ما الذي يصنع ربيع تونس: الوحدة الوطنية للشعب أم نعرات الفوبيا المضادة دشنت ثورة 14 جانفي 2011 التونسية عصرا جديدا ولحظة تاريخية فارقة بامتياز، هبّ فيها شعب العزة و الكرامة والإرادة الحرة منتفضا على حكامه الطغاة الظالمين مردة القهر والاستغلال والتدمير الروحي والثقافي. ولئن اصطفت في البداية جميع المكونات المدنية والأهلية والسياسية للمجتمع (كثير منها صدقا وبعضها استحياء ) وراء الإرادة (القاطرة) للشعب الكريم فإنّ المراحل التي تلت لحظة الإعجاب والاندهاش عرفت مسالك أخرى هي أقرب إلى الروح الانقسامية التي اجتهدت سياسة بن علي في إرسائها طيلة عقود حكمه.
الفوبيا وشرعنة استئصالية بن علي
سارعت العديد من المكونات السياسية التقليدية إلى القاموس الأمني والسياسي لتخوين رفاقهم الإسلاميين من مناضلي حزب النهضة. وهو قاموس خبرت الجماهير المكافحة طقوسه ومفرداته. ولا يخفى على أحد ما يحاك في الأروقة المظلمة من دسائس للعودة إلى استراتيجيات الإقصاء والاستئصال وتجفيف المنابع التي جربها بن علي طويلا عساه يتوصل إلى استبدال الشعب المتيقظ والمنافح عن حقوقه وعن دوره في سلطة القرار بشعب توهم أنه نجح في ترويضه على ثقافة الخضوع والركوع والاستسلام، ولكن دون جدوى. فبعد سقوط رأس السلطة ممثلا في فرار بن علي، اعتقد الكثيرون ( ببراءة أو بغيرها) أنّ الثورة انتهت ومضى زمنها وحانت لحظة اقتسام ( كعكة الحلوى ) أو الغنيمة كما يسميها الدكتور محمد عابد الجابري، ناسين أو متناسين أن الثورة فعل متواصل لا ينتهي بانهيار رأس السلطة وإنما يتسع الفعل الثوري ويمتد ليصل إلى تفكيك البنى والهياكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للاستبداد والفساد، وإرساء البنى والهياكل الجديدة للمجتمع المدني والنظام الجمهوري الديمقراطي.. والثورة المجيدة التي اندلعت شرارتها يوم 14 جانفي 2011م أرادها الشعب الذي يريد إسقاط النظام، إسقاطا لجميع المكونات البنيوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للنظام البائد بما يعني تحديدا، إحداث تحولات رئيسية في البنى الاجتماعية والسياسية للبلاد.
إستراتيجية التحولات الاجتماعية والسياسية وإذا افترضنا أنّ جميع القوى السياسية من أحزاب وشخصيات علمانية وغير علمانية. إسلامية وغير إسلامية وقومية وقطرية وليبرالية، متفقة حول ضرورة إحداث تحولات حقيقية ورئيسية في البنى الاجتماعية والسياسية في البلاد، فإنّ ذلك يطرح مباشرة سؤالا خطيرا مفاده: ماهي الخطة أو الإستراتيجية التعبوية التي يستوجب اتباعها بهدف إحداث التحولات الرئيسية في البنى الاجتماعية والسياسية للبلاد ؟ · هل هي خطة أو إستراتيجية انقسامية، تعتمد طريقة (كل حزب بما لديهم فرحون). · أم هي خطة وإستراتيجية تفرضها مهام استكمال الثورة بهدف مواصلة تفكيك البنى والهياكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للاستبداد واستثمار الوحدة الوطنيّة للشعب في المعارك القادمة لاستكمال الثورة.
حملة تجييشية ضد النهضة أو ضد التوانسة والمؤسف هذه الأيام هو وجود حملة منظمة تستهدف حركة النهضة لها صحفها وغرف عملياتها وومضاتها الإشهارية التضليلية ومغالطاتها الفيسبوكية، التي لا يفهم منها سوى أمرين: - كثرة المال المهدور في غير صالح الوحدة الوطنية للشعب والثورة، والمصادر المجهولة (والمعلومة) لذلك المال. - وجود رغبة متهافتة وجامحة في إعادة إنتاج تجربة إقصاء تونسيين لم ينزلوا من المريخ وإنما نبتوا.. من هنا نبتوا.. من تربة هذه الأرض.. مع الشيح والمرجان والصنوبر والزيتون من صحراء ذهيبة إلى ضفاف بنزرت، واستئصالهم وحرمانهم من العمل والرزق وأكل الخبز وحرمان الأطفال من الابتسامة أمام آباء غير مكبلين بالأصفاد تستطيع أن تمتد أيديهم لكفكفة الدموع: رغبة جامحة في إعادة إنتاج تجربة تُبقي الخارطة السياسية والاجتماعية على الوضع الذي كانت عليه خلال العهد البائس للنظام البائد حين تشكلت بالقمع والإقصاء والقتل، وحفلات غسيل الدماغ الفاشية التي ارتضى بعض مثقفينا القيام فيها بدور الكهنة وسدنة الهيكل من أجل إعادة إنتاجها وممارستها على المساجين السياسيين البائسين جوعا وفقرا والناحلين بسبب ما نخر أجسادهم من تعذيب ولد مرضا عضالا استشهد من جرائه الكثيرون حاملين غصتهم وأيضا طموحهم في قلوبهم إلى المدى الأبدي الأرحب لرحمة الله، غير آبهين بصحائف الوعظ "التقدموي" (غير التقدمي حقا) وخطب الإرشاد الحداثوي (غير الحداثي حقيقة). الثورة والوحدة الوطنية للشعب لقد كانت الثورة رائعة والأروع منها هي الوحدة الوطنية التي جمعت التونسيين في هدف واحد هو إسقاط النظام، بما يعني إسقاط بن علي ونظامه وليس بن علي وحده. لم تكن حركة النهضة بدعا من الحركات السياسية أو جاءت في غفلة متسللة للساحة فهي في جانب منها امتداد شرعي للحركة الإصلاحية والحركة الوطنية وشكلت في ثمانينات القرن الماضي حلفا متعاضدا مع شركائها في الحركة الديمقراطية (حركة الديمقراطيين الاشتراكيين برئاسة السيد أحمد المستيري وحركة الوحدة الشعبية برئاسة السيد أحمد بن صالح والحزب الشيوعي برئاسة السيد محمد حرمل) دون حضور لخطاب التخويف ولا توجس من الموقف من المرأة أو مجلة الأحوال الشخصية أو غيرها. ونظموا تحركات سياسية مشتركة ضد العدوان الأطلسي على ليبيا سنة 1986م. إلى أن جاءت فترة بن علي الانقلابية التي طبقت سياسة استبدادية منهجية ابتدأت بإغراء العلمانيين بتكوين حلف لمواجهة الإسلاميين تحت خطة كان عنوانها إنجاز ديمقراطية بدون الإسلاميين. ثم تغيّر عنوانها إلى إنجاز ديمقراطية بدون ديمقراطيين مع تكوين حلف من الانتهازيين سوغ كل أشكال التعذيب والاستئصال والتجويع وتجفيف الينابيع. ولكن أولئك الانتهازيون لم يتمكنوا من تكوين قاعدة شعبية لهم طيلة أكثر من عشرين سنة رغم ما توفر لهم من أموال وتشجيعات وفراغ لم ينافسهم فيه أحد. ولم يخل تاريخ تونس سواء في تسعينات القرن الماضي من مخلصين أمثال الدكتور المنصف المرزوقي والدكتور مصطفى بن جعفر وأحمد نجيب الشابي وحمة الهمامي وعدد من الإخوة القوميين الذين رفضوا الاستبداد وكوّنوا مع الإسلاميين سنة 2005م إطارا جامعا سموه حركة 18 أكتوبر نظم الحوار السياسي والنظري حول أهم القضايا الخلافية صدر عنه كتاب مشترك في صائفة 2010م سموه ( طريقنا إلى الديمقراطية ).. تضمن أهم الضمانات التي تخص حقوق الإنسان وحقوق المرأة وعلاقة الدين بالدولة وشكل الحزام العملي للممارسة السياسية الميدانية، وهو ما أسس لتجاوز جميع الإشكاليات والتناقضات الثانوية نحو إشكال مركزي وهو إحداث تحولات رئيسية في البنى الاجتماعية والسياسية. وتضافرت جهود الشباب وجميع شرائح وأبناء الشعب التونسي من سيدي بوزيد إلى بنزرت إلى تالة إلى القصرين إلى صفاقس إلى قابس إلى مدنين وغيرها. وحصل الحدث العظيم الثورة التونسية المجيدة والمباركة لشعب عظيم. ولكنّ الثورة الوطنية الآن لا تزال في بدايتها وليست الوحدة الوطنية للشعب التي حققت الثورة ترفا ولا مصادفة جميلة.. ولكن الوحدة الوطنية للشعب هي جوهر معنى الثورة وقلب فعلها الحيوي الذي بتواصله تنجح الثورة في بلوغ أهدافها وبفشله لا قدر الله تتعطل الثورة. والمجتمع التونسي مكون من شرائح وقوى وطبقات اجتماعية مختلفة، ولكل رؤيته الخاصة ومرجعياته الذاتية للأشياء ولكنّ لحظة الثورة وحدت جميع الرؤى باتجاه هدف واحد هو إسقاط النظام دون أن ينفي الاختلافات ولكنه أعاد ترتيب أولوياتها ولا يزال ذلك التوحيد ممكنا إذا وعت جميع الأطراف بطبيعة اللحظة الثورية وطبيعة الرهانات والتحديات التي ما زالت تواجه الثورة الوطنية. لقد قام نظام بن علي على التبعية الاقتصادية والسياسية والاقتصادية وهي تبعية شرعت له تشكيل طغمة مافيوية وشبكة للفساد. ولا معنى للثورة إذا لم تستثمر الوحدة الوطنية للشعب في تفكيك منظومة الفساد. وبناء نظام سياسي مدني وديمقراطي ونظام اقتصادي وطني غير مرتهن للتبعية وبناء ثقافة وطنية مرجعيتها ثقافة الشعب وتاريخه المشترك حتى يحقق الشعب سيادته الوطنية ويندمج فعليا في مواطنة تصنع المصير المشترك لتونس الحرة الوطنية والحديثة.. المصدر: جريدة الفجر عدد 4 الجمعة 29 أفريل 2011