أمين قارة يكشف سبب مغادرته قناة الحوار التونسي    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو إلى تنظيم تظاهرات طلابية تضامنًا مع الشعب الفلسطيني    مصر.. تصريحات أزهرية تثير غضبا حول الشاب وخطيبته وداعية يرد    خط تمويل ب10 مليون دينار من البنك التونسي للتضامن لديوان الأعلاف    وزيرة الاقتصاد والتخطيط تترأس الوفد التونسي في الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الإسلامي للتنمية    وزير الخارجية يتناول مع وزير المؤسسات الصغرى والمتوسطة الكامروني عددا من المسائل المتعلقة بالاستثمار وتعزيز التعاون الثنائي    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    ملامحها "الفاتنة" أثارت الشكوك.. ستينيّة تفوز بلقب ملكة جمال    القصرين: مشاريع مبرمجة ببلدية الرخمات من معتمدية سبيطلة بما يقارب 4.5 ملايين دينار (معتمد سبيطلة)    فرنسا تعتزم المشاركة في مشروع مغربي للطاقة في الصحراء    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي البنزرتي في مواجهة نجم المتلوي    دورة اتحاد شمال افريقيا لمنتخبات مواليد 2007-2008- المنتخب المصري يتوج بالبطولة    وزيرة التربية تطلع خلال زيارة بمعهد المكفوفين ببئر القصعة على ظروف إقامة التلاميذ    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    استقرار نسبة الفائدة الرئيسية في تركيا في حدود 50%    بي هاش بنك: ارتفاع الناتج البنكي الصافي إلى 166 مليون دينار نهاية الربع الأول من العام الحالي    سيدي بوزيد: انطلاق فعاليات الاحتفال بالدورة 33 لشهر التراث بفقرات ومعارض متنوعة    صفاقس : "الفن-الفعل" ... شعار الدورة التأسيسية الأولى لمهرجان الفن المعاصر من 28 إلى 30 أفريل الجاري بالمركز الثقافي برج القلال    الرابطة الأولى: تشكيلة الإتحاد المنستيري في مواجهة الملعب التونسي    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم السبت 27 أفريل    الناطق باسم محكمة تونس يوضح أسباب فتح تحقيق ضد الصحفية خلود مبروك    بنزرت: الافراج عن 23 شخصا محتفظ بهم في قضيّة الفولاذ    المجلس المحلي بسيدي علي بن عون يطالب السلطات بحل نهائي لإشكالية انقطاع التيار الكهربائي    خبير تركي يتوقع زلازل مدمرة في إسطنبول    عاجل/ نحو إقرار تجريم كراء المنازل للأجانب..    استشهاد شابين فلسطينيين وإصابة اثنين آخرين بنيران الاحتلال الصهيوني غربي "جنين"..#خبر_عاجل    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    "حماس" تعلن تسلمها رد الاحتلال حول مقترحاتها لصفقة تبادل الأسرى ووقف النار بغزة    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    تقلص العجز التجاري الشهري    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عودة الشاعر : دكتور أحمد محمد المزعنن
نشر في الفجر نيوز يوم 16 - 10 - 2010

/قال لي أحد نوابغ لغة الضاد في هذا الزمان معاتبًا بسبب امتناعي عن نشر كل ما أكتبه من الشعر:"إن الشعر يُقالُ ويُكتبُ ليُقراَ ؛فلماذا لا تنشر ما تكتب؟."فوعاها قلبي،وصدَّقها لساني،وها أنذا أنشر ما جاد به الوجدان مع(عودة الشاعر) الذي سافر بعيدًا،وهجرني وتركني عقودًا من السنين متمردًا محتجًا على السكوت،ثم لما دعوته عاد ليعبر عن موقف لا يلين،فكانت ثلاثية مرثية وطن عشية ظهور (عار أوسلو ) الذي ألبسوه غلالة المشروع الوطني.
ثلاثية مرثية وطن
عاش الوطن في قلبي ووجداني،حملتُه أنَّى سرت،يمشي معي،ويجلس معي،ينام معي،ويقوم معي،أتحدث بلسان حاله،أنافح وأدافع بقوته،أعيش همومه ونوازله،وأنتظر بين الخوف والرجاء،منعونا عنه بتجريمنا بوصمة وثيقة السفر المصرية للاجئين الفلسطينيين،وقيدونا بإجراءات الأمن المزعوم الذي صنفونا فيه بأننا أعداء السلام الموهوم،فمرت السنون دون أن نتمكن من رؤيته وهو على بعد خطوات،ولكن المسافات لا تقاس في زمن الفساد والخيانة بالأميال أو الساعات بقدر ما تقاس بالإجراءات والتعقيدات والتصنيفات ومقتضيات ومتطلبات منطق التجار،وضوابط الاستثمار،وإملاءات السماسرة ومغريات المناصب والوجاهات .
لم يخفت وميض حبه يومًا،وما غاب لحظة عن مجال إدراكي،ولم يزده طول البعد إلا تأججا،حتى تم توقيع اتفاق المباديء سنة 1993 م،فأيقنت أنها نهاية وطني الذي لم يكن في حاجة إلى شهادة ميلاد؛لأنه كان موجودًا قبل التاريخ والجغرافيا وقبل أن تصحو الدنيا وتعي أبعاد الماضي،ويستوعب فكرها الحاضر،وتتطلع بخيالها إلى المستقبل،إنه فلسطين الأرض المقدسة،الأرض المباركة التي كُتِبَ اسمها في القرآن الكريم كتاب الله وكلامِه،وكلامُه سبحانه وتعالى بعض ذاته كما يجمع أهل العلم المعتبرون.
إنه بحرها الأخاذ،وسحر شواطئها،وبساتينها الممتدة بطول الساحل تعانق أغصانها سماءها الصافية،وتلوح بتحية أبدية لنسائم البحر في الربيع والصيف،وتعانق أمواجه المتلاطمة في الخريف والشتاء، إنه الأودية والجبال والهواء العليل والصحراء والغور،إنه الربيع والصيف والخريف والشتاء،جمال الفصول المتوالي في قصيدة شعر عبقري لا نهاية لها،ولا تفسير لأسرارها إلا أنها بعض تجليات القداسة والبركة،وبريق التميز،إنه التراب الطاهر المعطر الزكي،تفوح منه رائحة الخلود،إنه عطر دماء الشهداء،أقسم لك بالله أيها القاريء أن ترابها معطر بعطر الطهر الذي فضلها به الله خالقها،إنه غابات الزيتون المتعانقة مع غابات البرتقال واللوز وأشجار السرو والسندان والحور،في كل شبر منه لوحة من الإبداع الذي يستحيل الإلمام به،وربما يكون هذا هو سر كثرة الفنانين المبدعين من هذا الشعب العبقري العظيم،مبدعون في كل ناحية من نواحي الحياة،مبدعون متفوقون في زراعاتهم وصناعاتهم وفي العناية بالأرض،مبدعون متميزون حتى في ظروف قتالهم لعدوهم مع الفارق الهائل بين إمكاناتهم وبين ما لديه من السلاح والعتاد،يقاتلونه منذ أكثر من مائة عام،وآخر ما تميزوا به في فنون المقاومة والقتال هو أنهم يذهبون إلى العدو متمنطقين بالموت فلا يحتاجون إلا ما يقربهم منه،وتودع الأم ابنها وهي تعلم يقينا أنه يحمله تحت سترته،(تذكروا الأم الصابرة أم الشهيد محمد فرحات)كنموذج فذ،تذكروا أيضًا الأم ذات الثلاثة والعشرين ربيعًا التي تركت طفليها لتفجر نفسها في جنود الخزي والعار من اليهود المغتصبين،فقتلت أربعة منهم،وجرحت ثمانية،وأؤكد لكم أن التاريخ لن يستوعب إبداعهم وبطولاتهم،إنهم مبدعون متفوقون حتى في الصبر والسلوان،هل تعلمون بشرًا فوق الأرض في الماضي القديم وفي الزمن الحديث يشيعون قتلاهم(شهداءهم )بالزغاريد والأهازيج والأناشيد؟غير هؤلاء البشر الذين استوطنوا تلك الربوع المقدسة الطاهرة.
وإذا قدر لأحد أن يقرأ هذا الكلام فليتذكر أن وطني يمتد مكانا شرقي نهر الأردن وغربيه؛وفكرًا ووجدانًا على امتداد الكون؛لأن هذا النهر المعروف أيضًا بنهر الشريعة يجري في أرض فلسطين وليس حدًا شرقيًا لها،ومن أراد الدليل فليقرأ كلام رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مخاطبًا أسامة ابن زيد بن حارثة عندما وجهه في مرض موته صلى الله عليه وسلم على رأس جيش ليغزو قتلة أبيه ويأخذ بثأره :" قال ابن إسحاق (صاحب رواية ) سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام :ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بعثا إلى الشام ، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه،أمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس ، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون والأنصار الأولون .ليأخذ بثأر أبيه الذي كان قد استشهد في غزوة مؤتة " ( السهيلي : الروض الأونف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام ، الجزء الرابع ، صفحة 232 : بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين ). وأنا أتساءل أين البلقاء والداروم غير تلك الموجودة شرقي النهر في الأردن حاليًا ، وهما بنص الحديث جزء من أرض فلسطين ؟!
ولعمري فإن الوطن الحبيب امتداد بحري شمالي لمنبع النور في الوادي غير ذي الزرع حيث بيت الله الحرام في مكة المكرمة،ولمهاجر المصطفى ومثوى جسده الطاهر في المدينة المنورة،وهي أيضًا امتداد طبيعي للوادي المقدس طوى في سيناء ، وبه تكتمل دائرة القداسة التي تشرفت وتكللت برحلة خاتم الأنبياء في ليلة الإسراء والمعراج ، فهناك على قمة جبل من جبال القدس يطل معراج الرسول على مهبط رأسه ومهوى فؤاده، ومبعث النور الذي نزل عليه في ليلة من ليالي رمضان في مكة المكرمة ، وعلى مهاجره في يثرب المدينة المنورة ،وبذلك أحكمت حلقة الرابطة المقدسة بين جزيرة العرب موطن هذا الجنس العربي العظيم الذي اختاره الله ليكون حافظة الوحي،وأمين الرسالات السماوية،وبين الأرض المباركة،الأرض المقدسة فلسطين رئة وطن العرب على البحر،وثغرها الشمالي.
إنها حتى مأوى وتربة لكل ما ذكره الله في كتابه من كريم النبات،ومأوى لكل طيور الأرض،إلى حيث تأتي الرياح الغربية بالسحاب والمطر وأسراب الطيور في رحلة سنويةأبدية،وقد يشتُّ ببعضها المزار فتتجاوز الآفاق إلى جزيرة العرب.
ف يا أيها الطائر الميممُ أرضي : أقرِ من بعضي السلام لبعضي
إن روحي كما رأيتَ بأرضي : وكياني كما علمتَ بأرضِ!
أخبرنا بالله عن مهوى الفؤاد،وملاعب الصبا،فقد يكون في الخبر الصادق بعض السلوى،أو بعض ما يجدد الذكرى،ويؤجج نار الشوق الذي لا يخمد.
ولا يظنن أحد أن لإيراد هذه المعلومة أي غرض سياسي أو دنيوي؛لأن ذلك يلغي القيمة الحقيقية لمعنى الوطن المقدس،فإن الأهل من سكان الأردن في شرق نهر الشريعة والقبائل العربية الماجدة كانوا على الدوام بعدًا وعمقا للجبهة الأمامية إخوانهم أهل الأرض المباركة وحتى معنى الأرض المقدسة ينطبق على شرقي النهر كما ينطبق على غربيه سواء بسواء،واللحمة والوشائج التي تربط أهل الضفتين أسمى من أن تتعلق بأمور دنيوية مادية موقوتة،أو أن تقاس بسلوك مؤقت،وهذا قدر الأهل في الضفتين،فهم أهل الرباط إلى يوم الملحمة الكبرى.
وأنا هنا أرثي الوطن الذي باعه السماسرة مقابل المناصب والوزارات والشركات المشتركة بينهم وبين اليهود،والاستثمار الاقتصادي في زمن العولمة،ومظهرًا للأطماع الدنيوية،وأعجب ما فيهم هو إصرارهم على أنهم أصحاب مشروع وطني يرعون مصالح الشعب الذي رزىء بهم.
أرثي الوطن الذي وأدوه،وكان ما أقدموا عليه ستارًا لطغاة اليهود المحتلين الذين أكملوا احتلال بقية أرضه،وتواطأوا مع قوى البغي الصليبي الحاقد التي استخدمتهم لقهر شعبهم ، وقتل الشرفاء الأبطال أبناء وأحفاد الأبطال المجاهدين من الصحابة والتابعين،في مقابل المال الذي انهال عليهم من كل صوب،وخاصة من أوروبا الصليبية التي ألقت بقاذوراتها من اليهود على أرضنا لتحل المشكلة اليهودية المستعصية التي أشعلت الحروب بين دولها،ونشرت الفساد فيها.
وما درى المخدوعون ممن يدَّعون الانتساب إلى فلسطين من شراذم المنافقين اللاهثين وراء السراب:أن هذا المال هو ثمن بلادهم (آسف بلادنا)‍‍‍ متذرعين بالمصلحة الوطنية،تلك المقولة الكاذبة المضللة الباطلة،وقد أثبتت التطورات التي تلت تلك الواقعة غرابة هذا المسلك غير المسؤول،والإصرار على السير في الطريق المدمر،انظروا إلى ما جره سلوك السماسرة في تواطئهم مع اليهود الصهاينة:بناء الجدار الذي يلتهم ما تبقى من الوطن قطعة قطعة،والقتل الدائم لخيرة شباب الوطن مستفيدين من المعلومات التي توفرها لليهود أجهزة السلطة وجواسيسها،ولكن الوطن الذي حملته في قلبي أبدًا باقٍ يكبر كلما كبر الحب الذي لا يزيده مرور الزمن إلا نموًا وازدهارًا.
وما توالى على الوطن من الأحداث الدامية التي بدأت بتدنيس المجرم شارون للمسجد الأقصى ثم ما أطلق عليه انتفاضة الأقصى والمسرحيات السياسية التي رافقت المجازر الدامية في نابلس وجنين وطولكرم والخليل وقطاع غزة،وكل مواقع النضال الذي عزَّ مثالها،وما رافقه من المشاريع والتفاهمات والخرائط التي تخدر الناس،وتطلق يد المستعمرين الغاصبين في التهام الأرض وتغيير طبيعة البلاد المقدسة؛لكي لا يعرف العالم بعد ذلك إلا صورته التي تقدمها الصهيونية واليهود المحتلون،كل ذلك والمخدوعون بدعاوى السلام الزائف سادرين في غيِّهم ينتقلون من وزارة إلى وزارة،ومن تشكيل إلى تشكيل،ومن وجوه إلى وجوه،حتى هلك رئيسهم،وجاء بعده رأس الشر مهندس"أوسلو الخزي والعار":محمود عباس.
1
زمن النصر الضائع
أعاد يوم الثلاثاء 31 آب أغسطس عام 1993م ذكرى الثلاثاء الأسود الموافق 17 حزيران ( يونيه ) 1930م عندما خرجت جنازة الشهداء الثلاثة : عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي من سجن عكا ، وذلك بعد أن أعدمهم المستعمرون الإنجليز بسبب أعمالهم البطولية ، وكانت شهادة استشهادهم الثانية في اتفاقية إعلان المباديء التي اعترف فيها )الثوار الأبطال ،أبوات الكفاح ! ) اعترفوا باليهود ملاَّكًا لبلادنا ، في سابقة لم يجرؤ عليها أحد من البشر ، فكانت مرثية وطن هذه تسجيلاً لرفضٍ نفسي وفكري وأخلاقي وبراءةً من كل من ساهم في هذا العمل المشين المهين ، بدأت كتابتها يوم الأربعاء الأول من سبتمبر 1993 م بعد أن اعترف ( الرئيس الرمز! ) علنًا في مؤتمر صحفي عقد في الإسكندرية باليهود الغزاة ملاَّكًا لبلادنا .


بالإسكندرية كان الأمس نهارًا أسودْ
كان الأمس ثلاثاء أسودَ آخر
يوم آخرُ من أيام الحزن الدائم
حزن آخر في سلسلة الأحزان
الحزن الأول مجدٌ ممهور بالدم
مجدٌ يعلو فوق جبال الهَم
مجد أعلى من كل جبال الأرض
مجد يعلو فوق النجم
مجد صنعته الأقدار وباركه الأحرار
مجد باركه الله بدمٍ ينزف ليل نهار
*****
في هذا الحزن الآخر رائحة العار
رائحة المكر وسيماء الغدر
في عرس العار أقاموا الزينة
في هذا العرس بُعٍثَتْ أشياءُ دفينة
العطر بقايا أعواد البخور
أضواء المسرح تزهو بالصلبان
كان الحفل فريدا لم تشهده الدنيا منذ عصور
يوم صمتت فيه الأحياء وسكن البحر
يوم أسودُ ممسوخٌ في زمن القهر
يوم جلل فيه وجهَ الشمس سواد
يوم سكتت فيه الأشياء ونام الموج
يوم فيه انهد الجرح وصار رماد
دخل ( عريس الحفل )
دخل (عريف الحفل )
وقف عريس الحفل ( عريس الفتح )
إنسان تاه بداخله الإنسان
وقف يلملم أهداب ستار مهتريء الأهداب
وقف وصارت تتفلت منه الكلمات
دخل ليعطي إذن الرقص لأهل الحفل
ولتعلو هاماتِ الأوطان جبالُ الوحل
*****
كان الأمس ثلاثاء أسود آخر
كان الرقص حزينا
كان الرقص ثعابين تنفث غسلينا
كان الرقص يندب وطنا دمره شمشون
سمًا أصفر يسري في زهر الليمون
ويسمم حتى ورق الزعتر
ويشل يدا تقذف حجرا يدمي صهيون
كان الرقص رقص دليلة
كان الرقص على جثة أرض ماتت غيلة
اغتالوا فرحتها في ثوب العرس
فذوى عبق الريحان وضاع الأنس
تبخر ينبوع النور بعينيها
وسرى برد الموت إليها
*****
بالأمس وفي نفس الثلاثاء الأسود
كانت زينة
كانت أشياء حزينة
الزينة أشواك الغرقد
الزينة خفافيشٌ هائمة في الكهف الأسود
الزينة أعلام الوطن المغدور
رُسمت فيها نجمة صهيون
يا رايتنا يا ذات الأربعة الألوان
يا رمز العز وعنوان النصر على الطغيان
في عرس الحزن تحاصرك الصلبان
الزينة لون النهرين على راية صهيون
الزينة كف مرسوم بدماء الشهداء على الجدران
الزينة لوحات خطتها ريشة ناجي
كلمات كُتبت بالنور الأسود
في زمن الذهب الأسود
في زمن الذل الأسود
تصرخ في جسد فارقه الروح
قدماه على جبل الزيتون ويداه تلوح
جسد مترهل مقطوع الرأس ذبيح
الزينة نثار دماء تلهو فيها الريح
الزينة وشم الذل على جبل الجرمق ( 1 )
الزينة بركان حمم تتدفق
الزينة نار
الزينة وصمة عار
منها صنعوا تاجا للمخدوعين
وقالوا : تاج الغار !
أنتم ثوار !
انتم صناع قرار !
*****
كان البخور قتاما منبعثا من شجر الغرقد( 2 )
ينفثه صدر سجين يتلوى في أقبية التعذيب
يرفع عينيه المثقلتين إلى كوة سجنه
يلمح خيطًا ضوئيًا فيظن الفرجَ قريب
يصيح ينادي : يا ثوار الفتح !
يظن الفتح يجيب !
يسمع أحذية الجلادين تدق الأرض
فيَدْمى الجرح
فينادى : جاء نشامى الفتح !
جاء رفاق الخندق عادوا منتصرين ...!
تغدو وتروح كتائبهم
ها قد عادوا لفلسطين...!
للحلم الأبدي
للحلم الوردي
*****
في أغرب عرس دموي بفلسطين
أهدى ( الثوارُ ) فتاتَهم الحرةََ ( رابين ) ( 3 )
زفوها قسرا ترسف في قيد الذل
عجنوا الكحل بدمع العين
ومساحيقُ التجميل تراب عظام الشهداء
خاطوا ثوب زفاف عروستهم من مزق الرايات
رايات الأمل الضائع.....
رايات النصر الضائع .....
*****
في نفس الثلاثاء الأسود كان العرس
عرس ضجت فيه الموسيقى والألحان
عرس سهرت فيه الحانات ودار الكأس
وتعالت صيحات النشوة من كل( الإخوان)
عرس حافل ضم ( الأبواتِ )( 4 )وعُبَّادَ الصلبان
عرس (الفتح الظافر) في عيد الأحزان !
الموسيقى ..........
قهقهةٌ عبرت حُجَبَ الأزمان !
والألحان ......
أنَّاتُ ثكالى في زمن النصر الضائع !
____
( 1 ) الجرمق : أعلى جبل في فلسطين .
( 2 ) الغرقد : شجر اليهود ، وهو الوحيد من نبات الأرض الذي لا يرشد المسلمين إلى مكانهم أثناء الملحمة الكبرى التي يقتل فيها المسلمون اليهود كما أخبر بذلك الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم .
( 3 ) رابين : هو اسحاق رابين الذي وقع مع ياسر عرفات اتفاق المباديء وبيان واشنطن ، واشترك معه في تقاسم جائزة نوبل ، واغتاله أحد المتعصبين اليهود .
( 4 ) الأبوات : هم زعماء المنظمات الفلسطينية الذين تكنوا بها واتخذوها أسماء حركية بدعوى السرية أثناءالعمل الفدائي في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين الماضي ، وغلبت على أسمائهم الحقيقية ، فعلى سبيل المثال فإن اسم ياسر عرفات ( أبو عمار ) الحقيقي هو محمد عبد الرؤوف القدوة ، واسم ( أبو العلاء ) هو أحمد قريع ... وهكذا ، وحتى هذا الوقت لا يعرف السر وراء احتفاظهم بهذه الكنى ، مع أن اسم الإنسان جزء أساسي من كيانه وشخصيته ، ومن العوامل الشعورية الرئيسة التي تحقق وجود الذات وتميزها وتظهر وتجسد نضج الأنا الواعي كما يقول علماء التحليل النفسي .
2 أريحا ....... أولاً
يؤكد كاتب هذه الأبيات بكل الصدق والصراحة أن الأسماء الواردة في السياق لا تحمل أي مضمون أو إشارة شخصية ، وكان ورودها ضرورة فرضتها مقتضيات الرمز الشعري ، حتى اسم( عرفات ) جاء بشكل تلقائي تصويرا لسلوك معين في وعي الكاتب ، ( وإلا فإن اسمه الحقيقي هو محمد عبد الرؤوف القدوة ) ، وذلك عندما انساق المذكور ليوقع على وثيقة بيع الوطن دون التفكير في العواقب والآثار المدمرة التي عاشها الشعب في السنوات التي تلت التوقيع ، وكان أول إنسان تجرأ طوال مائة عام على تجزيء الوطن والتنازل عن أرضه ..... وهو سلوك لا يصدر حتى عن الحيوان الأعجم أو الطير الضعيف ، ولِمَنْ تمَّ الإعتراف بملكية فلسطين ؟ لأعداء الله وأعداء رسوله وأعداء الإنسانية : اليهود !
على بوابة سور أريحا وقفت شاردة النظرات
تسرح في الأفق الشرقي طرفا مشبوب الشهوات
ندَّت عن غصن البان وجيدٍ كظباء الفلوات
شقت ( راحاب )([1] )الباب لجاسوسين اندسا في الظلمات
وبدت في حلل الوشي تنادي:يا عشاق الشهوات !
ودعته بطرف مشبوب الشهوة : أقبل يا (عرفات) !
دونك ليلاً ناريَّ الأضواء وعطري النسمات
فلقد بددت ليالي العمر وأفنيت السنوات
ولقد آن بأن يلتئم الشمل وتصطخب الآهات
يا ليلا غجري الرقص جموح النزوة ثوري القبلات
فراشك فيه فراء ذئاب ضارية تلتهم الحرمات
ودثارك من كل كريم الوشي ومن مزق الرايات
ولباسك حاكته ( سالومي ) فضفاضا للحفلات
وعشاؤك:يا لعشاء من دود الأرض وأجساد الأموات
وشرابك خمر عبري النشوة ينسيك الصلوات
والموسيقى أبواق الكهنة مرسلة صداها في الردهات
بحر صهيوني الغدر كقدر محتوم يدق البوابات
دع عنك اللوم فأنت رئيس الجمع حكيم في الأزمات!
وبين يديك الفتنة والسلطان ومفتاح الثروات
اضرب صفحا عن ماض فات فكل جديد آت
وغذ السير وئيد الخطو على درب السادات
وتقدم ركب العرب لجلب الخير على كل الجبهات
أوميء بالرأس ومد يديك وقبّل في الوجنات
جاءتك سلاطين الدنيا مسرعة تمنحك التسهيلات
وجنودك شعث وقريع (ومَنْ ربوه) وعريقات
ماضيك يزكيك ويشهد على ( نبل الغايات ) !
ما يدريهم ما أنت عليه فربك أعلم ( بالنيات ) ؟
ما ضرهم لو أعطوك الوقت لتبعث كل موات ؟
ما أنت بأول سمسار شيطان جدير باللعنات !
الكل سماسرةٌ وأريحا لا تؤوي غيرَ جُناة ([2])
____________
3 الوعد ...... غزة
للذين يتوعدون الوطن بالذبح،والأمهات بالثكل،والأبطال بالقمع والتصفية،كما ظهر ذلك جليا في أحداث المؤامرة اللئيمة التي أطلقوا عليها انتفاضة الأقصى منذ سبتمبر 2000 م، وما كان اليهود ليوقعوا الإصابات بالشعب،ويقمعوه بهذه القسوة دون المعلومات التي وفرتها السلطة في اجتماعات التنسيق الأمني العلنية والسرية،التي تمت بتدبير من جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية ومديرها اليهودي جورج تينيت الذي كان مقيمًا قبلها في بيت ياسر عرفات في غزة‍‍.
اسأل عن غزة موج البحر الصاخب أو رمل الصحراء
سأل عنها ليلا بركاني الثورة موار الأنواء
اسأل عنها شمسا تشهد بالصدق على جيل الشهداء
اسأل منها تراب الأرض وكم رواه الشعب دماء
اسأل مسجدها العمري الصامد عما يجري صباح مساء
اسأل جبل المنطار الراسخ فيها عن حال الأحياء
جند للدين وقد شادوا في الأرض له وطنا وبناء
اسأل عن أطفال ورثوا العزة عن خير الآباء
من سجيلٍ حملوا حجرًا يدمي وجه الأعداء
يولد واحدهم في يده حجر يومض نوراً وضياء
اسأل عنها صهيون فقد عرفوا بلواها في الهيجاء
اسأل عن غزةَ رمزِِ العزةِ أرضِ النخوةِ حصنِ إباء
اسأل عن كل عريب منجرد ممن وهب الروح فداء
اسألها إن جنحت أو خنعت أو كانت سلما للدخلاء !
ما خضعت غزة يوما للجبارين ... لتخضع للعملاء!
كانت أبدًا شوكًا سهمًا رمحًا يدمي قلب الدخلاء
يا غزة ميدي وانطلقي صاعقة في وجه الأعداء
انتقمي ممن باع الأوطان وهبي عاصفة هوجاء
إن كانوا يا غزة حقا منك سليهم عن مثوى الآباء !
ماذا فعلوا بالرنتيسي والشيخ الصامد كصفاة صمَّاء
ماذا فعلوا بالرواد وماذا صنعوا بالشهداء
باعوهم ليهود ... باعوهم حتى يبقوهم زعماء
يعرف ماضيك الماجد شهودُ وقائعك السوداء
لا أمن لمن باع الأقصى،أو فرَّطَّ في أرض الإسراء
[1] راحاب : حسب الموروث اليهودي هي البغي التي أوت الجاسوسين اليهوديين اللذين تسللا إلى سور أريحا يتجسسان على أهل القرية ، قبل أن يعبر يوشع بن نون غلام موسى عليه السلام وقائد بني إسرائيل من بعده نهر الأردن ، ويستبيح اليهود البلد ويبيدوا كل الأحياء فيها من الناس والحيوان(وبالطبع تمَّ ذلك لأن مَنْ (هادَ)وتاب بعد التيه من بني إسرائيل قوم موسى كانوا مسلمين موحدين على دين موسى وعيسى ومحمد ،عليهم الصلاة والسلام ،والكنعانيون سكان أريحا كانوا وثنيين،أما هؤلاء الرعاع من قطعان اليهود التي لفظتهم أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؛لتحل مشكلتها اليهودية المستعصية التي أشعلت الفتن والحروب في القارة، فلا علاقة لهم بموسى ولا ببني إسرائيل،ولا بالتوحيد ولا بالإسلام،هؤلاء يتجمعون،ويأتون لفيفًا لفيفًا تنفيذًا لما ورد في آية سورة الإسراء(فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفًا)بلا عقلٍ ولا ضمير ولا روح ولا إنسانية ولا إرادة،مثل قطعان البهائم،والويل والثبور لمن يمكن لهم في الأرض المقدسة،فهو جدير باستهداف الله له،ويجعل نفسه عرضةً للانتقام من المنتقم الجبار،الذي يمهل ولا يهمل،إن فلسطين ليست أيَّ أرضٍ كباقي البلاد،فهي ثالث الحرمين،ومسرى خاتم الأنبياء وسيدهم وإمامهم،فليتعظ السادرون في غيِّهم،ولينتبه من تغلو عليه نفسه،وله أدنى عنلية بخاتمته وعاقبته،عندما يقف أمام الملك الجبار،ويرى صحيفة عمله التي سجل فيها قرينه كل ما لفظ من قول،او اقترف من عمل،فالنجاء النجاء !
[2] ) الجناة:هم كل الذين توهموا أنهم أهلاً لاتخاذ قرار لم يجرؤ عليه إنسان يحمل في قلبه أدنى احترام للوطن ، وأقل إحساس بقيمته)الخونة)الذين استبدلوا البنادق بالفنادق،سماسرة الأوطان الانتهازيون الذين ركبوا موجة العلمنة واستطابوا المفاوضات والوجاهات الزائفة،وتحالفوا مع الطغيان،وهل أكبر من تلك جناية في حق الوطن ؟ وهنا أذكرهم بأبيات للشاعر العراقي بدر شاكر السياب يقول فيها :
* إني لأعجب أن يخون الخائنون !
*أيخون إنسان بلاده ؟!
* إن خان معنى أن يكون ...
* فكيف يمكن أن يكون ؟ !
ولكن متى كانت فلسطين وطنًا لهم حتى يتفهموا عمق مدلول قول السياب ؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.