البداية الصحيحة: دمقرطة صياغة الدستور ثمة ارتباط جدلي بين مسطرة صياغة الدستور ومضمونه، إذ لا يكفي في نظرنا الحديث عن مضمون الدستور لكي يتم البناء الديمقراطي العام، فدمقرطة مسطرة الصياغة، هي المدخل الأساس لدسترة ودمقرطة الاختصاصات والمؤسسات والسلوكيات من داخل الدستور. السؤال الذي ينبغي في تقديرنا أن يشد إليه الرحال قصد التفكير في إجابة جامعة مانعة لمسألة مسطرة صياغة الدستور هو: ما هو الشكل الأنسب لتجسيد دمقرطة مسطرة صياغة الدستور، حتى تكون هي البوابة الآمنة لدستور ديمقراطي يعبر عن إرادة المجتمع وتتمثل من خلاله كل معاني الإشراك الفعلي له في التقرير والتنفيذ والتقويم؟ هل المجلس التأسيسي أو الهيئة التأسيسية هو الشكل الأنسب لدمقرطة مسطرة صياغة الدستور؟ يعتبر مقترح المجلس التأسيسي أو الهيئة التأسيسية، أحد المطالب الأساسية للمعارضة بالمغرب في فترة الستينات والسبعينات وعلى رأسها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهذا المقترح سواء في صيغته الانتخابية (انتخاب أعضائه)، أو في صيغته التمثيلية (يتشكل من تمثيليات الهيئات السياسية والمدنية والفعاليات العلمية)، والذي يوكل من خلاله لهذا المجلس التأسيسي وضع مشروع دستور يعرض على الشعب في استفتاء عام ونزيه ليقول كلمته فيه، لنا ملاحظات حوله نجملها في التالي: 1. أن هذا المقترح يكون مشروعا في حالة قيام نظام سياسي جديد على أنقاض نظام سياسي بائد عن طريق ثورة شعبية أو انقلاب؛ 2. أن الحديث عن دمقرطة المسطرة لا يعني بالضرورة التوجه إلى اللحظة الانتخابية (انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي مثلا)، ذلك أن الانتخاب هو شكل من الأشكال الديمقراطية، بينما الديمقراطية ليست شكلا انتخابيا فقط؛ 3. أن ما أفرزه المشهد السياسي والاجتماعي والمدني المغربي، يحيلنا إلى التنوع على مستوى الانتماءات والمشارب الفكرية والعرقية واللغوية، ويضعنا أمام سؤال: كيف نصنع من هذا التنوع والتعدد وحدة تعاقدية متجددة لا غالب فيها ولا مغلوب على المستوى المجتمعي؟ 4. أن مقترح المجلس التأسيسي أو الهيئة التأسيسية يفترض قبلا حصول تراضي مجتمعي على الإطار المرجعي العام الذي سينطلق منه هذا المجلس في صياغة بنود وفصول هذا الدستور.
نحو مسطرة تضمن تعاقدا متجددا مجتمعيا ومع الدولة إن اللحظة التي يعيشها المغرب هي ليست لحظة انقضاء نظام سياسي بكامله برموزه ومؤسساته وقيام نظام سياسي بديل عنه، بل هي لحظة عنوانها العام: تصحيح الاختلالات التعاقدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى، حتى يستعيد الشعب سلطته وقراره ودولته. وإذن فخط تصحيح هذه الاختلالات التعاقدية الكبرى يفترض اتجاهين في تقديرنا: 1. الاتجاه الأول: اتجاه تعاقدي مجتمعي (بين أطراف وقوى وفعاليات المجتمع)، ويكون بيت القصيد فيه هو حصول تعاقد أفقي على مستوى المجتمع ومكوناته، في اتجاه التواضع على إطار مرجعي عام للدستور المبتغى؛ 2. الاتجاه الثاني: اتجاه تعاقدي عمودي (بين الدولة والمجتمع)، وبيت القصيد فيه، التواضع على إطار تعاقدي جديد بين الدولة والمجتمع تكون فيه سلطة التقرير والتشريع والتقويم والتنفيذ للمجتمع عبر مؤسساته التمثيلية المدسترة، ويسود فيه القانون، ويسمو فيه القضاء، وتضمن فيه الحريات الأساسية، ويقطع فيه بشكل نهائي مع أية محاولة لدسترة الاستبداد، وتفصل فيه السلط، وتتوافق فصوله مع الإطار المرجعي العام الذي على أساسه تتم الهندسة الدستورية بكاملها.
الحوار الوطني هو الشكل الأنسب لدمقرطة مسطرة الصياغة إن الوعاء الأنسب لتمثل هذين الاتجاهين السالفي الذكر هو وعاء الحوار الوطني ومأسسته، ذلك لأن الحوار الوطني يفتحنا أمام سبل التواضع على التعاقدات الكبرى سواء في الإطار المرجعي المؤسس للتعاقد المجتمعي، أو في بنود وفصول الدستور المؤسس للتعاقد العمودي بين الدولة التي يريدها المجتمع والمجتمع الذي يريد أن يصنع دولته ويستعيد سلطته. وفي مأسسة الحوار الوطني ضمان لتعاقد متجدد في كلا الاتجاهين على امتداد الزمن، يدبر من خلاله الاختلاف المجتمعي بشكل بناء، وتناقش عبره بشكل مستمر القضايا المجتمعية الكبرى، وتصنع بفضله الإرادة المجتمعية المتجددة التي تحصن البلاد من التخلف والاستبداد والظلم وتتطلع إلى رقيها ونهضتها...