ليست هذه هي المرة الأولى التي تتسرب فيها وثائق سرية إلى العموم، فقد تسربت من قبل وثائق ووثائقصُنفت حينها أنها وثائق سرية وخطيرة، كما هو الحال مع الوثائق السرية التي لا يُعلن عنها للعموم إلا بعد مرور عشرات السنيين من التحفظ، حيث أن وزارات الخارجية الأمريكية أو البريطانية مثلا، تعلن كل عام عن وثائق مرت عليها الفترة الزمنية المحددة للتكتم،ك«ووتر غيت» و«إيران غيت» وكذا التسريبات الخطيرة التي وقعت بعد حرب فيتنام. صحيح أن ما تسرب، فيما مضى، من الوثائق المتعلقة بالسياسة وإستراتيجياتها لم يكن بحجم ما تسرب منها اليوم، والتي وصل عددها لأكثر من 800 ألف وثيقة نشرتدفعة واحدة عبر موقع مغمور أسسه فتى شاب يدعى"جوليان اسانج" أطلق على موقعه اسم ويكليكس.. فهل تستحق هذه الوثائق كل هذه الضجة التي أثيرت حولها؟ أم أنها ليست هي الأخرى، إلا زوبعة في فنجان سيزول أثرها بسرعة كما زال أثر ما سبقها من تسريبات للوثائق والمعلومات؟. ولماذا كل هذا الغضب العارم، والاعتراض الصاخب، والقلق الهستيري من طرف حكومات ومنظمات وأحزاب وشخصياتمعظم دول العالم، الذينإدعاء أكثرهم أنها وثائق صيغت في دهاليز ومطابخ المخابرات المركزية الأمريكية، وتواطأت هي نفسها على تسريبها؟. وإذا كان ذلك واقعي، فلماذا هذا الهجوم الكاسح على موقع ويكيليكس، والتنديد الرسمي والممنهج بمؤسسه"جوليان اسانج"وتقديمه كأخطر عدو للولايات المتحدةالأمريكية وجعله الإرهابي رقم واحد في العالم،وتحويل موقعه المجهول إلى أكثر المواقع إثارة في وسائل الإعلام، ونعته بالنفاق والكذب وتحوير الحقائق، إلى درجة تهديده علانية واتهامه باغتصاب - ومن طرف الدولة التي تبنت احترم الرأي لعشرات السنين-فتاتين دفعة واحدة وبليلة واحدة؟.. وما هو الجديد يا ترى في هذه الوثائق؟ وما الخطير والغريب فيها حتى تتعالى الأصوات الحكومية الرسمية والكثير من المنظات غير الرسمية ضد موقع صغير كويكيليكس. أظن أن أالغريب ما في هذا الأمر، هو أن جل الوثائق التي سربت ليست بغريبة ولا مجهولة لذا الكثير من المطلعين عبر المعمور، وان جميع الأدلة والمستندات والأمور الواقعة على الساحة تؤكد صحة نسبة كبيرة منها. والأغرب هو سداجة، بل والغباء أولئك الذين يزعمون أن ذلك من صنيع المنضمات الصهيونية، أو أنها مؤامرة ماسونية خطيرة للمس بسمعة الكثير من الدول العربية وقياداتها، وذلك لأن تلك الوثائق بحد ذاتها أزاحت الستار عن الكثير من أعمال القتل والظلم والقمع والإرهاب لدى العديد من الأنظمة ومن بينها ما ارتكبته إسرائيل من بشيع الجرائم ضد الفلسطينيين.. على العموم، لا أعتقد أن المهم في قضية موقع ويكليكس ووثائقه السرية- على الأقل بالنسبة لي- هو قدرة الموقع على الوصول للوثاق ونشرها للعموم، ولا في كون ما نشر كان خارج نطاق سلطة الإدارة الأمريكية أو بمباركتها، أو أنها رسالة منها لتهديد زعماء وقادة العالم، وتوضح لهم فيها أنها قادرة على فضحهم في أي وقت شاءت. ولذلك سوف لن أخوض في طبيعة وتفاصيل هذه التسريبات، وأهدافها، وتوقيتاتها، والجهة الحقيقية التي تقف خلفها، ولا في تنديد وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، ولا في دعوتها لمحاكمة الذين سربوها من داخل أجهزة الإدارة الأمريكية إلى الإعلام والإنترنت، لأن ذلك يتطلب أكثر من مقال صحفي لتحليلها أو إرسائها على حجج وبراهين مقنعة، لأن ما يحتويه موقع «ويكليكس» ليس خبرا أو قصاصة يمكن إدراجها إعلاميا تحت مسمى السبق الصحافي للموقع، وإنما هو «بحر» من الوثائق الأصلية المنقولة عن مصادرها. بل سأتطرق فقط، إلى كل ما أعتقد أنه من أهم ما جاء به الموقع - بالنسبة لقضيتنا الوطنية - وهو كل ما يتعلق بقضية الصحراء المغربية،التي أظهرت الوثائق الدبلوماسيةالمنشورة في الموقع، بأن أسلوب التعامل معها قد وصل إلى درجة من الانحطاط، رغم مواقف المغرب المتسامحة والمتساهلة والعادلة والجادة المتمثلة فيمقترح "الحكم الذاتي"، الذي وصفته الإدارة الأمريكية" حسب الوثائق دائما، ب"الجاد وذي المصداقية"، وأن "جديته" تكمن في مضمونه وكونه "مواكَباً برغبة معلنة في التفاوض" من طرف المغرب.. وفي السياق ذاته،أظهرت البرقية الفرق بين "تنافس سياسي حقيقي" يسود جنوب المغرب، و"النظام (الذي تقيمه البوليساريو) على الطريقة الكوبي". مبرزة أن الحكومة المغربية استثمرت "موارد مهمة" في جنوب المملكة، حيث أشارت البرقية إلى أن "مستويات تنمية الخدمات الاجتماعية (بالجنوب) فاقت المستويات المسلجة" في باقي جهات المغرب، من قبيل الولوج للتمدرس، ومستوى التعليم، وكذا الخدمات الصحية التي تصل إلى مستويات مرتفعة، موضحة أن هذه الحقيقة تعزى إلى معدل النمو الذي سجله الاقتصاد المغربي والذي مكن من دعم تمويل هذه القطاعات، وتابع المصدر ذاته أن الاستثمارات التي تم إنجازها، قد مكنت من تحقيق "مستويات مرتفعة للتنمية الحضرية"، مؤكدا في هذا الإطار أن مدينة العيون أضحت "أول" مدينة مغربية بدون صفيح.كماكشفت نفس البرقية أن غالبية سكان الصحراء يؤيدون المخطط المغربي للحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية، وأوضحت الوثيقة أن "عددا كبيرا من المقابلات والمصادر المستقلة تعتبر أن الهدف الرئيسي لغالبية الصحراويين يتمثل في المزيد من الحكم الذاتي بدل تقرير المصير"، مبينة أن ما يدل على ذلك هو معدل المشاركة "المعتبر" الذي تم تسجيله خلال الانتخابات الجماعية الأخيرة.ونقلت البرقية الدبلوماسية التي صيغت في غشت 2009 أن ناشطا مواليا للبوليساريو "أعرب عن قناعته بأن غالبية الناخبين سيختارون الحكم الذاتي، إذا تم تنظيم انتخابات حرة اليوم. واستنادا إلى "مصادر صحراوية ذات مصداقية"، أبرزت الوثيقة "الاهتمام المتزايد" داخل مخيمات تندوف بالتوصل إلى حل متفاوض بشأنه، وتم وصف (هذا المقترح) بذي المصداقية من قبل المجتمع الدولي، بما فيه، بشكل صريح، كل من روسيا والصين" اللتين أعربتا عن رغبتهما في قبول هذا الحل باعتباره "حلا ممكنا لقضية الصحراء". وأشارت الوثيقة أيضا، إلى أن المبعوث الشخصي السابق للأمين العام للأمم المتحدة للصحراء بيتر فان فالسوم، كان قد وصف "بصراحة" خيار الاستقلال ب"غير الواقعي". وأكد المصدر ذاته أن السيد فان فالسوم اضطر إلى ترك منصبه "بإصرار من الجزائر والبوليساريو". وفي سياق متصل، كشفت وثيقة سرية، أن الرئيس التونسي زين العابدين بنعلي كان واضحا بخصوص قضية الصحراء، حين عبر عن رفض بلاده وجود دولة مستقلة بالصحراء، وحمل مسؤولية الوصول إلى الباب المسدود في إيجاد حل للنزاع وحالة الجمود في المسلسل التفاوضي للجزائر، كمااعترف (الرئيس التونسي) أن إيجاد حل للنزاع في الصحراء معقد للغاية ويتطلب سنوات عديدة للتوصل إلى تسوية نهائية له. كما كشفت الوثائق المسربة والتي نشرتها صحيفة ذي غارديان البريطانية أن قطر تستخدم قناة الجزيرة الفضائية التي تملكها، كأداة مساومة في مفاوضاتها مع بعض الدول، وأن الحكومة القطرية التي قالت عنها الوثائق أنها أضعف حكومة في مكافحة الإرهاب، لأنها لا تعتقل الإرهابيين المعروفين خوفا من ردة فعل القاعدة ضدها. وختاما أقول بأن موقع ويكليكس -الذي يتمنى ممن لا يصلون للمعلومة بسهولة، في استمراره وتعدد أمثاله من المواقع، حتى تنشر المزيد من الوثائق الفاضحة لما يعرفه العالم من جرائم بشعة- قد استطاع أن يدشن حقبة جديدة من التحول الإعلامي المرتبط بالثورة التقنية، ويكسر كثيرا من المحرمات، ويجعل الدبلوماسية السرية أكثر صعوبة، بعد أن حول المواقع الإكترونية لأدوات دبلوماسية جديدة تلجأ إليها بعض الدول لتمرير المعلومات التي لا ترغب أن تتحمل فيها المسؤولية المباشرة. فتكاثر مثل هذه المواقع، سيمكن لامحالة، الناس من الوصول إلى المعلومة ومعرفة كل الحقائق، والأسرار، أو جزء منها على الأقل، والتي لم يصلنا منها عن طريق ويكيليكس إلا قطرة من بحر حقائق سياسات الدول، التي لم يتسرب منها إلا ما هو مسموح به، ويعلمه الجميع من فضائح مؤكدة وواضحة للعيان خاصة ما يتعلق منها بسلوك ومواقف وسياسة الحكام الدول حميد طولست