نبيل عمار يؤكد الحرص على مزيد الارتقاء بالتعاون بين تونس والكامرون    أبطال إفريقيا: موعد مواجهتي الترجي الرياضي والأهلي المصري في النهائي القاري    الكاف..جرحى في حادث مرور..    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    حالة الطقس لهذه الليلة..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طبيبة تونسية تفوز بجائزة أفضل بحث علمي في مسابقة أكاديمية الشّرق الأوسط للأطبّاء الشّبان    بعد دعوته الى تحويل جربة لهونغ كونغ.. مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد    التعادل يحسم مواجهة المنتخب الوطني ونظيره الليبي    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    تكوين 1780 إطارا تربويا في الطفولة في مجال الإسعافات الأولية منذ بداية العام الجاري    بنزرت: ضبط كافة الاستعدادات لإنطلاق اشغال إنجاز الجزء الثاني لجسر بنزرت الجديد مع بداية الصائفة    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا وجاري العمل على تسهيل النفاذ إلى هذه السوق    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    سيدي بوزيد: ورشة تكوينية لفائدة المكلفين بالطاقة في عدد من الإدارات والمنشآت العمومية    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة ويساعد على القيام بمهامهم دون التعرض الى خطايا مالية    القضاء التركي يصدر حكمه في حق منفّذة تفجير اسطنبول عام 2022    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    منوبة: الاحتفاظ بصاحب مستودع عشوائي من أجل الاحتكار والمضاربة    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    وزارة التجارة تقرّر التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    رقم قياسي جديد ينتظر الترجي في صورة الفوز على صن داونز    معتز العزايزة ضمن قائمة '' 100 شخصية الأكثر تأثيراً لعام 2024''    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    "تيك توك" تفضل الإغلاق في أميركا إذا فشلت الخيارات القانونية    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المواجهة الكبرى بين الإسلام والغرب في عصر العولمة الكونية
نشر في الفجر نيوز يوم 16 - 11 - 2008

انتصار العولمة لا يقل أهمية عن مرحلة التنوير في القرن ال 18
الفيلسوف الألماني هابرماس يتحدث عن ضرورة تشكيل برلمان وحكومة عالمية للكرة الأرضية
مؤتمر الديمقراطية والتجارة الحرة الذي تنظمه قطر سنوياً هو ممارسة للديمقراطية على أوسع نطاق
العالم العربي والإسلامي لم يعد قادراً على تجاهل مسألة الحرية والفلسفة والديمقراطية
الفقر ناتج في جزء منه عن سياسات العولمة الظالمة
أركون يرفض انحرافات الحركات الأصولية الجهادية وإغراقها في التعصب الأعمى
نحتاج إلى فكر جديد يكشف لنا عن رهانات المعنى وإرادات الهيمنة التي تجلت في المنطقة

.. لكي نكمل تحليلاتنا السابقة عن الديموقراطية نقول ما يلي: يرى اركون ان البشرية دخلت في مرحلة جديدة من تاريخها بانتصار العولمة لا تقل اهمية عن مرحلة التنوير في القرن الثامن عشر. ففي السابق كانت الديموقراطية تمارس داخل جدران الدولة القومية الحديثة. اما الان فانها اصبحت تمارس على مستوى الكون كله.
فلم يعد مواطنو أمة واحدة هم الذين يناقشون القضايا السياسية المطروحة وانما مواطنو العالم كله أو الجنس البشري بأسره. وقد وصل الامر بالفيلسوف الالماني هابرماس إلى حد التحدث عن ضرورة تشكيل برلمان عالمي ينتخب من قبل جميع شعوب الارض! كما ودعا إلى تشكيل حكومة عالمية للكرة الارضية بأسرها وذلك عن طريق توسيع مجلس الامن مثلا.
بالطبع فان هذه المقترحات لا تزال افكارا جنينية أو طوباوية بعيدة عن التحقق. ولكن كل المشاريع السياسية الكبرى ابتدأت طوباوية ثم تحققت لاحقا. الامم المتحدة كانت حلما طوباويا استشعره الفيلسوف الكبير ايمانويل كانط ولكنها لم تصبح حقيقة واقعة الا بعد موته بمائة وخمسين سنة. ومعلوم ان الفلاسفة الكبار يرون إلى البعيد بل والى بعيد البعيد.
ثم تتحقق رؤاهم وتتجسد بعد موتهم بفترة تطول أو تقصر. انهم يمتلكون رادارا داخليا يكشف الظلمات أو يسبر آفاق المستقبل البعيد على عكسنا نحن الناس العاديين الذين لا نرى إلى أبعد من أنوفنا... مهما يكن من امر فان اركون يعتقد بان الجنس البشري كله اصبح معنيا بالمناقشة السياسية والمناقشة الفلسفية في عصر العولمة الكونية.
فنحن اصبحنا نشهد نفس الحدث على شاشات التلفزيون بل ونستمتع بمباراة كأس العالم أو الالعاب الاولمبية في نفس اللحظة من استراليا إلى الصين إلى اليابان إلى العالم العربي إلى امريكا اللاتينية الخ... وبالتالي فشيئا فشيئا سوف يتشكل رأي عام عالمي يشمل جميع شعوب الارض.
وعندئذ سوف ندخل في مرحلة الديموقراطية الكونية أو المناقشة الحرة العالمية لشؤون التلوث والبيئة مثلا والتي اصبحت تهم جميع شعوب المعمورة، أو مسألة الحرب والسلم، أو مسألة الجوع في العالم، أو مسألة الاصوليات الدينية والحركات المتطرفة الخ.. بل ان مؤتمر الديموقراطية والتجارة الحرة التي تنظمه دولة قطر كل عام وتدعو اليه مئات المفكرين والمسؤولين السياسيين من مختلف انحاء العالم يعتبر نوعا من ممارسة الديموقراطية على اوسع نطاق.. ففي ارجاء أحد فنادق الدوحة الكبرى تدور نقاشات واسعة بين العربي والفرنسي والامريكي والباكستاني والروسي والصيني الخ..
وقل الامر ذاته عن مؤتمرات الحوار بين الاديان أو حوار الحضارات الخ.. كلها تتيح لشخصيات من مختلف القوميات والاديان والاعراق ان تتعارف على بعضها البعض فتزول الهوة النفسية السحيقة التي تفصل بينها وتساهم في تقوية فرص السلام والحوار بين الشعوب عن طريق ابعاد شبح صدام الحضارات والثقافات.
أيا يكن من أمر فان العالم العربي والاسلامي ككل لم يعد قادرا على تجاهل مسألة الحرية والفلسفة والديموقراطية والتحدي الكبير الذي تطرحه السلفية الانغلاقية على كل ذلك.
ونلاحظ ان اركون يناقش المسألة من خلال حواره غير المباشر مع الباحث الامريكي بنيامين باربر صديق بيل كلينتون والاستاذ في جامعة نيويورك. ومعلوم انه كان قد أصدر كتابا بعنوان: الجهاد ضد أمركة العالم. العولمة والاصولية المتزمتة ضد الديموقراطية .
وهذا يعيدنا إلى الفكرة التي كنا قد اوردناها سابقا: وهي ان العالم العربي واقع بين فكي كماشة: فمن جهة تضغط عليه من الخارج قوى العولمة الجائرة والكاسحة التي لا تقاوم ولا ترد. ومن جهة ثانية تحاصره من الداخل قوى التزمت والاصولية العنيفة وتسبب له المشاكل والاحراجات تجاه الخارج بالاضافة إلى الحروب الاهلية في الداخل.
ميزة هذا المفكر الامريكي هو انه ليس من المحافظين الجدد الذين يلقون باللوم كله على الاصولية والتزمت ويهملون الدور السلبي للغرب. وانما هو ليبرالي مستنير على طريقة بيل كلينتون المضاد للاصولي اليميني جورج بوش. وهو لا يهتم بالجهاد من اجل ادانة توسع الاسلام عن طريق الحرب المقدسة أو من اجل بلورة نظرية للحرب العادلة للرد عليه كما فعل بعض قادة الغرب مؤخرا.
وانما هو يعتبر، وبحق، ان كل انواع العنف والتفجيرات التي تمزق العالم الإسلامي تعبر ليس فقط عن أزمات داخلية خطيرة وانما ايضا عن احتجاج مباشر أو غير مباشر ضد القوى العمياء للعولمة: أي ضد الاقتصاد الرأسمالي الذي يحبذ الاغنياء على الفقراء وبلدان الشمال على بلدان الجنوب. كما ان الانفجار الاصولي يشكل رد فعل ضد مضاربات النظام المصرفي العالمي، والتلاعبات بالنظام الوراثي للانسان والحيوان والنبات وعدم احترام أي قدسية للكائن الحي، هذا بالاضافة إلى اشياء اخرى عديدة.
ان الاصولية في احد جوانبها تمثل احتجاجا على العنف البنيوي المتمثل بافقار الآخرين بل وحتى تجويعهم. فالافقار هو ايضا عنف يمارس ضد الانسان وكرامة الانسان. بل انه اكبر عنف وأبشع عنف. وهو يمارس ليس فقط ضد بلدان الجنوب الفقيرة من الاساس وانما ايضا ضد شرائح واسعة من مجتمعات الغرب ذاتها. ففي الولايات المتحدة التي تمثل أغنى بلد في العالم يوجد اكثر من ثلاثين مليون فقير أو يعيشون تحت خط الفقر. وبالطبع فان الفقر في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية والعالم العربي والاسلامي اكبر بكثير لانه يشمل مئات الملايين.
وهو ناتج في جزء منه عن سياسات العولمة الظالمة: أي عن القرارات اللامسؤولة التي تتخذ من وراء الستار أو الضغط على الازرار من قبل قادة العولمة: أي قادة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمصارف الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات العابرة للقارات والتي لا تفكر الا في مصالحها وتراكم رؤوس اموالها إلى ما لا نهاية.. هؤلاء هم المسؤولون بالدرجة الاولى عن تجويع العالم دون ان يعني ذلك انكار دور الحكومات المحلية القائمة على الفساد والمحسوبية والتي ينقصها الحكم الرشيد.
ثم يردف اركون قائلا: ضد هذا العنف الناعم إذا جاز التعبير للرأسمالية العالمية ينهض عنف آخر قاتل صادر عن الحركات الجهادية والاصولية. وهو يعبر عن رفضه لهذه العولمة باسم القيم الدينية التقليدية.
وهكذا يقف امام بعضهما وجها لوجه عنف العولمة وعنف الجهاد المقدس ويشغلان العالم منذ 11 سبتمبر على الاقل. ان هذا العنف المتبادل ينشر الكثير من الفوضى المعنوية في عالمنا المعاصر ويشجع التيارات اللاعقلانية.
ولكنهما يتصارعان بأسلحة غير متكافئة على الاطلاق. فما قيمة الكلاشينكوف الذي يحمله بن لادن أو أيمن الظواهري ومن لف لفهما في جبال افغانستان امام آلة الحرب الامريكية الجهنمية والتكنولوجيا العسكرية التي لا تضاهى؟ شيء مضحك. مهزلة.
ولكن المشكلة هي ان هذين المشروعين المتناطحين بطريقة دونكيشوتية من جهة الاصوليين على الاقل يؤديان إلى افشال المشروع الديموقراطي الحقيقي الهادف إلى تحرير الوضع البشري.
لكي يدافع عن الديموقراطية ومشروع الأنوار فان بنيامين باربر يزيد من حدة التضاد بين الجهاد الإسلامي والعولمة الامريكية المدعومة من قبل بوش والمحافظين الجدد الذين يكرههم. فهو يقول بان الجهاد يبعث مجددا القوى المظلمة لعالم ماقبل الحداثة: أي العالم المتمثل بالاسرار الدينية والطوائف المنغلقة على ذاتها والتراثات الخانقة والجمود التاريخي.
اما العولمة الغربية السائدة حاليا فلا دين لها الا الربح وتراكم الرساميل إلى ما لا نهاية وفلسفة المتعة والشهوة واللذة.. انها تغلّب حقوق السوق والمتع المادية البحتة على حقوق الروح والمثل العليا والامل الانساني للانسان. هذا ناهيك عن التعالي الماورائي أو الرباني الذي لم يعد يتحدث عنه أحد في خضم الحداثة المادية..
على الرغم من اتفاق اركون مع بنيامين باربر على اشياء عديدة الا انه ينتقد منظوره العام قائلا: انه اذ يهاجم الاصولية الجهادية والعولمة الرأسمالية يظل منغلقا داخل الاطار المعرفي لعقل التنوير هذا في حين ان العولمة الكونية الحالية اصبحت تجبرنا على مراجعة كل انظمة الفكر السابقة بما فيها فكر التنوير الاوروبي ذاته.
وضمن هذا التوجه فاننا لا نستطيع موافقته على رمي العالم العربي والاسلامي كله داخل دائرة القرون الوسطى المظلمة أو عالم ما قبل الحداثة. فهو ينبه المفكر الامريكي إلى الحقيقة التالية: كلامه ليس صحيحا ولا ينطبق على العالم العربي الا بعد عصر الانحطاط الذي لا يزال متواصلا حتى الان من خلال الحركات الاصولية المعاصرة وخطاباتها البائسة وممارساتها.
اما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الثقافة الانسانية والفلسفية التي ازدهرت في المجال العربي الإسلامي بين القرنين الثامن والحادي عشر بل وحتى موت ابن رشد عام 1198 فانه ليس صحيحا على الاطلاق. فهذه الثقافة الاسلامية المستنيرة استبقت على الكثير من الافكار التي ظهرت في عصر النهضة في ايطاليا ابان القرن السادس عشر ثم توسعت اكثر وتعمقت ابان عصر التنوير في القرن الثامن عشر.
ثم يردف اركون قائلا:
والواقع ان عقل التنوير الاوروبي استخدم الفرس والترك والمحمديين أي المسلمين عموما ليس من اجل توسيع ساحته المعرفية بشكل كبير وانما بالدرجة الاولى من اجل خوض معركته ضد العدو الاساسي السائد آنذاك: أي الاكليروس المسيحي والاصولية الدينية الكاثوليكية.
اما القرن التاسع عشر الكولونيالي الذي جاء بعده فقد بلور ايديولوجيا للهيمنة تحت غطاء علم التاريخ والاتنولوجيا والاجتماع والنفس الخ.. بمعنى انه جمع المعلومات عن الشعوب الأخرى وشكل كل هذه العلوم ليس فقط من اجل المعرفة وانما من اجل الهيمنة على هذه الشعوب بفعالية اكثر.
فانت لا تستطيع ان تهيمن على الآخر بشكل جيد الا إذا عرفت عنه كل شيء.. منذ تلك اللحظة ابتدأ المشروع الغربي ينحرف عن المباديء الانسانية الطيبة لكبار فلاسفة التنوير وبخاصة جان جاك روسو وايمانويل كانط.
وهذا الانحراف الذي دفعنا ثمنه غاليا ابان المرحلة الكولونيالية أو الاستعمارية لا يزال للاسف الشديد مستمرا في عهد العولمة الحالية التي فقدت كل قيمة اخلاقية أو نزعة انسانية.
واكبر دليل على ذلك الأزمة المصرفية الحالية. هنا يكمن المأزق الكبير أو الانحراف الخطير للحضارة الغربية. وهذا يعني ان العولمة ليست الا استمرارية للمرحلة الاستعمارية ولكن على نطاق أوسع بكثير..
لاريب في ان المنظور العام لبنيامين باربر والداعي إلى تشكيل ديموقراطية كونية ذات نزعة انسانية جذاب من حيث المبدأ.
ولكن من يطبقه يا ترى أو من يهتم به؟ قليلون. يضاف إلى ذلك اننا بحاجة إلى شيء آخر من اجل القيام بمراجعة نقدية لتاريخ الفكر في حوض البحر الابيض المتوسط. نحن بحاجة إلى فكر جديد يكشف لنا عن رهانات المعنى وارادات الهيمنة التي تجلت في هذه المنطقة على مدار التاريخ منذ ان كان الاسلام قد ظهر في شبه الجزيرة العربية بين عامي 610.632. وعندئذ نكتشف انه ينبغي على الاسلام المعاصر ان يتجاوز الاحتجاجات العقيمة والخطرة غالبا للحركات الجهادية الاصولية.
لماذا؟ لكي يستطيع ان يهضم المكتسبات الاكثر ايجابية ورسوخا للحداثة. ثم لكي يستطيع ايضا ان يستوعب الامكانيات الجديدة للتحرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي التي دشنتها العولمة.
ذلك ان العولمة ليست كلها سلبا وانما فيها اشياء ايجابية عديدة ايضا وتقدم لنا فرصا سانحة للتطور إذا ما عرفنا كيف نستفيد منها جيدا. فالعولمة في نهاية المطاف ما هي الا استمرارية للمشروع التاريخي للحداثة التنويرية الاوروبية وتصحيحا لظلمه وانحرافاته واخطائه. هذه هي العولمة بالمعنى الايجابي للكلمة وليس بالمعنى السلبي المذكور سابقا. ذلك ان العولمة ذات وجهين: معتم ومضيء.
وهنا يلتقي اركون بالفيلسوف الالماني هابرماس دون ان يذكر اسمه. والدليل على ذلك قوله: إذا كانت الحداثة هي عبارة عن مشروع لم يكتمل ويتمثل في تحرير الشرط البشري اكثر فاكثر فانه ينبغي عليها ان تساهم في توجيه العولمة نحو المصالحة بين القيم المتعارضة.
نقصد بذلك المصالحة بين رؤى الاديان التقليدية كالاسلام والمسيحية واليهودية ورؤى الاديان الدنيوية الحديثة كالعلمانية والليبرالية وفلسفة التنوير عموما. فالصراع المتواصل والمنتظم بين هاتين الرؤيتين الكبيرتين للعالم والمصير البشري لا ينبغي ان يستمر إلى الابد.
ذلك ان الاصوات الخالدة للانبياء والقديسين الاولياء واللاهوتيين المتكلمين والفلاسفة والفنانين والشعراء والابطال التاريخيين كانت قد همشت في مجتمعات الحداثة التكنولوجية والنخب التكنوقراطية.. لقد اصبحت محتقرة، عرضة للهزء والسخرية، مرمية في غياهب الماضي القديم الذي لم يعد يهتم به أحد اللهم الا البحاثة الاكاديميين المتبحرين في العلم.
لقد بدت وكأن مصيرها النسيان النهائي. كل هذا اصبح في ذمة التاريخ في مجتمعات لم تعد تفكر الا في الفعالية التجارية أو المنافسات الصناعية أو المردودية الاقتصادية أو المتع الاستهلاكية.
ينبغي العلم بان المجتمعات الغربية المتطورة تنجب مدراء شركات كبار ومدراء بنوك ذوي مستوى ويشتغلون في اجواء من السرية الكاملة. كما وتنجب ابطالا رياضيين ونجوما سينمائيين يشعلون الحماسات العابرة.
كما وتنجب باحثين علميين ذوي اختصاصات عالية المستوى ولكن ليس لهم الوقت الكافي ولا مصادر الاستلهام الضرورية لتوليد القيم الروحية القادرة على تحريك الجماهير في وقت يهدد فيه نظام التبادلات الاقتصادية والانتاج الصناعي المصير البيئوي للكون وحسن نوعية حياة كل البشر.
بعد ان انتهيت من عرض فكرة اركون حتى نهايتها يحق لي ان اتساءل: هل يتفق منظوره مع منظور هابرماس يا ترى؟ من المعلوم ان الفيلسوف الالماني كان قد ألقى محاضرة شهيرة في جامعة فرانكفورت عندما تلقى جائزة ادورنو عام 1980. وكان عنوانها: الحداثة مشروع لم يكتمل. ثم طور المحاضرة بعدئذ حتى اصبحت كتابا بعنوان: الخطاب الفلسفي للحداثة.
وكان هدف هابرماس انقاذ مشروع الحداثة والتنوير وليس التراجع عنهما كما فعل فلاسفة ما بعد الحداثة من أمثال: جان فرانسوا ليوتار وفوكو ودريدا على اثر نيتشه وهيدغر. فالخطأ الذي وقع فيه فلاسفة ما بعد الحداثة هو انهم أقاموا مطابقة بين عدم اكتمال الحداثة من جهة، وبين فشلها أو افلاسها من جهة اخرى.
لقد اعتقدوا انها فشلت وانتهى أمرها في حين ان مشروعها لم يكن قد اكتمل بعد. وهذا سوء تفاهم تنبغي ازالته. وقد تنطح للمهمة الشاقة هابرماس كبير فلاسفة المانيا والغرب كله في هذا العصر وحفيد كانط وهيغل.
ولذلك فانه يحاول ان ينقذ القوة التحريرية الهائلة لعقل التنوير الذي أنتج كل هذه الحداثة والحضارة الغربية لا التراجع عنها كما فعل فلاسفة ما بعد الحداثة النيتشويين الذين سقطوا في نوع من النزعة المحافظة الجديدة ان لم نقل الرجعية: أي الرجوع إلى عصر ما قبل الحداثة.
وهذا العمل الانقاذي الذي يقوم به هابرماس هو الشرط الضروري لتحقق الديموقراطية في المجتمع. وبالتالي فموقفه مضاد لاولئك الذين يطابقون بين العقل والتوتاليتارية الديكتاتورية. على هذا النحو يدافع هابرماس عن الحداثة المستنيرة والايجابية وينقذها من براثن العدميين والفوضويين النيتشويين.
ولا أعتقد ان اركون يختلف معه في هذه النقطة. ولكن يخيل الي انه يربط عدم اكتمال الحداثة بشيء آخر: هو بترها للبعد الروحاني المتعالي من حياة الانسان في الغرب والاغراق في الماديات الحسية واعتبارها الافق الوحيد الذي لا أفق بعده أو وراءه. هذا التوجه الروحاني لاركون والذي يعود إلى تربيته الاسلامية غير موجود عند هابرماس على حد علمي.
أيا يكن من أمر فان محمد اركون يرفض انحرافات الحركات الاصولية الجهادية واغراقها في الغيبيات والتعصب الاعمى، كما ويرفض انحرافات العولمة والحداثة المادية واغراقها في الشهوات والملذات والتسابق المحموم على الكسب والربح إلى ما لا نهاية.
باختصار فانه يدعو إلى تنوير الاسلام من جهة، وجعل الحداثة أو العولمة التي هي امتداد لها اكثر انسانية وروحانية من جهة اخرى. على هذا النحو أفهم فكره على الاقل. وهو لا يريد ان يكون واعظا أخلاقيا يعطي دروسا للناس اذ يقول هذا الكلام. وانما يريد فقط ان يحدد بدقة الوظائف الجديدة التي تفرضها القوى المتصاعدة التي لا تقاوم للعولمة على الاسلام المعاصر.
ما هي هذه الوظائف الجديدة؟ أو بالاحرى ماهي هذه المواقف الجديدة التي تجبر العولمة الرأسمالية الحركات الاصولية على اتخاذها لمواجهتها؟ انها تتلخص فيما يلي: ينبغي العلم بان الاسلام المعاصر يواصل مهمته في ان يضمن للجماهير الاجتماعية المستبعدة من جنة الحداثة والاستهلاك والحريات الفردية والرفاهية المحصورة بالنخب الغنية فقط، أقول يستمر في ان يضمن لها الامل بالخلاص حتى ولو كان وهميا. انه يشعرها بالامل الكبير الذي يعزيها عن واقعها المأساوي المرير، واقع الحرمان والفقر والجوع.
وفي هذا الامل الكبير الذي تؤمنه الحركات الاصولية للجماهير الشعبية في كل انحاء العالم العربي والاسلامي تختلط عدة أشياء. من بينها الخلاص الابدي في الدار الآخرة والمكافأة يوم الحساب التي تعزيك عن الحرمان في هذه الدنيا الفانية. ومن بينها ايضا امكانية المسلم في ان يرتفع إلى كرامة اخلاقية وشخصية في مواجهته الحميمة مع خالقه الرحمن الرحيم الذي طالما ركز عليه القرآن في آيات بينات.
ومن بينها ايضا الاعتقاد بامكانية تحقيق العدالة على هذه الارض ايضا من قبل شخصية كارزمية اسلامية على طريقة الخميني أو سواه. وهي البديل الحديث عن شخصية الامام المهدي القديم الذي طالما هيمن على الوعي الإسلامي عبر الاجيال.
وأخيرا نذكر اعتقاد المسلمين المنخرطين في الجهاد العنيف بانهم يطيعون امر الله وينفذون مشيئته اذ يخوضون الحرب المقدسة لاسقاط كل الفراعنة المعاصرين الذين خرجوا على شرع الله وأخذوا ينشرون الفوضى والفساد على وجه الارض. ضمن هذا المعنى نفهم حقدهم على شاه ايران أو السادات الخ..
على هذا المستوى من العمق يفهم اركون مضمون المواجهة الكبرى المندلعة حاليا بين قوى العولمة الكاسحة وقوى الجهاد الاصولي العنيف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.