متابعة للتطورات السوريَّة وتفاعلاتها تدفع بنا للاستنتاج بأن الدكتاتوريَّة لا تجتمع والمنطق القويم أو التفكير السليم، فذوات الطغاة تتضخَّم جرَّاء ثقافة النفاق والتطبيل، فلا ترى سوى ما ترغب برؤيته، وإن كان نقيض الواقع فيما تنهج مسلك فرعون وتتبنَّى رؤيته: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" أسلوب النظام في مواجهة الغضب الشعبي كمن يريد إطفاء النار بالزيت، ومع ارتفاع النيران فإن التعنت وعمى البصيرة يدفعان بالنظام إلى إلقاء المزيد من الزيت مما يزيد لهيب الاحتجاجات عنفًا وتصميمًا وإصرارًا. لقد انفجر في سوريا بركان الغضب الشعبي وانهار حاجز الخوف، فانطلقت جموع المواطنين بعفويَّة وإصرار واستعداد تام للتضحية بالغالي والنفيس وحتى بالحياة في سبيل استرداد الحريَّة والكرامة الإنسانيَّة، والتي حرمها النظام منهما ردحًا من الزمن، المنتفضون يشكِّلون كل أطياف المجتمع، فمنهم المسلم والمسيحي والعربي والكردي والإسلامي والعلماني واليساري وبأعمار وأجيال مختلفة ومتباينة، بل ربما عوامل الاختلاف بين بعض تياراتهم أكبر من عوامل الالتقاء، غير أن ما وحَّد هدفهم وجمع بوتقتهم أهداف إنسانيَّة راقية: الحريَّة والسلميَّة والوحدة الوطنيَّة. قوَّة الحراك الشعبي السوري تكمن في عفويته وتنوعه وانطلاقه من الداخل، فقيادات العمل الشعبي أفرزتها الأحداث، فلم يدَّعِ ولن يستطيع أي طرف سياسي أو فكري أن يقول بأنه هو المحرِّك أو من يقف أو يقود تلك الجماهير الغاضبة. هذه النقطة أوقعت السلطات في حرج وارتباك، مما دفعها لتوسيع دائرة الاعتقال إلى درجة أنه وبحسب صحيفة ديلي تلغراف البريطانيَّة حولت مدارس في درعا إلى معسكرات اعتقال، كما إن الاعتقالات والملاحقات شملت رموزًا حقوقية ونشطاء حقوقيين ومتظاهرات ليبراليات في وقت يتحدث فيه إعلام النظام عن السلفيين وعن إماراتهم الإسلاميَّة المزعومة. حين ينكسر حاجز الخوف ويكون دافع التحرك والاحتجاج ذاتيًّا، فإن القمع الأعمى والمزيد من الدماء يشكلان وقودًا للثورة وحافزًا لتصعيدها، فتتحوَّل الجنازات إلى مناسبات لإظهار المزيد من الغضب، وبيوت التعزية إلى نقاط تلتقي عندها مشاعر عارمة من التعاطف والتضامن. في الجهة الأخرى يفسر الحكم المنقطع عن التواصل مع المواطنين -كما قال الأسد في كلمته الأخيرة "هناك فجوة بدأت تظهر بين مؤسسات الدولة وبين المواطنين"- تفهم مطالب الجماهير بالضعف والانهيار، فيوغل بالبطش وتزداد الشقة بين الطرفين لتتحوَّل المطالب من إصلاح النظام إلى رحيله ومحاكمة رموزه على جرائمهم. النظام في معالجته التدميريَّة للحراك السمي ذهب أبعد من ذلك، فهو يريد للاحتجاجات ومن أيامها الأولى أن تتحوَّل إلى ثورة مسلَّحة وفتنة طائفيَّة، فعلى الرغم من ارتقاء خطاب الجماهير وتشديدهم على السلمية والوحدة الوطنية، تحدَّثت أبواق النظام وبلا مقدمات وبشكل منسق عن الفتنة الطائفيَّة، وكرَّر بشار في خطابه الأول في مجلس المهرِّجين كلمة الفتنة نحو 15 مرَّة، وتَمَّ تكرار مزاعم عن العصابات المسلَّحة والتباكي على شهداء الجيش والأمن -والتي أشارت العديد من التقارير أنهم كانوا ضحايا النظام لرفضهم إطلاق الرصاص على المدنيين- لتعميق الهوة بين المواطنين والجيش وشحن الطرفين بالضغائن والأحقاد كل باتجاه الآخر، سلوك النظام يكشف عن عقلية إجراميَّة، تريد أن تضحي بالبلاد وترمي بها في أتون حربٍ أهليَّة أو حتى تفكيكها في سبيل البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة. الردّ على محاولات السلطة الباغية في إشعال الفتن والحرائق الداخليَّة، هو في التشديد على سلميَّة الاحتجاجات وتعميق الوحدة الوطنية وعدم الاستجابة لاستفزازات النظام وتفنيد أكاذيبه، النظام يبدو مستميتًا لحرف الاحتجاج السلمي إلى أي شكلٍ من أشكال المواجهة المسلَّحة لتتحول الصورة من جناة قتلة مجرمون وضحايا مسالمون من طلاب الحرية والكرامة، إلى فتنة عمياء تتداخل فيها الخطوط وتنقلب إلى معركة غير متكافئة بين طرفين مسلحين، مما يجعل مهمة النظام في تحريض القوَّات المسلَّحة وتوريطها ليست بالعسيرة، تعزيز المشهد السلمي للمظاهرات الشعبيَّة وترسيخ مفاهيم الوحدة الوطنيَّة يعري النظام، ويمهد لملاحقة رموزه قانونيًّا دوليًّا ومحليًّا، ويزيد من عزلته ويفكِّك قلاعه الأمنيَّة، ويدفع بالمواقف الدوليَّة والإقليميَّة لمناصرة الحراك السوري.