوتا. 2 اكتساب شرعية داخلية من خلال الانتخابات. إذ يُدرك عبد السلام جراد أنّه يتحمل مسؤولية أساسية عن انحدار العمل النقابي. فلقد كان "الرجل الثاني" في المنظمة، وساهم بصفته تلك في أسلوب القيادة والتسيير، وفي كلّ مؤامرات التصفية لكلّ توجه معارض. غياب المصداقية، واتساع دائرة الشك، يشكّلان خللا مدمّرا أو احتضارا بطيئا، لذلك ارتأى عبد السلام جراد ضرورة عقد مؤتمر استثنائي. ليس المهمّ حدّة النقد، أو جرأة المواقف، أو جذرية ما يقع اتخاذه من قرارات. كلّ ذلك "لغو" و"ثرثرة" في عُرف عبد السلام جراد وجماعته، وهو سيتحول إلى هباء ورماد، ولو بعد حين. المهمّ إحداث ضجّة كبيرة، سياسية وإعلامية، تُفضي إلى الاستنتاج: أنّ المؤتمر انعقد ب"صورة ديمقراطية"، وأنه " فريد من نوعه"،...... ولا شك أنّ صحافة الإثارة والتهويل والمبالغات ستقبل هذه الصورة وستروّجها في صفوف "الرأي العام". إنّها عقلية الدسائس، والكمائن، والاستهزاء، والازدراء. وهي ممارسة لنفس العقلية التي سادت زمن الأمين العام المخلوع إسماعيل السحباني. 3 استغلال الفرصة لإعادة ترميم العلاقة بين أركان العشيرة، من خلال إرجاع بعض العناصر إلى الحظيرة، وهو ما يعني عمليا سحب إدعاء طرف محدد ( علي بن رمضان ومجموعته)، أنّه الممثل الشرعي والوحيد ل" التيار الشرعي المناضل"، أي للتيار العاشوري. كان علي بن رمضان يعلم جيّدا عناصر القوة والضعف لديه، ومن أهمّ عناصر القوّة أنّه مازال يحظى بدعم من قبل عناصر متنفذة من الفريق العشائري القرقني، خاصّة خارج الإتحاد، وأنّه نجح في تقديم نفسه على أنّه "ضحية" لسياسة السحباني، وهو ما مكّنه من استثارة عطف بعض النقابيين. أمّا أهمّ عنصر ضعف لديه فهو فقدانه لكلّ ثقة في القواعد. لذلك حرص على تقديم صورة مداهنة، ومهادنة، ومراوغة: قبول قواعد اللعبة مع القيادة، مع التمسك بضمّ صديقه عبد النور المداحي إلى القائمة الرسمية. لقد وصلت بعض القيادات في الاتحاد، مركزيا وجهويا، إلى قناعة أو قاسم مشترك، وهو أنّ تحصين الاتحاد لا يمكن أن يتمّ إلا بتحصين صفوف العشيرة، وبالتالي تمكين العناصر المُعبرة عن هذا التوجه من إعادة التواجد في مستوى القيادة. وجاءت نتائج المؤتمر منسجمة مع توقعات المنفذين والمدبرين: ( الترتيب بحسب الأصوات) القائمة الرسمية: "قائمة الاستقلالية والديمقراطية والوحدة": عبد السلام جراد: 307 صوتا سليمان الماجدي 232 صوتا رضا بوزريبة 228 صوتا الهادي الغضباني 221 صوتا عبيد البريكي 220 صوتا محمد سعد 218 صوتا محمد السحيمي 212 صوتا محمد شندول 202 صوتا الناجي مسعود 199 صوتا محمد الطرابلسي 175 صوتا بلقاسم العياري 174 صوتا المنصف عقير 158 صوتا لطفي الحمروني 148. قائمة علي بن رمضان: "قائمة الوفاق النقابي الديمقراطي": علي بن رمضان 279 صوتا منصف اليعقوبي 244 صوتا عبد النور المدّاحي 199 صوتا منصف بن رمضان 159 صوتا عبد المجيد الصحراوي 127 صوتا زهير العيدودي 121 صوتا بدر الهرماسي 99 صوتا عبد الستار النصري 75 صوتا. قائمة اليسار: "قائمة التحالف الديمقراطي": نعيمة الهمامي 116 صوتا عبد الستار منصور 87 صوتا الحبيب الطريفي 84 صوتا المولدي الجندوبي 83 صوتا الجيلاني الهمامي 74 صوتا البشير عرجون 63 صوتا.(2) لقد تحصّلت قيادة الاتحاد على أكثر مما كانت تستحق، وربما أكثر مما كانت تنتظر، أو هكذا تراءى لها الأمر في أعقاب مؤتمر جربة. حسابات الحقل وحسابات البيدر: لقد حقق مؤتمر جربة أمرا هاما آخر في نظر قيادة الإتحاد : استبدال الاهتمام بأسباب استقالة السحباني ومترتباتها إلى الاهتمام بإمكانية التعايش بين المجموعات المتنافرة في المكتب التنفيذي القديم الجديد. إنّه الهروب من الأسئلة الحقيقية إلى التقديرات والتخمينات والإمكانيات. على ذكر إسماعيل السحباني : تمّ على الساعة السابعة من مساء يوم الإربعاء 20 فيفري 2002، أي عشرة أيام بالضبط بعد انتهاء مؤتمر جربة،(باعتبار أنّ مؤتمر جربة أنهى أشغاله فعليا فجر يوم الأحد 10 فيفري 2002 بإعلان النتائج)، إطلاق سراحه من السجن المدني 9 أفريل بتونس ( لأسباب صحيّة)، بعد أن قضّى أكثر من سنة في السجن. عِلمًا وأنّه صدر حكم يقضي بسجنه لمدّة 7 سنوات، إثر تقديم قيادة الإتحاد قضيّة ضدّه، تتعلق بسوء التصرف والاختلاس. التزم السحباني بالاتفاق حول التزام بالصمت، وأن لا يجيب عن ثلاثة أسئلة : لماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ فنال جزاءه. والسحباني بذلك، كرّس سلوكا لأحد الذين سبقوه، فكان هو أيضا : " طيّبا معهم، بَكوشا (أبكما) معَنا". لكن في مقابل ذلك، وقع ما لم يكن في الحسبان، إذ أفرز مؤتمر جربة قيادة عشائرية برأسين، فكان المولود كسيحا ومشوها، لا يستطيع والحالة تلك أن ينمو ويتطوّر بشكل عادي ومألوف. إنّها المرّة الأولى التي تجد العشيرة نفسها في هذه الحالة. إذ كانت في العادة تحتكم إلى سلطة تتمثل في شخص واحد وقائد واحد. مثل هذا الأمر جسّده في الماضي مثلا الحبيب عاشور الذي كان شخصية كاريزمتية فاعلة ونافذة، تفرض انصياع الموالين وقبولهم، كما أنّه كان قادرا على تجنيد قوّة ضاربة ( متكوّنة خاصة من عمال المواني وعمال سوق الجملة)، تعمل تحت إشراف أحد أخلص معاونيه، ويستعملها عند الحاجة لتحقيق أهدافه ومراميه. لم تكن هذه النتيجة، أو بالأحرى هذا المأزق، من الأشياء التي يمكن أن يتوقعها حتى رموز العشيرة أنفسهم، وكذلك العناصر التي انتدبت نفسها لخدمتهم، لذلك توالت التصريحات المتفائلة والمطمئنة مباشرة بعد المؤتمر. يقول علي بن رمضان مثلا: أنّ هذا المؤتمر:" منعرج تاريخي لا يعد مكسبا للنقابيين فحسب، بل وللبلاد ككل". ويضيف قائلا :" الهدف الحالي سيكون تمتين الاتصال بالقواعد العمالية تلمسا لمشاغلهم ومطالبهم". وفي نفس السياق صرّح عبد النوري المداحي، الذي يبدو أنّه كان في تلك اللحظة مأخوذا بسحر الموقع الجديد، قائلا إنّ المؤتمر:" أعاد الاعتبار للمرجعية العاشورية ".(2) لا حاجة طبعا إلى مناقشة مثل هذه الآراء، يكفي أن نقول في شأنها أنّها إنشاء دون بيّنة، أو هي "أقوال بيان" وليست "أقوال برهان". مؤتمر المنستير: تثبيت التوجه العشائري تأكّد هذا الأمر في المؤتمر 21 المنعقد في المنستير أيام 14 15 16 ديسمبر 2006 ، وهو المؤتمر الذي حضره 469 نائبا، بمعدل نائب عن كلّ 800 منخرط، وباعتبار أنّ عدد المنخرطين هو 375.083 منخرط. في البداية برز خلاف بين رمزي العشيرة، عبد السلام جراد وعلي بن رمضان، وهو خلاف لا يتعلق بتقييم الأداء النقابي والموقف من القضايا الأساسية التي تهمّ الشغالين، وإنّما مدار الخلاف حول أغراض ذاتية، أهمّها التنافس حول مسألة الأمانة العامة راهنا ومستقبلا. كلّ فرد يرى نفسه الأكثر جدارة واستحقاقا، والأقدر على فرض شروطه وتقييماته والعناصر الموالية له، بما يمكنه من توسيع قاعدته، تحسبا واستعدادا "لليوم الأغر"، حينما يقرّر الفريق الطامح طرح مسألة "الخلافة"، سواء عن طريق "انقلاب أبيض"، أو عند حصول طارئ ما : عجز استقالة ....... طبعت هذه التوترات والتجاذبات بداية المؤتمر، رغم أنّ الطرفين حرصا على إحاطة هذا الصراع بتكتم شديد، واقتصر كلّ منهما في مواجهة الآخر على التلميح دون التصريح. لماذا؟ 1 لأنّ احتدام النزاع حول "الزعامة" سيشكّل عاملا منفرا ضدّهما معا من قبل القواعد العمالية، التي لن ترى في المسألة سوى صراع حول المواقع والمصالح، وهو ما من شأنه أن يزيد في استياء هذه القواعد واستهجانها، وسخطها على هذا النمط من القيادات التي ابتليت بها. كما أنّ الصراع حول هذه القضية قد يؤدي إلى قطع الجسور بين الطرفين، ويهدد بالتالي إمكانية الوحدة بينهما مستقبلا . 2 في حالة تفجر الصراع بين هذين القطبين، فإنّ إمكانية بروز قطب ثالث تصبح أمرا ممكنا، بل ملحا وضروريا. لذلك سارع عبد السلام جراد وعلي بن رمضان إلى الاتفاق وتجاوز خلافهما حالما بدأت ترتسم في الأفق هذه الإمكانية. لقد أيقن رموز العشيرة أنّ التردد والتلكأ سيؤدي إلى احتمالات مجهولة، بل قد يجعلهم يصلون إلى حافة الهاوية، لذلك اختاروا الوحدة ولو ظرفيا. وهكذا تمكّنت عناصر التحالف العشائري، نتيجة لتأثيرها على بعض الجهات، وخاصة جهتي صفاقسوقفصة، ونتيجة كذلك لما وفرته من حوافز مغرية، قبل المؤتمر وأثناءه، من تحقيق انتصار سهل. في حين كان "خصوم" التوجه العشائري في حالة تراجع، نتيجة التفكك وعدم القدرة على أخذ زمام المبادرة. وكانت النتائج التي أفضى إليها المؤتمر كما يلي : ( الترتيب حسب عدد الأصوات) القائمة الرسمية: محمد سعد 303 صوتا المنصف الزاهي 269 صوت عبد السلام جراد 248 صوتا حسين العباسي 232 صوتا محمد السحيمي 225 صوتا علي بن رمضان 217 صوتا عبيد البريكي 202 صوتا محمد الطرابلسي 194 صوتا بلقاسم العياري 192 صوتا محمد شندول 191 صوتا قاسم عفيّة 174 صوتا سمير الشفّي 171 صوتا نعيمة الهمامي 158 صوتا. القائمة "المعارضة": محمد سعد 303 صوتا رضا بوزريبة 224 صوتا مولدي الجندوبي 222 صوتا منصف اليعقوبي 200 صوتا الهادي الغضباني 171 صوتا سليمان الماجدي 161 صوتا توفيق التواتي 157 صوتا جيلاني الهمامي 141 صوتا محمد الشابي 125 صوتا منجي عبد الرحيم 85 صوتا سعيد يوسف 78 صوتا. (4) لقد قرّرت قيادة التحالف العشائري البيروقراطي في هذا المؤتمر التخلص، دفعة واحدة، من أربعة أعضاء من المكتب التنفيذي القديم، وهم: الهادي الغضباني ورضا بوزريبة وسليمان الماجدي والمنصف اليعقوبي. هذا القرار تمّ بإيعاز من علي بن رمضان، ووافق على فحواه عبد السلام جراد. وكان علي بن رمضان في الواقع يريد التخلص، بالإضافة إلى هذا الرباعي، من كلّ من: عبيد البريكي ومحمد شندول، ولكنّ عبد السلام جراد رفض ذلك، وربما قد يكون أقنع علي بن رمضان بتأجيل ذلك إلى موعد لاحق. في مقابل ذلك تمكّن علي بن رمضان من فرض خمسة من العناصر الموالية له في القائمة الرسمية. وهؤلاء هم: حسين العباسي بلقاسم العياري قاسم عفيّة سمير الشفّي نعيمة الهمامي. ومن بين هذه العناصر من ينتمي فكريا وسياسيا إلى ما يسمّى ب"حزب العمل الوطني الديمقراطي" (حزب العود)، وهو في الحقيقة "حُزيّب" صغير وضعيف، ومحدود العدد والعدّة، بدليل أنّه لم يستطع تشكيل "هيئته التأسيسية"، عند بروزه في أواسط سنة 2005، إلا بعد استعارة أو استئجار عناصر خارجة عنه. وحتى هؤلاء الأفراد، وغيرهم ممّن توهموا أنّ هذه المجموعة قادرة على أن تنجز مشروعا ما، فسرعان ما أعلنوا انسحابهم من هذا "الحزب"، بعد أن افتضحت بالكامل طبيعته الانتهازية الدكاكينية. وفي سياق نفس هذا المناخ، وقع خلال هذا المؤتمر، إبرام صفقة، يتخلى بموجبها أحد الوجوه التي كانت تصنّف في "اليسار"، وهو عبد الستار منصور، الكاتب العام للاتحاد الجهوي بالمهدية، عن الترشح لعضوية المكتب التنفيذي، على أن يتمّ، مقابل ذلك، إلحاقه باتحاد العمال العرب في دمشق. وهو ما تمّ فعلا عقب انتهاء المؤتمر. هكذا إذن، مرّة أخرى، وكما هو معتاد في واقعنا التونسي الكئيب، حيث تحوّلت الردّة إلى حكمة، تتوارى المبادئ بعيدا إلى الخلف، حينما تعلن المصالح عن حضورها المتوهّج. استطرادا لذلك، أوردت أحد الصحف خبرا، وتعليقا، حول مؤتمر المنستير. فيما يخصّ الخبر فقد أوردت ما يلي : " جهة قفصة والتي ينحدر منها المنصف الزاهي تحالفت مع جهة صفاقس في دعمها لمحمد شندول وكذلك لمحمد السحيمي بما أنّه من جهة قفصة شأنه شأن المنصف الزاهي". أما التعليق، فهو كما يلي: "محمد السحيمي كان دائم الحضور إلى جانب عمارة العبّاسي وإسماعيل حيدر".(5) إذا كان عبد السلام جراد هو "الشيخ المعلن" للتوجه العشائري القرقني، فإنّ عمارة العبّاسي، الكاتب العام للاتحاد الجهوي بقفصة، هو "الشيخ غير المعلن" للتوجه العشائري القفصي. السؤال: ما الذي يجعل مهندسا، و"مثقفا"، و"تقدميا"، مثل محمد السحيمي ينساق وراء هذه التوجهات العشائرية البائسة، والماضوية في جوهرها ؟ الجواب: إنّه البحث عن الأبّهة، والهيبة، والمهابة، وأن يكون هو أيضا محط أنظار العشيرة وانتظاراتها. إنها عقلية البورجوازي الصغير، الذي وجد نفسه في "مهب الريح". رفض التمديد: سيطرت على اهتمام نوّاب مؤتمري جربة والمنستير قضية الديمقراطية الدّاخلية، وخاصّة مسألة التداول على المسؤولية في مستوى المكتب التنفيذي. أن تسيطر القضايا، أو المشكلات الداخلية، فهذا يعني ببساطة أنّ الحركة تائهة، وتسير في سرداب مُظلم، مُعتّم. وفعلا، فإنّ الحركة النقابية أصبحت تراوح بين شدّ وجذب، حول مسألتين خطيرتين: التداول على المسؤولية وإعادة هيكلة القطاعات، والاتحاد عموما. يتعلق الأمر الأوّل بالرأس ، والثاني بالجسد. الأوّل جرح غائر، والثاني جرح نازف. استمرار هذا الأمر على ما هو عليه، قد يؤدّي ليس فقط إلى مزيد تهميش الحركة النقابية، بل وأيضا إلى عجزها التام، إذ لا يمكن لحركة اجتماعية أن تواجه طغيانا خارجيا، وهي ترزح تحت نير طغيان داخلي، أكثر قوّة وأشدّ مرارة. لقد تشكّل في إطار هذا الصراع تياران: تيار يسعى إلى ترسيخ السائد: الاحتراف الامتيازات الزبائنية إبادة الخصوم ... ، وهو تيار لا يستطيع أن يصنع مراكمة، بل ركاما، وهو يفتح الباب على مصراعيه على التآكل الداخلي وتدمير الذات. تيار يسعى إلى ابتكار رؤية نقابية جديدة، قوامها : التداول من جهة، والسعي لتجذير الحركة النقابية في أوساط العمال والمضطهدين عموما، من جهة أخرى. كيف تجسد هذا الصراع بين التيارين؟ لنأخذ على سبيل المثال المسألة، الأكثر راهنية، أي مسألة: التداول على المسؤولية. في مؤتمر جربة طرحت وجهتا نظر: وجهة نظر عبد السلام جراد، ومن يسير في نفس توجهه: تجديد المدة النقابية مرتين. وجهة نظر أغلب النواب: تجديد المدة النقابية مرة واحدة. عند التصويت، صوّت 105 نائبا لصالح الموقف الأول، مقابل 352 نائبا صوّتوا لفائدة الموقف الثاني. هذا الموقف الأغلبي يعبر عن تحليل صائب لواقع العمل النقابي، وما يعانيه من عوائق وعلل مزمنة، من أهمها تحويل الإتحاد إلى ملكية خاصة، تُورث وتورّث، ومن أنّ الاستئثار بالمال والسلطة كان دوما يدفع المستفيد إلى الاعتقاد أنّه بلغ "سدرة المنتهى"، وأنّ " الحكمة" تقتضي أن يظل في موقعه ذلك إلى الأبد. هذا ما أكّدته التجربة النقابية في القطر على مدى العقود الماضية. وهذا هو المكمن الأساسي للتدهور والضعف، بل هو مكمن الإخفاقات المتتالية والمآسي المريرة، التي عاشتها وتعيشها الحركة النقابية في تونس. في مؤتمر المنستير، حاولت قيادة الاتحاد إعادة طرح المسألة، ولكنّها جوبهت برفض قويّ من طرف نواب المؤتمر، الذين رفضوا كلّ السيناريوهات الممكنة، سواء عن طريق مجلس وطني أو هيئة إدارية، للإغارة على الفصل العاشر وتغييره، اعتمادا على مسوّغات ومبررات واهية وضعيفة. استنتاجات أولية: أوّلا / يشكّل التحالف العشائري القوّة الأساسية في الحركة النقابية، ويتكوّن هذا التحالف من عناصر من الجيل الثاني، وهو جيل أقلّ موهبة وإرادة وقدرة من جيل الرواد، أي الجيل الأول. لقد كان الحبيب عاشور مثلا يتباهى بكونه واحد من أركان النّظام وأنه أنقذ بورقيبة مرات عديدة، وكان على صلة وثيقة بوسيلة بنت عمّار التي كانت تطلعه على خفايا ما يدور في القصر. أمّا عبد السلام جراد، فليس له هذا الماضي ولا هذا الرصيد، وعلاقاته لا تتعدّى الاتصال بأحد رؤساء المصالح في أحد الأجهزة، وبطريقة يطبعها في الغالب التزلف والرجاء والاستعطاف. أما الطرف الزاحف والذي يسعى إلى توسيع مجال هيمنته في الإتحاد فهو أكثر استعداد للتنازل للسلطة، خشية منها من جهة، ومحاولة للتنصّل من تهمة " الانتماء إلى التيار الديني" من جهة أخرى. وهو على استعداد حتى لأن يجثو على ركبتيه، حتى تتمّ عملية "التوريث"، ثم بعد ذلك لكلّ حادث حديث. ثانيا / القيادة الحالية بكلّ مكوّناتها هي قيادة ضعيفة وهشة، وهي تعلم علم اليقين أنّه بدون موافقة السلطة و"مباركتها" لا يمكن أن تحقّق أيّ شيء، لذلك يسعى كل عضو من أعضائها إلى إرساء علاقات وثيقة ومتميّزة مع هذا المسؤول أو ذاك. وهو ما ينجرّ عنه حتما توسيع عملية اختراق الحركة النقابية ومزيد استباحتها. إنّ قيادة من هذا النمط عاجزة عن مواجهة السياسة النيوليبرالية، التي هي :" برنامج للتحطيم المنهجي للمجموعات"(6)، سواء أكانت هذه المجموعات: أمما أو أحزابا أو نقابات وصولا إلى العائلة، وهي تهدف إلى اضمحلال كلّ التجمعات الاجتماعية وتحويلها إلى ذرّات متناثرة، كل فرد في صراع مع الآخر، والكلّ في حرب ضدّ الكلّ. إنّ القيادة الحالية للاتحاد هي قيادة يمينية محافظة، ولعلّ السمة الأساسية لها في الظرف الراهن هي حلم الثبوتية ( (Le rêve de la fixité، أي السعي إلى ديمومة نفس الأفراد والمجموعات ونفس العلاقات الهرمية. هذا الهوس بالقديم، رغم تآكله وخيباته، وهذا العنف والحدّة في مواجهة الجديد، رغم ما يفتحه من إمكانيات وآفاق، يعبّر في جوهره عن موقف ذاتي ومصلحي معادي للطبقات الصاعدة والقوى الحيّة. من هنا نفهم لماذا يصرّ هذا التيار، رغم الهزائم والأضرار والويلات التي ألحقها بالحركة النقابية، على البقاء والنفوذ ومواصلة الهيمنة. ثالثا / الخروج من منطق المنافع والتسلّط، مهمّة يمكن أن تتحقق بجهود الفصيلين الأساسيين في الساحة النقابية: اليسار والقوميون. قد لا يثير هذا الموقف أو الكلام اعتراضا. لكن المسألة تحتاج مع ذلك إلى مزيد التدقيق والتوضيح، إذ لا بدّ من توفير شروط دنيا بدونها لا يمكن التقدم قيد أنملة. عودة اليسار يسارا حقّا تستدعي مراجعة نقدية قاسية جدّا، مراجعة جذرية تقف عند الأخطاء والانحرافات الأساسية، وتسمّي الأشياء بمسمياتها. أمّا الدعوة إلى "وحدة اليسار"، فهي تكرار واجترار ممل، فضلا عن أنّها عديمة الجدوى، إذ أنّ صفر + صفر = صفر. اليسار الراهن أضاع هويته، أي فكره النقدي الثاقب وممارسته الثورية، وأصبح قوّة، أو بالأحرى قوى، مدجنّة، انتهت إلى التماهي مع البيروقراطية. هذه المهمة: القيام بتقييم واضح ودقيق وشامل، الذي يمكّن من وضع اليد على مكامن الضعف وأسباب التدهور، مهمة صعبة وعسيرة، وهي تستدعي تكاتف جهود جميع المخلصين من اليسار الثوري الحقيقي. ونفس هذا الجهد مطلوب من القوميين التقدميين، في مواجهة المجموعة / المجموعات، من مدعّي القومية الذين يسيرون في ركاب التوجه العشائري. بدون هذا النقد والنقد الذاتي، لن نتمكن من تجاوز خيباتنا ومشاكلنا العميقة المستعصية، ولن نتمكن من رسم سبل للتجاوز تفيد الحركة النقابية. لذلك لا بدّ من القطع مع عقلية تمجيد الذات، بل يجب التأكيد على أنّ هذه الذات يجب أن تعرف تحوّلا على صعيد الفكر والرؤية والممارسة، حتى تستطيع أن تساهم في تحوّل الحركة الجماهيرية، إلى ما تصبو إليه هذه الحركة من مطامح وآمال. إذا تمكنت المعارضة اليسارية والقومية من إنجاز هذه المهمة، عندئذ فقط تستطيع أن تعبّر عن رؤية قويّة ومتماسكة، لا يكون فيها التمسك بالفصل 10، أي التداول على المسؤولية في مستوى القيادة، سوى جزء من كلّ. ويتعلق هذا الكلّ بابتكار الوسائل الكفيلة بإقحام آلاف آلاف الكادحين من النساء والرجال في النضال النقابي، وفي المساهمة في تطهير الإتحاد العام التونسي للشغل من الوصوليين والانتهازيين، وإعادة بنائه على أسس جديدة وفعّالة. الهوامش: (1) أنظر في هذا الصدد البحث الهام الذي أنجزه عبد المجيد القلمامي بعنوان: La politique sociale en Tunisie de 1881 à nos jours, L'Harmattan, Paris, 1996 (2) أمّا بقية نتائج مؤتمر جربة، التي لم يتمّ ذكرها، فهي كما يلي : علي الضاوي 30 صوتا صالح جلال 25 صوتا الناجي الغربي 23 صوتا عبد العزيز الزواري 21 صوتا فتحية قصّار 14 صوتا نورالدين ونيسة 14 صوتا سميرة المزوغي بالنّور 11 صوتا النوبي بن فرج 7 أصوات. (3) مجلة حقائق عدد 844، من 26/2 إلى 6/3/2002 ص 6 و7 (4) كانت بقية مؤتمر المنستير على النحو التالي: عبد النور المدّاحي 167 صوتا كمال سعد 73 صوتا زهير العيدودي 59 صوتا المنصف بن رمضان 51 صوتا الحبيب بسباس 44 صوتا كلثوم برك الله 44 صوتا نزار العمامي 43 صوتا جنيدي عبد الجواد محمد العجيمي 42 صوتا عبد المجيد الصحراوي 41 صوتا بدر الهرماسي 40 صوتا البشير عرجون 13 صوتا منجية الزبيدي 12 صوتا نعيمة مسلم 11 صوتا فتحية قصّار 7 أصوات النوبي بن فرج 3 أصوات. (5) مقال بعنوان: تفاصيل لم تنشر عن مؤتمر اتحاد الشغل بالمنستير: ما حكاية «السلّوم».. بكاء الطرابلسي وبوزريبة رغب في النظام الداخلي؟ الإعلان22 28/12/2006 بقلم علي المهاري (6) العبارة لبيار بورديو. أنظر: CETTE UTOPIE, EN VOIE DE RÉALISATION, D'UNE EXPLOITATION SANS LIMITE L'essence du néolibéralisme Le Monde diplomatique - Mars 1998 المرصد التونسي للحقوق و الحريات النقابية Observatoire tunisien des droits et des libertés syndicaux