كل ثورة لها نكهة خاصة ورائحة عطرة تميّزها عن بقية الثورات. يتوسّع تأثيرهاوينتشر إشعاعها ويتخطي كل حدود. والثورة الليبية التي تسطّر هذه الأيام, ,واحدة من أجمل صفحات التاريخ في فنون الثورة, خلافا لثورة الدكتاتور القذافي المزعومة, سوف تقدّم للشعوب العربية درسا حقيقيا حول كيفية مقارعة نظام دموي مستبد أدمن الى درجة المرض والهوس على السلطة والمال والقتل. وجعل من الشعب الليبي حقل تجارب لنظريات أقل ما يُقال عنها أنها قمّة السخرية والمهزلة, فضلا عن فشلها الذريع الواحدة تلو الأخرى. إن العقيد القذافي الذي يلفظ نظامه الاستبدادي أنفاسه الأخيرة رغم إقدامه على إرتكاب المزيد من المجازر بحق شعبه, أراد أن يثبت للعالم أن أوان "ثوريته" الهوجاء قد حان تطبيقه على أجساد أبناء شعبه بعد أن عاث فسادا في كلّ مكونات ومؤسسات الدولة ونشر الفوضى, قولا وفعلا, في كل مناحي الحياة. بل وصل به الهوس والغرور والعجرفة الى أن إعتبر نفسه "مجد" ليبيا وفخرها الذي لا فخر بعده ولا قبله دون أن يأتينا ببيّنة واحدة على ذلك. وكأن الشعب الليبي, حسب تفكير العبقري معمر القذافي, عبارة عن قطيع من الأغنام التائهة وجدت في هذا الراعي أو "الأح القائد"مأوى لها وحامي من هجمات الذئاب والضباع. وبعد ثورتي تونس ومصر, والثورة الليبية المسلحة هذه الأيام, بدا جليّا أنه سوف لا تقوم للشعوب العربية قائمة طالما بقيَ فيها"زعماء"مجانين أو مُصابون بالف عقدة ومرض نفسي على شاكلة العقيد القذافي. يؤمون بان الشعوب تعيش وتموت من أجلهم وليس العكس, وإن الله سبحانه وتعالى بعثهم, كما لو كانوا أنبياء أو رُسل أو قدّسين, ليحكموا الى الأبد ويرثوا الحُكم الى أبنائهم وأحفادهم حتى يوم الدين. وأصبحت السلطة بالنسبة لهم إدمانا ومرضا يصعب التخلّص أو الشفاء منه الاّ بانتفاضة كاسحة أو بثورة شعبية عارمة. من المؤكّد إن نظام العقيد القذافي المحصور في طرابلس وبعض البلدات سوف يستمر, قبل أن تأتيه رصاصة الرحمة, في إرتكاب المزيد والمزيد من المجازر والجرائم التي يرافقها عادة خراب ودمار في البنى التحتية والمرافق الأساسية لحياة الشعب الليبي اليومية. وبناءا على الطبيعة "الثورية جدا" للعقيد القذافي وإستماتته في التمسك بكرسي الحُكم فليس غريبا عليه من أن يدمّر كل شيء أمامه خصوصا وإن ردّة فعل ما يُسمى بالمجتمع الدولي, وتحديدا أمريكا والغرب, لم تكن كافيةعلى مجازر القذافي بحق شعبه وإستخدامه الطائرات الحربية والدبابات والمدافع الثقيلة وكأنه يتصدى لهجوم جيوش أجنبية غازية وليس مواطنين ليبيين مسلّحين باسلحة متواضعة جدا. ولكن, ومهما كان إتجاه رياح الثورة الليبية, والثورة الدموية المضادة لها التي يقودها العقيد القذافي والمقربون منه, فأن نهايته شخصيا ونظامه سوف تكون أسوء بكثير من المتوقّع إن لم تحدث معجزة من نوع ما. فالرجل, أي العقيد القذافي, وضع نفسه في زاوية ضيقة, يحاصرها شعبه الثائر ضدّه من أكثر من جانب. وبديهي إن من يقف ضدّ شعبه لا يمكن أن ينتصر أبدا. وما على القذافي "الفيلسوف العبقري المفكّر اللامع...ألخ" الاّ العودة الى التاريخ, خصوصا الحديث منه. لا شك أن الكثير من الأبرياء سوف يقتلون والكثير من الشهداء, من بين المدنيين والثوار, سوف يسقطون أو يُصابون. ولكن ما هي النتيجة؟ هل سيبقى القذافي المعتوه في مكانه وكأن شيئا لم يكن؟ أو أنه سيرشّح نفسه لنيل جائزة نوبل باعتباره أكثر رؤساء العالم ممّن إستخدموا البارود والرصاص ضد شعوبهم وسفكوا دماء الآلاف منهم؟ ومن المؤسف حقّا أن العالم, خصوصا ما يسمى بالدول المتحضرة, تعاملت على مدى سنين طويلة في السرّ والعلن مع العقيد القذافي الذي كان وما زال أحوج من سواه من البشر الى طبيب نفسي أو معالج مختص. فالرجل أقلّ ما يُقال عنه أنه غير سوي ومتقلّب وخاضع لموجات مد وجز عاطفية غير محمودة العواقب. وعليه فان الشعب الليبي, مع أصدق وأعمق تمنياتنا بانتصار ثورته وخلع طاغيته المستبد, مُطالب أولا وقبل كل شيء بالحذر كل الحذر من التدخلات الأجنبية بكل أشكالها وصنوفها وتحت أي مُسمى. فيا أيها الليبيّون الشرفاء إن بترولكم بالنسبة لأمريكا والغرب أغلى بكثير من دمائكم التي تُسفك كل يوم على يد قوات المجرم معمّر القذافي ومرتزقته. وإن أباركم النفطية بالنسبة للشركات الغربية الكبرى هي أقدس وأهم من الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. فلا يغرّنكم الكلام المعسول ولا دموع التماسيح التي ذُذرف هنا وهناك. و ما عليكم الاّ الاعتماد على أنفسكم وبعض الشرفاء في هذا الكون رغم قلّتهم, مهما بلغت تضحياتكم وخسائركم. وإعلموا أن لا ثورة بدون تضحيات ولا نصر بدون خسائر أو معاناة أو حرمان. لقد خلعتم عن "ملك الملوك" كل أوراق التوت التي غطى بها عورته على مدى أكثر من أربعين عاما وها هو عاريا في مرآة العالم, وما عليكم الآن الاّ رميه في مزبلة التاريخ. [email protected]