لقد توقف الإعلام العالمي عند احد اكبر الإعلانات التي عقبت قمة الدول الثمانية بفرنسا و هي تخصيص مبلغ 40 مليار دولار لمساندة ربيع الحرية العربية في تونس و مصر على وجه التحديد. و قد شكك كثير من الخبراء الاقتصاديين في قدرة اقتصاديات هذه الدول الثمانية و المؤسسات المالية الخاضعة لها في توفير هذه المبالغ و الحال أنها تعاني جميعا من وضع اقتصادي اقل ما يقال فيه انه حرج، و ذلك خاصة بعد الجهود المبذولة "لإنقاذ" اقتصاديات اليونان و البرتغال و ايرلندا.
إلا أن الأخطر أن هذه المعونات التي أعلنت ارتبطت بشروط تتعلق بحق هذه الدول الكبرى في تصريفها و تعليقها متى شاءت إذا لم تحقق هذه الدول "الثائرة" ما تراه دول الثمانية ديمقراطية و هذا مربط الفرس كما يقال.
فعن أية ديمقراطية تتحدث هذه القمة؟
تحت مسميات خادعة يجري الحديث عن ديمقراطية تحترم الحرية الدينية و حقوق المرأة و الأقليات و تبث التسامح كما تفهمه الدول الكبرى. و هذه الصورة التي تبدو في ظاهرها مشرقة حيث انه لا يختلف عاقلان في أهمية هذه المبادئ، تخفي في الحقيقة رغبة في استمرار هيمنة هذه الدول "الكبرى" على رسم المشهد السياسي و الثقافي لهذه الدول وفق ما يخدم تصورها و ضمن التنميط الثقافي الاستبدادي الذي يحجر على الشعوب حقها في تقرير مصيرها الثقافي و الحضاري.
فوضع هذه القضايا في الصدارة يوحي خطا بان هذه الثورات نشأت في بيئات غير متسامحة ثقافيا و أن الشعوب انتفضت و تصدت للرصاص الحي (الكرطوش كما قال بن علي في أكثر المشاهد كاريكاتورية) فقط للتعبير عن حاجات ثقافية عامة (رفاه ثقافي) و ليس لدك أركان الظلم و الاستبداد المالي و الاقتصادي و السياسي الذل كانت نفس تلك الدول الكبرى تدعمه بالإحالة إلى نفس القضايا فما أشبه اليوم بالأمس؟
بالأمس كان نظام بن علي يحقق معجزة لنجاحه في تحقيق هذه المطالبات الجزئية ذات السمت الثقافي و التي جعلت منه في عيون الصحافة الفرنسية على وجد التحديد محدثا و مجددا نجح في القضاء على الخطر الأصولي و في جعل تونس أكثر دول المغرب العربي أوروبية.
ولذلك لا بد من الحذر من هذه النوايا المجملة بقضايا حق يراد بها باطل.
لا نجد في بيان قمة الثمانية (بإمكانكم قراءة نسخته الفرنسية على الموقع: www.g20-g8.com ) حديثا عن استقلالية القرار الوطني في التنمية و التحديث و اختيار النموذج السياسي و الاقتصادي القادر حقا على إشاعة العدل و الحرية و القادر أيضا على إبداع منظومة قيمية جديدة تسمح بالقضاء على شافة الفساد المالي بنسختيه البدائية (بن على و الطرابلسية في تونس) و نسخته "اللائقة" التي يجري العمل بها في الدول "المتقدمة" بتحويل القسط الأكبر من شعوبهم إلى خدم للرأسمال غير الإنساني و تحويل الشعوب الأخرى إلى توابع و ملحقات لا إرادة لها و لا كرامة.
و لذلك وجب الحذر من أن هذه المساعدات لا يمكن في غياب مؤسسات وطنية بحق (و ليس في تونس اليوم أية مؤسسة تمتلك هذه الصفة بما في ذلك كل الهيئات التي تضفي الشرعية على حكومة السبسي) إلا أن تكون وبالا جديدا على الثورة هدفه أن يثبت اتفاقيات المنطق المستمد من اتفاقيات "منداس فرنس-بورقيبة" التي سلبت استقلالية القرار الوطني على الصعيد الاقتصادي على وجه الخصوص. لا بد من الحذر منها لأنها نتائجها كما قدمت اليوم على قناة تونس 7 توحي بان اكبر انجاز لثورتنا أنها ستنقذ بسخاء دول الثمانية و ليس بدماء الشهداء ...
نحن لم نثر لنتحول إلى متسولين نستجدي المساعدات من أولئك الذين خزنوا لسنوات أموالنا المنهوبة و الذين قرروا أخيرا إعادة الأموال المجمدة لسليم شيبوب و أمثاله بل ثرنا لنهدي إلى العالم نموذجا تنمويا إنسانيا جديدا حتى أوروبا هي ابعد ما تكون عنه لان أنموذجها التنموي لم يفعل إلا أن عمق الفوارق بين الفقراء و الأغنياء و افقد الإنسان إنسانيته.