يخوض المسلمون البوشناق معركة حضارية هامة في غرب البلقان ، لاستعادة ثنائية هويتهم المفقودة ، وهو ما يصفونه بالروح والجسد ، المتمثلان في الاسلام ، والأصول العرقية البوشناقية . وهي ثنائية تم إضعافها على مدى القرون التي تلت حالة الانحسار الذي عاشته الخلافة العثمانية ، قبل إلغائها على يد كمال أتاتورك سنة 1924 م . وقد استخدم الأعداء عدة وسائل لإذابة هذه الثنائية الحضارية في وعي وواقع المسلمين ، فأصبح الكثير منهم مسلمون بالوراثة أو الاسم ، بل وصل الأمر إلى حد تغيير البعض لأسمائهم . وأثناء العدوان على البوسنة سنة 1992 م ، انشغل المسلمون البوشناق في الدفاع عن حقهم في الحياة ، بيد أنهم اليوم يسعون لإعادة بناء كيانهم بثنائيته الاسلامية وقوميتهم البوشناقية ، وهو جهد ضروري ومصيري من أجل بقاء الدين والدولة والوجود الثقافي والبيولوجي للمسلمين البوشناق . وفي هذا الصدد قال رئيس العلماء في البوسنة والهرسك الدكتور مصطفى تسيريتش أن البوشناق يمرون بفترة انتقالية تمثل منعرجا هاما في حاضرهم ومستقبلهم " البوشناق يمرون بما مرت به الشعوب أثناء تكوين وعيها القومي والديني ، ونحن نعاني مما عانته الشعوب الأخرى مثل الكروات ، الذين يقولون إنهم ناضلوا من أجل دولتهم 900 عام ". وتابع " نحن بدأنا السعي لتشكيل الوعي بأهمية الانتماء الديني والقومي ، فنحن عشنا فترة الخلافة العثمانية ، وكان الولاء للدولة الكبرى ، وظل هذا التطلع مرافقا للأجيال حتى ضياع الخلافة وقيام الدولة المعاصرة . وهذا لا يعني القطع مع الأحلام المشروعة ، فمواطنوا الولاياتالمتحدةالأمريكية ينتمون لدولة واحدة رغم تعدد أعراقهم ، ولكن في هذه الفترة يجب التركيز على النواة القومية والدينية ، كما هو الحال في كشمير ، أوالشيشان وغيرها " . وأكد على إنه " عندما يعيش الانسان في ظل قوة عظمى كما هو الحال في ظل الخلافة العثمانية ، تنصهر فيها جميع الأعراق والاثنيات ، وهذا ما حدث لمسلمي البلقان . والآن يجب أن نعرف ما هي مصلحتنا الذاتية ،وروابطنا الحضارية ، ووشائج حقلنا الحضاري السياسي " .
الحوارنت : هناك انجازات وهناك تحديات على صعيد الوعي الديني والإثني للبوشناق في المنطقة ، وبدأ هذا من السنجق الدكتور تسيريتش : أريد القول إن المفتي العام ، ورئيس المشيخة الاسلامية في صربيا ، الشيخ معمر زوكارليتش ، رمز من رموز القيادة البوشناقية المركزية في هذا العصر ، وأنا أعتز به وأفتخربه وأقدر شجاعته وحكمته ، وهو الآن أثبت للعالم كله وخاصة في البلقان ، أن من ينام عن قضايا شعبه وأمته ، لن يساعده أحد ، ومن يعمل ويطرق الأبواب ، ويوصل القول بالعمل ، ويواصل الليل بالنهار يحقق المنجزات لشعبه وأمته . لقد حاولت صربيا الاستيلاء على المشيخة الاسلامية عن طريق بعض المنافقين ، وقد انتبه المفتي معمر زوكارليتش ، ورفض أن يكون هناك ممثل مزيف للمشيخة الاسلامية ، وخائن ، ولذلك نحن ومن سراييفو نؤيد المفتي معمر، ونعبر عن اعتزازنا بفوزه في الانتخابات التي جرت على مستوى مؤسسة ، الجمعية القومية للبوشناق، وهو فوز تاريخي للاسلام والمسلمين وخاصة بالنسبة لاعادة العزة والشرف للعلماء في البلقان . فلأول مرة استطاع مفتي بحججه وبكلامه أن يقنع المسلمين من مختلف الاتجاهات ، بما فيهم علمانيون وشيوعيون سابقون ، بأن يقفوا إلى جانب المفتي لصالح البوشناق والاسلام والمسلمين ، وأثبت للآخرين بأنه رجل الحوار والتواصل مع الآخرين بشرف وعزة ، وليس شرطا أن يتنازل المسلمون ويطأطئون . تستطيع أن تحافظ على هويتك ومبادئك الاسلامية بكل كرامة . لقد أنشأ المفتي معمر زوكارليتش جامعة فيها طلاب صرب ، وبوشناق ، وآخرين ، وأساتذة من مختلف العرقيات ، هو رئيسهم في الجامعة ، الشيخ زوكارليتش أحد أبزر القادة البوشناق في هذا الوقت .
الحوارنت: هناك من يتحدث عن الأقليات في الشرق الاسلامي ، كيف ترون قضية المسلمين في هذه المنطقة من العالم أي منطقة غرب البلقان وشرق أوربا ؟ الدكتور تسيريتش : نحن نرى أنه يجب حماية ورعاية حقوق المسلمين بموجب القانون ، وفق مبادئ حقوق الانسان ، وليس بموجب الشفقة . بل يجب أن يكون هناك عمل للسفراء المسلمين ، وللمؤسسات الاسلامية ، كما يفعل السفراء الغربيين في العالم الاسلامي لحماية الاقليات النصرانية أوالاقليات عموما ، كذلك يجب حماية الأقليات المسلمة في العالم . على سفراء العالم الاسلامي أن يكونوا في خدمة حقوق الانسان في الغرب والشرق على حد سواء ، وليس فقط في الغرب . المسلمون موزعين في العالم بأسره ، ليس هناك ركن في العالم ليس به مسلمون . وقضية الأقليات يجب أن ينظر إليها بطريقة أخرى فعدد المسلمين في الهند مثلا أكثر من 200 مليون ، كيف يكونون بهذا العدد أقلية ، وكذلك الأمر بالنسبة للمسلمين في مناطق أخرى ، ففي دولة المواطنين ، يجب أن يكون للجميع كل الحقوق التي تتمتع بها الأغلبية ، ولا سيما الحقوق المدنية وحفظ المقاصد الخمسة للوجود الانساني ، وهي الدين ، والنفس ، والنسل ، والعرض ، والمال . وقد نجد تعبيرا آخر يختلف عن مسمى الأقليات ، ومع ذلك يمكن تذكر مقولة محمد إقبال في هذا الصدد ، وهي أن "الشعوب الصغيرة ، كانت أكثر تأثيرا في التاريخ من الشعوب الكبيرة ". ونحن كمجموعة صغيرة في أوربا يمكننا أن نؤثر على التاريخ العام في أوربا والغرب .
الحوارنت: ما الذي يمكن أن يقدمه العالم الاسلامي للمسلمين في الأطراف ، والذين يعيشون كأقليات في العالم ، من خلال العلاقات الاقتصادية التي تربطهم بدول هؤلاء المسلمين ، ومثالا على ذلك الدول التي يعيش فيها المسلمون مضطهدون كما هو الحال في غرب البلقان ؟ الدكتور تسيريتش: أكبر مساعدة ، وحماية يقدمها العالم الاسلامي للمسلمين في الأطراف ، والأقليات في العالم ، يتمثل في احترام حقوق الانسان في هذه الدول ، ووجود توافق وطني في هذه الدول على النموذج الذي يجب أن يتبع . ومن خلال هذا تعطي الدول الاسلامية لنفسها مصداقية في الداخل والخارج على حد سواء . فالحفاظ على حقوق الانسان ، لكل انسان ، بقطع النظر عن قوميته ، ودينه ، ولونه ، وتوجهه الفكري والحزبي ، هو الضمان الوحيد للتعايش والسلم والاستقرارالمحلي والدولي . فالذين يحترمون هذه الحقوق بدون تحميل القيم الانسانية أبعادا ايديولوجية ، يمثلون حجة على الذين لا يحترمونها أو يدخولنها في سوق النخاسة السياسية ، ويستخدمونها ضد الخصوم فقط وليس الأصدقاء أيضا ، مما يعني تسييس القيم الانسانية ، وبذلك يقع امتهانها ، وتمييعها ، والقضاء عليها في الواقع الانساني . ولي اقتراح وهو أن يكون هناك أقسام في الجامعات الاسلامية تسمى أقسام الدبلوماسية الاسلامية , يتدرب فيه المرشحون لتولي منصب سفيرعلى معرفة مشاكل المسلمين في الأطراف والأقليات البعيدة عن المركز . وأن يكون السفراء ملمين بتاريخ المسلمين وحاضرهم في الدول التي يمثلون فيها دولهم . السفراء الممثلين للعالم الاسلامي ، يجب أن يكونوا على اطلاع على ماض وواقع المسلمين في الدول التي يمثلون فيها بلدانهم . وللأسف فإن الكثير من السفراء الذين يمثلون بلدان فيها المسلمون أغلبية ليسوا على المستوى المطلوب ، من حيث تمثلهم لقيم الأغلبية في بلدانهم ، حيث ينظر إليهم في البلدان التي يعملون فيها كسفراء للاسلام وليس لبلدانهم فقط . السفراء الغربيين لديهم ملفات عن الأقليات والأحزاب في الدول التي يعملون فيها ، فلماذا لا يكون للسفراء المسلمين معرفة موثقة وحقيقية عن واقع وقضايا المسلمين في الدول التي يعملون فيها . وعلى السفراء المسلمين أن يكون لهم تواصل مع المسلمين ، لمعرفة الاتجاهات العقائدية الفكرية للمسلمين ، وما يمكن أن يكون تهديدا لوجود المسلمين ، وبناء على ذلك يقوم بمساعدة المشيخة الاسلامية على تجاوز العقبات ، والتي تمثل إزالتها والتغلب عليها خدمة للمجتمع الدولي ، وليس للمسلمين في هذه الدولة أو تلك . ولذلك لا يجب أن نوجه اللوم دائما للعوامل الخارجية فقط ، بل يجب أن نتنبه للثغرات داخل الدائرة الكبرى للعلاقات بين المسلمين ، وجزئياتها المختلفة .
الحوارنت : عدد المسلمين في صربيا ، أكبرمن عدد الكروات في البوسنة ، ومع ذلك لا يعتبرون مكون أساسي للدولة ، كما هو حال الصرب والكروات في البوسنة لماذا ؟ الدكتور تسيريتش : شكرا على هذه الملاحظة ، أنتم ترون أن قضية البوشناق من الناحية القومية لم تحل بعد ، فهذا هو العصر والوقت الذي يجب على البوشناق الإجابة على سؤال ، من نحن ، ما موقفنا وموقعنا في شبه جزيرة البلقان ، هل نحن سنجتمع في كتلة واحدة كبوشناق في دولة واحدة دولة بوشناقية قوية متميزة ، كغيرها من الدول المجاورة ، أونعيش في دولة متعددة الاديان والقوميات ، وليس لنا سيادة فيها إلا أن نكون تابعين للقوميات الأخرى . والبوشناق عددهم 10 ملايين ، ثلثهم فقط يعيشون في البوسنة ، والتي هي أمهم ووطن لهم جميعا . وهناك ثلثا البوشناق يعيشون خارج البوسنة ، في دول الجوار ، وهناك 4 مليون بوشناقي في تركيا . البوشناق موزعون مشتتون وليس لديهم كيان موحد ، وهم ضحايا سياسة تشتيتهم وتفتيتهم وذرهم حتى لا يكون لهم قوة تحميهم وتحافظ على نسلهم ودينهم وثقافتهم بعد الله سبحانه وتعالى . وعندما تعرضت البوسنة في سنة 1992 م لحرب الابادة لم يكن البوشناق يفكرون في هذا ، لأنهم كانوا منشغلين برد العدوان . واليوم البوشناق في كرواتيا أقلية ، وفي صربيا أقلية ، وفي الجبل الأسود وغيرها أقلية ، بينما الصرب والكروات في البوسنة ،مكون عرقي لدولة البوسنة ، أما المسلمون في الدول المجاورة فهم أقلية ، وهذا ظلم فادح للبوشناق المسلمين في المنطقة . ونحن نبحث هذه القضية ، لرفع الظلم عن البوشناق ، وليصبحوا إثنية مؤسسة للدولة ، وكما هو معروف تاريخيا فإن السنجق موجود قبل إقامة دولة صربيا ، وقبل مجئ الصرب للمنطقة . وكماترون فإن النزعة القومية لدى البوشناق ضعيفة ، فهم أكثر ميلا للاسلام ، ولهويتهم الدينية ،ولكن هذه الهوية تعرضت للتذويب لغياب قومية تحميها ، وهذا نتعلمه بعد 14 قرنا ، من إبقاء الرسول صلى الله عليه وسلم على القوميات ولم يأمر بحلها على أن يكون الاسلام فوق كل شئ ، وكانت القبائل أو الأقوام تتنافس في خدمة الاسلام ونصرته . فبقاء الدين يكون أحيانا مرهون بالوعي القومي ، والعكس صحيح . ولا يمكن أن يكون هذا بديل عن ذاك ، وحال البوسنة وكوسوفا يختصر هذا الأمر .