كان لثورة 23 يوليو (جويلية) 1952 في مصر، وتبنيها قضية تحرير المغرب العربي ووحدته صداها الواسع وتأثيرها العميق في النفوس. وتحوّل الزعيم جمال عبد الناصر الذي قاد مصر في ثورتها عام 1952 ضد الطغيان الملكي وأقام بها النظام الجمهوري إلى رمز للعروبة وأمجادها عند إقدامه على تأميم قناة السويس في صائفة 1956 متحدّيا القوى الغربية العظمى، فكان العدوان الثلاثي على مصر، مما زاد المشاعر الوطنية تأجّجا في كافة أرجاء الوطن العربي.
بن يوسف
في تلك الفترة بالذات، كان الزعيم صالح بن يوسف لاجئا في القاهرة، داعيا إلى مواصلة الكفاح المسلّح ضدّ الاستعمار الفرنسي، وعدم الاعتراف بالاستقلال الداخلي الذي أحرزت عليه تونس سنة 1955، معتبرا أنّ التخلي عن المقاومة قد يشجع فرنسا على الانفراد بالجزائر التي كانت تواصل ثورتها من أجل الاستقلال. بذل الزعيم الحبيب بورقيبة مساعيه الديبلوماسية لدى الزعيم جمال عبد الناصر لإقناعه بالتخلي عن مساندة الزعيم صالح بن يوسف واعتباره «مذنبا قالت فيه العدالة التونسية كلمتها بالحكم عليه غيابيا بالإعدام»، غير أن تلك المساعي لم تثمر فتوتّرت العلاقة بين الزعيمين جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة الذي قرّر في النهاية قطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين في أكتوبر 1958. جوهر الخلاف إذا كان سبب الخلاف الموقف من الزعيم صالح بن يوسف، فإنّ جوهر التباين يعود إلى ما هو أعمق من ذلك، كان عبد الناصر يدعو إلى «أمّة واحدة من الخليج إلى المحيط) بينما كان بورقيبة يدافع عن مفهوم «الأمّة التونسية». وتنسب بعض المصادر إلى الزعيم الحبيب بورقيبة تصريحات متطرّفة في هذا الخصوص منها «انّ ما يربطنا بالعرب ليس إلا من قبيل الذكريات التاريخية وانّ مرسيليا أقرب لتونس من بغداد أو دمشق أو القاهرة وان اجتياز البحر الأبيض المتوسّط أسهل من اجتياز الصحراء الليبية». هذه التصريحات المنسوبة إلى الزعيم الحبيب بورقيبة وردت في مذكرات المناضل القومي العربي الطاهر عبد اللّه من منفاه في أواسط السبعينات تحت عنوان «الحركة الوطنية: رؤية شعبية قومية جديدة». الشخصية التونسية والمعروف أن النظام البورقيبي كان جنّد نخبته الفكرية ومثقّفيه لتفنيد المقولات الوحدوية ونسف مفهوم «القومية العربية» بالتركيز على الذاتية التونسية، وأبرز المؤلّفات كانت لصاحب مجلّة الفكر الرّاحل محمد مزالي (الشخصية التونسية: خصائصها ومقوّماتها». والمعروف أيضا أنّ النظام البورقيبي كان يطلق على المؤسسات الوطنية تسمية المؤسسات القومية على غرار الشركة القومية للنقل وما إلى ذلك، دحضا لمفهوم «القومية العربية» وإبرازا لمفهوم «الأمّة التونسية». على طرفي نقيض حتى بعد عودة المياه إلى مجاريها بين البلدين وزيارة الزعيم جمال عبد الناصر تونس في الذكرى الأولى للجلاء عن بنزرت، ثم زيارة الزعيم الحبيب بورقيبة مصر ضمن الجولة المطوّلة التي قام بها إلى الشرق الأوسط من 16 فيفري إلى 8 أفريل 1965، فقد ظل الزعيمان على طرفي نقيض. ففي ساحة الجمهورية بالقاهرة بالذات وبينما كان الزعيم عبد الناصر يشرف على احتفالات الوحدة القومية (وكانت انفصمت بين مصر وسوريا قبل ذلك بسنوات) ويلهب حماس الجماهير بشعارات الوحدة والقومية العربية والأمة العربية الواحدة ظلّ الزعيم الحبيب بورقيبة ثابتا في موقفه ولم يتحرّج من مواصلة الحديث في تلك المناسبة الوحدوية عن ذاتية كل بلد عربي وخصوصياته، مبرّرا وجهة نظره بأن «الأوضاع العربية لم تتوفّر فيها الشروط اللازمة التي يقتضيها التوحيد».