في كل بلاد الدنيا تتحدد العلاقة بين الحاكم والشعب على أساس من الثقة المتبادلة ، فالشعب يختار من يرى أنه أصلح الناس للقيام بالمسؤولية ومن يرى فيه القدرة على خدمته أكثر وتحقيق مصالحه ومطالبه وأمانيه . • الشعب ينظر في برنامج المرشح فإذا رأى فيه ما يحقق أمانيه اختاره وصوت له ، والحاكم من ناحيته يلتزم بوعوده ويحقق لشعبه ما عرضه عليهم خلال فترة الانتخابات . • فالحاكم إذًا هو رجل من أبناء هذه الدولة، إلتقت عليه إرادة الأمة تلاقيا حرا، واختاره الناس بإرادتهم ليكون حارسا لقيمهم وثوابتهم، قائما على خدمتهم أمينا على مصالحهم، نظير أجر محدد ولمدة محددة. بعيدا عن التزوير والتضليل والتدليس، وإضافة أصوات الموتى الذين فارقوا الحياة منذ نصف قرن. • معنى ذلك أن هنالك عقدا يحكم العلاقة بين طرفين، طرف أول وهو الشعب الذى يمنح المرشح ثقته ويعطيه صوته ويختاره ومن ثم يمكنه من أداء وظيفته التى جاء من أجلها. • طرف ثان وهو الحاكم ،يقدم الخدمة وينوب عن الشعب في تحقيق مصالحه ، وقد قبض الثمن ثقة وتأييدا واختيارا له دون غيره ممن كانوا على استعداد لتولى زمام المسؤولية. • ضوابط العقد بين الشعب والحاكم واضحة المعالم بينة الحدود لا لبس فيها أو غموض . • فلا يجوز له أن يستغل موقعه ليحقق مصالح خاصة لنفسه أو لعائلته وأقاربه وحاشيته وأهل حظوته . • المدة المتفق عليها لبقاء الحاكم حاكما ليست مطلقة ولا هى مؤبدة، وإنما مؤقتة بتوقيت معين يعرفه الطرفان الشعب والحاكم معا ، وهذه المدة تجدد إن أحسن الحاكم وأجاد، ويعزل إن قصر وأساء، ومن ثم ينفسخ العقد بين الدولة والحاكم. • بفسخ العقد بين الدولة والحاكم يفقد الحاكم شرعيته كحاكم، وبعد أن يحاسب على تقصيره وإساءته يعود لصفوف المواطنين يمارس دوره العادى. • بقاء الحاكم في الحكم مستمد من إرادة الشعب ورغبته من ناحية، ومن ناحية أخرى مرتبط بقدرته على القيام بمهامه المحددة ومنوط بتحقيقه لمصالح شعبه. • وهو في موقعه نائب عن الشعب في تنفيذ برنامج معلوم ومحدد ، وكل أجهزة الدولة تعينه وتساعده على تنفيذ هذا البرنامج في توافق وتعاون وانسجام، وعيون الشعب عليه تراقبه وتحاسبه ولا تحابيه . • ذلك هو النظام المعمول به في كل الدول التى تحترم نفسها وتحرص على حريتها وكرامة أبنائها. • هذا النظام يسود أغلب بلاد العالم المتحضر، وهو نظام يقوم على الشفافية المطلقة، ويظهر مصدر كل جديد يطرأ في حياة الحاكم من ثروة وممتلكات، ومن ثم يرفع عنه هواجس اللبس وسوء الظن، ويحقق القدر المطلوب من الثقة المتابدلة بين الحاكم والمحكوم. • من ناحية أخرى هذه الشفافية تجعل من الشعب سيدا وقاضيا عادلا يدافع عن حاكمه، ويحقق المكانة اللائقة به كمواطن شريف سواء خلال فترة وجوده في موقع المسؤولية أو بعد اعتزاله وتركه لها. • وهذا أمر مطلوب وحيوي جدا لأنه يساعد على تنمية شعور المواطن بمسؤولياته، ويزيد من حجم ولائه وانتمائه لهذا الوطن الذى يسود فيه العدل والكرامة والحرية، ويتساوى في ظله الجميع، ولا يزيد فيه نصيب مؤيد على نصيب معارض، الأمر الذى يظهر التميز الحضارى في الأداء العام وينعكس بالإيجاب على الأمة حكاما ومحكومين ، وطنا ومواطنين. • أما في بلاد المسلمين عموما وبلاد العرب الأجاويد على وجه مخصوص فالأمر يختلف . • علاقة الشعب والحاكم عندنا يحيطها حالة من الارتياب الدائم والشك المتبادل، فالثقة مفقودة لأن الحاكم لم يأت إلى الحكم باختيار الشعب، وإنما جاء بطرق ملتوية. • بعض الحكام أخذ الحكم والشعب ميراثا، وغُيِّرْت له القوانين ، وبعضهم أزاح من الطريق أخاه أو أباه، وبعضهم جاءت به أمه، والبعض الآخر جاء به الاستعمار. ومن ثم فالحاكم مستريب في كل من حوله، في الشعب وفي الحاشية ، وفي المحيطين به، ولذلك تعمل أجهزته دائما على الوقيعة بين الجميع حتى ينشغل الكل ببعضهم ويلجأ الكل إليه ليحتكموا إليه وليحتموا فيه، من هنا يتحول الحاكم إلى خط أحمر عند الجميع فلا يجرؤ أحد على انتقاده أو توجيه اللوم إليه . • عندما يأتى الحاكم إلى الحكم غصبا وبلا إرادة من الشعب وبإحدى هذه الطرق الملتوية، تصبح العلاقة بينه وبين الشعب محددة في خيارين اثنين لاثالث لهما، • إما أن يطارد الحاكم شعبه، فيسلط على الشعب زبانيته وأجهزته تروعه وتفزعه، وتتجسس فتحصى عليه هواجسه وخواطر عقله وفكره، وتحسب عليه حركاته وسكناته وتعد عليه أنفاسه، وتملؤه قهرا وقمعا واستذلالا . • جماهير الشعب في الحالة الأولى ليست آمنة في سربها ، وليست في عافية من أبدانها ، وأغلبها لا يملك قوت يومه. • فقد سرق الحكام وحاشيتهم أقوات كل شعوبهم، ولم يتركوا لهم غير الفتات. • ، تركوهم في العشوائيات وفي الفقر وفي المرض. • تركوهم للجوع ليفترسهم ويذلهم ويكسر كرمتهم. • تركوهم للحاجة وبلا مأوى. • 70% من سكان بعض البلاد الغنية لا يملكون بيوتا وإنما يعيشون في بيوت مستأجرة يمكلها الأثرياء من رجال الحاشية وأهل الحظوة. • تركوهم يسكنون المقابر. • تركوهم ينحشرون في وسائل المواصلات بشكل يفقدهم آدميتهم . • تركوهم تخنقهم أزمات المساكن والمواصلات وبطالة الشباب والعنوسة والسكر والزيت ومواد التموين المختلفة. • تركوهم لأجهزة الأمن لتمارس معهم أبشع وسائل سلب الآدمية . • تركوهم فريسة لفيروسات الكبد الوبائي والفشل الكلوى والمياه الملوثة والنباتات المسرطنة، وصفقات الدم الملوث التى خرج أصحابها من القضية، كما تخرج الشعرة من العجين . • مارس النظام وحاشيته باستفزاز شديد لا مثيل له أعلى مستويات الجرائم الوطنية والتى تمثلت في اختلاسات النخبة، وصفقات لرجال أعمال مقربين من النظام طالت ثروة الشعب في البترول والغاز وبيع المصانع والقطاع العام وأراضى الدولة، وقد بلغت آلاف المليارات ليتحول كل ذلك إلى جيوب قلة قليلة أصبحت نتيجة تزاوج السلطة ورأس المال تمسك بمقدرات الأمة وتتحكم في حاضرها ومستقبلها. • فإذا سنحت الفرصة وهبت رياح الحرية وتمكن الشعب من استرداد كرامته وحريته وإرادته المسلوبة، فإن الشعب يأخذ دوره فيطارد حاكمه انتقاما وثأرا واستردادا لما اغتصب من أموال، وما نهب من ثروة، وما ارتكب من جرائم. • ولنا أن نتصور حاكما يعيش خائفا من شعبه فلا يستطيع أن يتحرك بينهم إلا بحراسة مشددة وبعد تفريغ الشوارع من المارة . • بعضهم يخاف من عشرة ملايين مواطن ، وبعضهم يخاف من عشرين مليونا، وبعضهم يخاف من ثمانين مليونا من البشر كلهم يريد أن يفتك به ويتشفى فيه. • تصور حاكما تتعلق بعنقه مظالم لثمانين مليونا من البشر ؟ كيف ينام ؟ • حكامنا ليسوا آمنين في سربهم، مهما اشتدت حولهم الحراسات ، فهم خائفون دائما. • ولأنهم لم يكتفوا بقوت اليوم ولا حتى بقوت مائة سنة ، وإنما سرقوا أقوات الشعوب كلها . • ومهما قدم له اللصوص الآخرون من وسائل الحماية والتغطية والتمويه وغسيل الأموال، فلن يستطيعوا أن يهنأو بما سرقوا، ولا أن يستمتعوا بما نهبوا، وسيعيشون حياتهم خائفين، تطارهم أشباح الفقراء الذين أكلوا أرزاقهم، والمرضى الذين تسببوا في إيذائهم ومنعوهم من حقهم في العلاج، وأهل العشوائيات وسكان المقابر، ومهما استطاع هذا الحاكم أن يهرب كل المليارات التى سرقها من شعبه ومهما استطاع هذا الحاكم أن يجد تخريجة قانونية يهرب بها من عدالة الأرض، فماذا سيقول لربه يوم يلقاه ؟ وكيف سيهرب من عدالة الله ؟ • رحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما نام ملء جفونه تحت شجرة بغير حراسة فرآه رسول كسرى وقد جاء إليه برسالة فقال " حكمت فعدلت فنمت ياعمر" . • الواقعة وثقت في مصادر التاريخ وصورها شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته الجميلة حين قال: وراع صاحب كسرى أن رأى عمرا**** بين الرعية عطلا و هو راعيها و عهده بملوك الفرس أن لها **** سورا من الجند و الأحراس يحميها رآه مستغرقا في نومه فرأى **** فيه الجلالة في أسمى معانيها فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا **** ببردة كاد طول العهد يبليها فهان في عينه ما كان يكبره **** من الأكاسر والدنيا بأيديها و قال قولة حق أصبحت مثلا **** و أصبح الجيل بعد الجيل يرويها أمنْتَ لما أقمْت العدل بينهم **** فنمْتَ نوم قرير العين هانيها • ما حدث ويحدث إنما هو عبرة للناس تكررت في التاريخ وتتكرر، فهل يستفيد بها الطغاة ؟ • أم أنهم يصدق عليهم قول الله تعالى "{ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}" ﴿التوبة: 126﴾ • إننا نأسف لما يحدث عندنا، فقد كنا نتمنى ألا ينتظرهم هذا المصير الأسود . أكاديمى مغترب رئيس المؤسسة الأسترالية للثافة الإسلامية رئيس إذاعة القرآن الكريم أستراليا