غريب أمر هذه الوطن ، فيه أكبر نسبة من المفكرين وفيه أكبر نسبة من التخلف ،فيه أعداد من المناضلين أكبر من عدد السجون لذلك فر كثيرون منهم إلى حافة الأرض ومع ذلك هرب خلفهم جلاديهم في طبعة ملونة ومنقحة كي لا ينام هؤلاء يوما واحدا على حلم بشري نظيف، وفيه كذلك أعداد من مجرمي السياسة والمال والقانون أكثر من أي أمة أخرى. علماء من كل الأصناف وعندنا عتمة وظلام .. خبراء في القانون وخبراء في السطو والتشليح .. خطباء جدد دخلوا ساحة الخطاب أو المزاد أو حفل العري السياسي بعد أن كانوا يطلون علينا عبر الشاشات وتحتهم أسماء وعناوين وأحزاب أو مؤسسات كبيرة . الذين يكتبون ويتكلمون ، والذين حضروا حفل بيع الوطن، ليسوا مناضلين مجربين، أو نساء مناضلات، أو طبقة علماء وخبراء وكتاب المنافي، بل مدراء سلطة طردوا من الوطن لأسباب أخلاقية أو على خلفية سرقات، أو عملاء عادوا مع دايتون إلى مؤسساتهم القديمة التي كانوا يعرون فيها ضحاياهم الأبرياء نساءً ورجالا من أجل المتعة والانتقام . الموت وحده يتجول في شوارع لم تدفن موتاها بعد، وحده الخنوع هو المتكلم الوحيد في عالم من الخرس والصمت والذهول والسلاح والريح والغبار، وحدها رائحة الجثث تملأ الشوارع .. جثث من كل الأنواع : جثث لرجال قتلوا ودفنوا في حدائق عامة بدون هوية أو اسم ، جثث لرجال قتلوا سهوا على أثر تراشق نار بين الأخوة الأعداء ، جثث لأطفال قتلوا ببقايا قنابل عنقودية فخر الصناعة الأمريكية ، هدية لأطفال فلسطين في عطلة الربيع المدرسية ، جثث لنساء قتلن على الشواطئ بحثا عن ماء ، جثث مقاومين ، جثث لرجال خانعين مائلين أو خونة ، جثث لا علاقة لها بكل هذا الذي يدور، لكنها سقطت لأن جنديا إسرائليآ أراد أن يتأكد من قوة رمي بندقيته أو صلاحيتها للرمي، كما فعل أجداده" شعب الله المختار " في دير ياسين و جنين حين كانوا يطلقون النار عليهم للتأكد من صلاحية بنادقهم بعد التنظيف، وعلى نساء يحملن أطفالهن للتفرج على هؤلاء القادمين الجدد ، ألسنا نحن أيضا شعب سلام الشجعان !! موت في كل مكان وكل هذه المساحة لا تتسع لقبلة واحدة أو أغنية واحدة أو حلم نقي أو أمل نظيف أو ضحكة عفوية موت مرتجل داخل كل هذا الصمت الأصم والصراخ الأبكم ومع ذلك نحتفل بعيد بيع الوطن !!. كل هذا الخرس السياسي والأخلاقي والقانوني والتاريخي والثقافي والأدبي حفل كبير للزور هل حقا نحن نتكلم حين نتكلم؟ أم نحن نرطن ولا نقول شيئا؟ خطباء خرس صم وزعماء من قماش ستارة القاعة وكلمات تشبه صيحات القردة من فوق الأشجار وفرح وحشي باقتسام الوليمة والجثث خارج القاعة لم يجف الدم منها لم يدفن بعد حتى أطفال غزة ولا يزال الرصاص في أجساد الجرحى رصاص ينفجر داخل الجرح الرائحة في كل مكان لكن أحدا لا يشم ليست رائحة الجثث فحسب بل رائحة أجساد شهود حفل بيع الوطن ،والغنيمة، في وطن ينام في مشرحة ولا ينتظر غير سرقة آخر ما تبقى من معاطف أو قصائد أو دموع أو منازل ... الرائحة في كل مكان لكن أحدا لا يشم رائحة شيء كبير يتفسخ كبير جدا رائحة قيم تتداعى ورائحة زمن لا القديم فيه يموت ولا الجديد يولد وحفل بيع الوطن مستمر، لأننا نعيش الزمن نفسه، بلا قطيعة .... زياد دياب