ترامب ينشر صورة بزيّ بابا الفاتيكان    غارات إسرائيلية عنيفة تستهدف مواقع مختلفة في سوريا    علماء يحذرون.. وحش أعماق المحيط الهادئ يهدد بالانفجار    دعما للتلاميذ.. وزارة التربية تستعد لإطلاق مدارس افتراضية    تفاصيل الاحكام السجنية الصادرة في قضية "التسفير"    الدوريات الأوروبية.. نتائج مباريات اليوم    جلسة عمل بين وزير الرياضة ورئيسي النادي البنزرتي والنادي الإفريقي    نصف نهائي كأس تونس لكرة اليد .. قمة واعدة بين النجم والساقية    ملكة جمال تونس 2025 تشارك في مسابقة ملكة جمال العالم بالهند    مهرجان «كنوز بلادي» بالكريب في دورته 3 معارض ومحاضرات وحفلات فنية بحديقة «ميستي» الاثرية    عاجل: ألمانيا: إصابة 8 أشخاص في حادث دهس    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    تحيين مطالب الحصول على مقسم فردي معدّ للسكن    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    عاجل: بينهم علي العريض: أحكام سجنية بين 18 و36 سنة للمتهمين في قضية التسفير مع المراقبة الإدارية    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    تحسّن وضعية السدود    معدّل نسبة الفائدة في السوق النقدية    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    النّفطي يؤكّد حرص تونس على تعزيز دور اتحاد اذاعات الدول العربية في الفضاء الاعلامي العربي    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    كلية الطب بسوسة: تخرّج أول دفعة من طلبة الطب باللغة الإنجليزية    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كُنْ خالدا وأُوَيْسًا في الآن ذاته . . .
نشر في الحوار نت يوم 14 - 06 - 2011


كُنْ خالدا وأُوَيْسًا في الآن ذاته
لِمَ أقال الفاروق خالدا من بعد توليه إمامة المسلمين؟
لم تختلف الروايات في صحة إقالة الفاروق عمر سيف الله المسلول خالدا من قيادة الجيش من بعد توليه الخلافة في إثر موت الصديق أبي بكر عليهم الرضوان جميعا. حاولت بعض الروايات البحث عن أسباب أخرى للإقالة غير السبب التاريخي المعروف أي : خشية الإفتتان بالأداء العسكري الكبير المتعاظم لمن خلع عليه الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام : سيف الله المسلول. بعض الأسباب لا تتفق و حرمة الرجل من مثل أنه كان يأخذ من الغنائم دون الرجوع إلى أبي بكر الذي قلده ذلك المنصب العسكري الكبير عليه الرضوان. أي أنه كان غالا. وأسباب أخرى لا تصمد إلا كما تصمد أوراق الخريف عندما تهجم عليها رياح تذروها ذروا.هل يمكن أن ينعم رجل بنيشان إسمه : سيف الله المسلول وهو غال للمال العام! ولكنها الإسرائيليات والمرويات الواهية تفعل فعلها في تراثنا.
إنما هو فقه الفاروق للحياة.
قام فقه الفاروق للحياة على أساس قيمتين :
1 قيمة الخشية على المرء من نفسه بسبب أن ألد أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه وماذا يضير الحقائق العظمى إذا تعامت عنها البصائر أو أهملتها المناظر؟ هل يضير الله سبحانه شيئ أن أكثر من يزحم أرضه وينعم برغده ويتقلب في ستره هو به مشرك أو كافر أو له جاحد ينسب له الولد أو يغفل عنه غفلة لا أثر فيها للحياة والطمأنينة والهدوء؟ أم هل يضير الحقيقة شيئا إذا إنشغل المرء عن نفسه بغيره إنشغالا ينسيه عيب نفسه التي بين جنبيه؟ هذا هو تصوري : الحياة حلقات من المعارك وأول معركة هي معركة النفس فمن إنتصر في المعركة الأم ( معركة النفس ) ترشح لخوض غمار المعارك الأخرى ومن أخفق في المعركة الأم كان في المعارك الأخرى أشد إخفاقا. ليس يعني ذلك أن الإنتصار على النفس يكون على الطريقة الباطنية القديمة الموغلة في التشدد مع النفس إلى حد حرمانها حقها في الإستمتاع بالطيبات. إنما يعني الإنتصار على النفس كبح جماحها أن يتخذها الكبر والعجب والهوى المتبع مرفأ دافئا لا يجد دونه في الدنيا مرفأ آخر. تلك هي الأدواء السرطانية القاتلة : الكبر والعجب والظن بأن ما حبيت به من عندي كما قال قارون رمز الكبر والعجب أو أنه بأثر من قربي من الرحمان سبحانه كما يظن بعض متطرفة الصوفية. وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ).
2 قيمة الخشية على الناس من بريق الأبطال. ألست تلفى أن عددا غير يسير من الناس اليوم يسحره بريق الأبطال في مختلف الحقول والمجالات بأكثر مما يسحره الساحرون؟ عندما يحدثك محدثك عن إمرئ ما بإعجاب يفوق المستويات المعقولة فلا تقصر موقفك منه على عدم تصديقه ولكن إقطع خطوة أخرى مهمة إسمها : إخش على محدثك أن يقع أسيرا في حبائل بريق الأبطال. إذا وقع له ذلك فقد قاد نفسه بنفسه إلى السجن. هو سجن يقوم فيه السجين بدور السجان. لا يسجن السجين نفسه بنفسه إلا عندما يقع أسيرا في حبائل بريق الأبطال فينبهر بهم إلى حد يقترب من تقديسهم أو حد غير بعيد من تأليههم. وسطية الإسلام تريد من الإنسان ألا يحتقر غيره بحسبانه لا يساوي قلامة ظفر من جهة و ألا يعظم غيره تعظيما يعشيه عن إبصار سيئاته وهي كثيرة لو فتح عينيه من جهة أخرى. كم عدد أولئك في الناس؟ قليل ما هم. أليست تقوم حضارتنا اليوم وأزيز الإعلام المصور يؤزها أزا عجيبا على ثقافة ( الستار ) باللغة الأجنبية أي : النجم. نجم في كرة القدم ونجم في التمثيل ونجم في الغناء ونجم في الدعوة ونجم في الفصاحة والبلاغة والإبانة ونجم هنا ونجم هناك وآخر هنالك. تمتلئ حياتك بالنجوم ضمن خطة إستراتيجية محكمة مقصدها : أنت لا تساوي قلامة ظفر لأنك لست نجما وإنما الجدير بالعبادة النجم. نجم لو أحجمت عن التصفيق له بكفيك أو أقلعت عن دعم حفلاته ومواعظه بمالك أو خلا صدرك من ذكره .. لأفل أفولا عجيبا وسريعا. نجم يعيش بك أنت وأنت أسيره الذي يأسر نفسه بنفسه.
ذلك ما أراده الفاروق عندما عزل خالدا عن قيادة الجيش بعدما أثبت أنه الفارس المغوار الذي لا يشق له غبار عندما يحمى الوطيس.
أراد الفاروق حماية خالد من نفس خالد.
كما أراد الفاروق حماية الناس من إنبهارهم بخالد.
أراد الفاروق إعادة الإعتبار في صدر كل واحد منا لنفسه.
أراد أن يقول لنا جميعا : كل واحد منكم يمكن أن يكون نجما مثل خالد أو أقل من خالد أو أكثر منه بكثير ولكن بشرط واحد هو : أن يريد ذلك إذ لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله كما قالت العرب. بشرط واحد هو : أن يعيد كل واحد منكم الإعتبار لنفسه دون غرور بنفسه ليقع فريسة العجب والبطر والكبر. وهل يصح أن يفر المرء من شعور الوضاعة في نفسه ليقع أسير سجن آخر إسمه : شعور العظمة؟ لا وضاعة ولا عظمة. بل منهاج وسط.
أراد الفاروق أن يعلمنا أن النجومية في الساحات العسكرية أمر كبير ومقدر ولكن ساحات أخرى كثيرة في الحياة تحتاج إلى نجومية وهي مفتوحة لكل نجم ولا يكون النجم نجما حتى يتعلم ويتدرب ويتعثر ويسقط مرات ومرات.
هو الإعلام الأعور دوما في كل عصر وفي كل مصر : إعلام أعور ولكنه عور مقصود يركز على حقول من النجومية دون حقول أخرى ليحصر الحياة والأداء والإحسان في حقل محدد يصرف إليه الأبصار ثم لتموت الحقول الأخرى وتموت نجومها معها في الدنيا.
إذا كنت اليوم خالدا فأقِلْ نفسك قبل أن تُقال.
لكم صدق الإمام الغزالي ( 505 ) عندما قال : في صدر كل واحد منا فرعون يقول بملء فيه لولا أن الناس من دوننا لا يسمعونه : „ أنا ربكم الأعلى “. ذلك يعني أن حجم الفجور في النفس كل نفس مخلوقة من طين وماء هو بقدر التقوى فيها. ذلك يعني أن النجاح في المعركة الأم الأولى يقتضي بالضرورة : حبس مشاعر الفجور أن ترد على اللسان أو أي جارحة أخرى من جوارح الإنسان فضلا عن أن تكون تلك المشاعر واقعا ملموسا يتلظى به الناس من حولك وأنت تحسب أنك تحسن صنعا. ( أنا ربكم الأعلى ) نداء لا تخلو منه نفس ولكن لا يطلب منك غير حبسه ثم تصريفه طاقة إيجابية صالحة تنفع بها نفسك والناس من حولك فإن لم تفعل ذلك تسلل ذلك السجين ( أنا ربكم الأعلى ) خلسة من سجنه وفي غفلة منك تلفاه ثعبانا يتقلب بين شدقيك ويقول للناس بأي لسان كان : لسان حال أو لسان مقال : „ أنا الجدير بكذا وأنا العليم بكذا وأنا الأولى بكذا لأني الأكبر والأرسخ والأسبق والأعلم والأشهر والأقبل عند الناس ..“.
أنت خالد في حقلك. بل قد تكون أكثر من خالد واحد وفي أكثر من حقل واحد.
قد لا تجد من يقيلك ولا من يعزلك. لأنه لا سلطان للناس عليك.
فهلا أقلت نفسك بنفسك لتحمي نفسك من نفسك وتحمي الناس من نفسك.
إما أن تفعل ذلك وإما أن ترقب هذا المصير. هذا المصير شهدت به تجارب التاريخ إذا كنت ممن يعير لتجارب التاريخ وسننه ميزانا. مصيرك إذا لم تقل نفسك بنفسك هو : أن يفتتن بك الناس أياما وأسابيع وشهورا وسنوات وعقودا ثم يبلى ذكرك عندهم ويسلط عليك ربك جزاء عاجلا على سرطان العجب الذي إستبد بك .. يسلط عليك عثرات من بعدها عثرات. عثرات لا يتفهمها الناس ولا يتقبلونها بل يلفظونك في أشد ساعات حياتك حاجة إلى الإهتمام بك : أي عندما تشيخ وتكبر. تظن أنك شخت لتكون شيخا عليهم فتفاجأ بأنك شخت لتكون عبء عليهم. عبء يلفظ بيسر لا يلوي على شيء.
كيف تقيل نفسك بنفسك.
1 قيد نفسك بخلق التواضع وشمائل التقوى. لا يكن ذلك منك تصنعا لأن الناس لا يخدعهم متصنع طول الوقت حتى لو خدعهم وقتا طويلا. إنما يكون ذلك بحسب مناسيب الإخلاص لله سبحانه وحده في صدرك. لا تظنن أن الإخلاص خصلة قلبية ليس لها من أثر في الحياة. لا تظنن أن الإخلاص خلة لا يطلع عليها الناس. لا يطلعون اليوم عليها ولكنهم سيطلعون عليها غدا. غدا عندما تشيخ تبدأ مخبوءات الصدور في الظهور عليك ويطلع الناس عليك. أليست تلك هي عاجل نذير المؤمن؟ كيف يكون للمؤمن عاجل بشرى ولا تكون له عاجلة نذير؟ تلك قسمة في الإسلام ضيزى.
2 قيد نفسك بخلق الإعتراف بالتعدد و التنوع والإختلاف. الساحة في كل حقل من حقول الحياة تشكو الفراغ وليست تشكو التخمة .. الفراغ من النجوم مثلك .. ليست تلك فكرة تشنف بها آذان الناس في المواعظ والدروس والمحاضرات والمكتوبات فإذا نزلت إلى ميدان العمل تبخر كل شيء وظللت تقول في نفسك : ليس لي في هذه الساحة نظير ولا نديد ولا مثيل. أنا فارسها الأوحد. يكفيك أن تكون أحد فرسانها. حتى لو أثنى عليك الناس بمثل ذلك فلا تصدقهم ولتكن القالة القديمة راسخة في صدرك حتى لو لم يلهج بها لسانك بل إني لا أريد أن يلهج بها لسانك سيما في الملإ : اللهم إجعلني خيرا مما يظنون وإغفر لي ما لا يعلمون.
3 قيد نفسك بخلق الحلم والأناة. جرعة واحدة في الحياة كلها لا يقوى على تجرعها غير مصطفى مستأمن ينعم اليوم بيننا بنعيم جنة الدنيا لينعم غدا بنعيم جنة الآخرة. هي جرعة الحلم عندما تغضب لجرح ثخين أصابك في نفسك وعرضك سيما بحضرة الناس من سفيه لئيم حقير. إذا إجتمعت مناظر ذلك المشهد : أنت النجم + الملأ من حولك + سفيه ينفث سفاهته فيك نفث الثعبان لسمه في الطريدة.. إذا إجتمعت مناظر ذلك المشهد فتوفقت وما توفيقك إلا بالله إلى أن تكون الضلع الآخر والأخير للمشهد : ضلع النجم الحليم المتأني لا ينبس ببنت شفة بل يقول في صدره ولا حاجة لذلك باللسان : „ سلام عليكم لا نتبغي الجاهلين “.. إذا إكتمل المشهد بحلمك وأناتك فأنت النجم وإلا فإنك الوضاعة الوضيعة. لا يعني ذلك ألا يتمعر وجهك أو ألا يوغر صدرك. لا. أنت بشر ممن خلق سبحانه. المشهد لتكون نجما لا يتطلب منك سوى كظم الغيظ. كظم الغيظ ليس مخافة تدحرج نجوميتك بين الناس. تلك سياسة يحسن حبكها أهل الدنيا. أهل الآخرة يكظمون الغيظ حتى لو كانوا في خلاء لا يرقبهم فيه أحد. الأولون يكظمون الغيظ لكسب نجومية إضافية زائدة فإذا خلوا بالسفيه سحقوه أما الآخرون فشأنهم شأن آخر.
من فقه الشاطبي وبعض الواصلين.
يقول الواصلون قديما أنه ينبغي للمتصدر كتم بعض المستحبات والرغائب والسنن من حين لآخر خشية أن يستتب الأمر عند الناس أنها عبادات مفروضة لا يحسن سوى إتيانها. ذلك مسلك أصولي معروف عند طلبة العلم. هو سد الذريعة ولكن في إتجاه معاكس للسد المعروف في الفقه. هناك تسد الذريعة عندما يخشى من قربان الإثم وقوعه ( الجلوس على مائدة تدار فوقها خمرة ) وهنا تسد الذريعة عندما يخشى على الناس إضطراب فهم تختل فيه مرتبة المطلوبات والممنوعات ليقدم صغير ويؤخر كبير. سد الذريعة ليس في الفقه العملي فحسب بل هو في الفقه القلبي كذلك. قد ينكر الناس ممن أريد تعليمهم بطريقة سد الذريعة وممن يخشى عليهم تشوش فقه مراتب الأعمال فيهم .. قد ينكر الناس ذلك من المربي المتصدر ولكن المربي المتصدر يثبت على ذلك الإحجام عن إتيان بعض المستحبات والسنن ولا يستخف من لدن الذين لا يوقنون.
ما معنى ذلك عندك اليوم.
معناه ذلك اليوم عندك هو أن تكسر نبض الظهور الدائم المنتظم في صدر الناس لئلا يعتقد الناس ممن لا يوقنون أنك أشبه شيء بالنبي المعصوم أو الفارس الذي لا يشق له غبار أو النجم الذي لا يعرف الأفول والحصان الذي لا يعرف كبوة ولا عثورا. موقفك ذاك لا يربيهم هم فحسب بل يربيك أنت كذلك. حتى المؤيد بالوحي المعصوم محمد عليه الصلاة والسلام قدرت له أقدار الرحمان سبحانه أن يغفل عن صلاة الفجر يوما فلا يستيقظ لها حتى أوجعته الشمس بحرها بما ضرب الله عليه وعلى أصحابه ومنهم مؤذنه بلال. لم كان ذلك؟ لئلا يعتقد الناس أنه ملك كريم أو معصوم عصمة كونية تخرج عن دائرة العصمة البشرية. لئلا يظن الناس بكلمة واحدة أرادها الشارع أنه مسيح جديد بعث في أمة الإسلام. لا. هو نبي جديد خاتم ولد كما يولد الناس ويموت كما يموتون ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولكنه معصوم عصمة دينية ليبلغ عن ربه الحق الذي ليس وراءه إلا الضلال وهي ليست عصمة دنيوية إلا عصمة له من القتل ( والله يعصمك من الناس ).
ونعم المُقال سيف الله المسلول.
هل تظن أن سيف الله المسلول المقال خالدا أحال نفسه على التقاعد المبكر من بعد تنحيه عن قيادة الجيش أم أنه إعتزل الناس وإنكفأ على خويصة نفسه.. لو كان شيء من ذلك لما إستحق نيشان : سيف الله المسلول. هو سيف الله المسلول على نفسه بدء. فلما نجح في سل سيف الله على نفسه يؤدبها أن يفترسها العجب والكبر والبطر كان سيفه المسلول على أعدائه. أم هل تظن أن الساحات من بعد عزل خالد لم تجد نجما يرغم أنوفا بطرت في التراب؟ لا أبدا. ما توقفت سفينة الحياة ولكنه الفقه الفاروقي العمري الكبير عندما ينتبه إلى ما لا ينتبه له الآخرون. إنه الفقه الفاروقي العمري العظيم عندما يفكر في خير خالد فيقيل خالدا لئلا يكون خالد عدوا لخالد نفسه. إنه الفقه الفاروقي العمري العميق عندما يفكر في خير الأمة فيواري فيها خالدا لئلا تفتن الأمة بنجومية خالد فيهلك من إفتتن فيه.
ميزان لا يخطئ أبدا.
في الدنيا ميزان واحد لا يخطئ أبدا. ميزان ينصف كل من صعد عليه ليزن نفسه أو رضي بأن يزنه الناس به. هو ميزان الناس. أولئك الذين يحيطون بك. أولئك الذين يسمعون عنك. أولئك الذين تشنف آذانهم بالكلمات والمواقف. أولئك الذين علمتهم وحشدتهم. أولئك جميعا هم ميزانك في الدنيا. لا مناص لك من ركوب ذلك الميزان إذا أردت معرفة سعرك في السوق أو معرفة الإخلاص الذي هو في صدرك هل هو حقيقي خالص أم هو مزيف مغشوش. إذا قال لك أولئك نعم أي أغلبهم وليس كلهم طبعا فأنت على خير كثير : خير في الدارين إن شاء الله تعالى وليس هو خير مقصور على الدنيا. أما إذا قالو لك : لا. فأقل نفسك قبل أن تقال. بل هم أقالوك بميزانهم الذي لا يخطئ أبدا. ألا ترى أن العالمانيين اليوم في تونس مثلا وفي أكثر بلاد عربية وإسلامية يتجنبون الصعود على الميزان؟ لم يا ترى؟ لأنهم يدركون أن الميزان سينصفهم وسيقول لهم :لا. عندها يكونون قد عرضوا أنفسهم لفضيحة الميزان الذي يمسك الشعب دفتيه عن يمين وشمال فهو معتدل لا طغيان فيه ولا إخسار. لذلك يظلون يتأبون عن الميزان ويستعيضون عن ذلك بملء الدنيا عويلا أن الميزان الإنتخابي هو الميزان. قول بلا عمل يتلهى به الفارغون وقد يصدقه الذين لا يوقنون.
الأنبياء وحدهم لا يصعدون على ذلك الميزان لوزن أنفسهم ودعواتهم بسبب أنهم مختارون من الله سبحانه. إذا ثبتت لبشر نبوة فإن الميزان هو ميزان النبوة وكل من لم تثبت له نبوة فالميزان الوحيد هو ميزان الناس.

الناس الذين يستمعون إليك ويعجبون بك إلى حد الإنبهار .. أولئك هم أنفسهم الذين وضعوك فوق الميزان ووزنوك وأنت اليوم عندهم إما صاحب رصيد أو رجل نفد رصيده. هو ميزان منصوب ولكن نتائجه لا تعلن سوى يوم الإنتخابات. عادة ما ترتفع أرصدتك لتصل السماء بسرعة في الأيام الأولى والسنوات الأولى ثم تتدحرج إلى مستوى محدد بسبب تدحرج درجات الإنبهار عند الناس. وعندها يبدأ الإمتحان معك فعلا. عندها يستقر الميزان بك. قد ترتفع أرصدتك قليلا أو تنزل قليلا ولكنها في الجملة مثبتة في مستوى من مستويات الميزان الذي يمسكه الناس ولكن قليلا منهم جدا من يعلن لك نتيجة الميزان. أغلبهم يتجنبون ذلك.
إن لم تكن خالدا العلن فكن خالد السرّ.
من عظائم شريعة الإسلام الوسطية. من مظاهر تلك العظمة التشريعية الوسطية أن الإنفاق يؤتى سرا وعلنا. لا أفضلية لإنفاق سر على إنفاق علن كما وقر خطأ في عقول أكثر المسلمين اليوم. ها هو البرهان الساطع الحق بالحق يجلجل ليقول لنا ويعلمنا : „ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم “. الذي أصاب الناس بسوء الفهم هنا هي كلمة ( خير لكم). لو قال ( خيرا لكم ) فمعناها في بعض السياقات اللغوية التي يعرفها أهل الذكر وطلبة العلم وليس في كل السياقات صيغة تفضيل ويكون المعنى أن نفقه السر خير من نفقه العلن. ولكنه قال ( خير لكم ) ليكون المعنى : نفقه السر خير ونفقه العلن نعمة. النعمة خير والخير نعمة. فلا تفاضل بين الخير وبين النعمة. هو الخطأ ذاته الذي يقع فيه المسلمون اليوم عندما يخطؤون فهم قوله في الكهف ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا). لم يصنع الناس تقابلا وتفاضلا بين الأمرين؟ هل أن الباقيات الصالحات التي قصرها إبن كثير ( غفر الله له ورحمه الله سبحانه ) عن التسبيح والتحميد .. هل أنها خير من المال والبنين بإطلاق خير تفضيل؟ إذا لم أمرنا بإتيان الزينة حتى عند السجود ( خذوا زينتكم عند كل مسجد)؟ ولم علمنا ( حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء ..)؟ إنه العقل الجزئي الذي يقابل بين الأشياء مقابلة تفاضل لا تكامل فيه.
لا تفاضل بين صدقة السر وبين صدقة العلن إلا بتفاضل إخلاص صاحبها من جهة وبتفاضل محلها من جهة أخرى. قد تكون صدقة العلن أوفر حظا وأوجر جزاء من صدقة السر عندما تكون في محلها المناسب قلبا من صاحبها وقالبا من مشهدها وقد تكون صدقة السر أدنى من ذلك عندما تتنكب محالها المناسبة قلبا وقالبا. إذن ما تصدق الأعمى الذي لا يمكنه وضع صدقته دون أن يعلم بها من حوله؟ تلك قسمة في الإسلام ضيزى.
من هو خالد السرّ المقصود هنا؟
هو أُوَيْس إبن عامر : رجل أوصى به محمد عليه الصلاة والسلام وزيره الفاروق عمر وقال له إنه رجل باليمن مستجاب الدعوة فإن لقيته فادعه يستغفر لك. بحث عنه الفاروق الذي ما ينبغي له أن يفلت فرصة مثل هذه. عمر يملأ يومها أبصار الناس وأسماعهم من مؤمنين وكافرين. ليس في الناس يومها إلا رجل يوقره أو رجل يخشاه. أي حاجة منه وهو كذلك إلى رجل مغمور في اليمن لا يشعر به حتى أهله فضلا عن غيرهم؟
أيهما خير لك : أويس أم خالد؟
أيهما عند الله أفضل درجة؟ أمر لا يعلمه سواه. كلاهما خير : خالد في ساحات إرغام أنوف الظالمين خير من أويس قطعا وأويس في ساحات أخرى خير قطعا. كلاهما خير حتى لو كانت الساحات مختلفة. غير أنه أن تكون مستجاب الدعوة بمثل أويس عليك أن تكون مستطاب الطعام. الطعام لغة وشرعا ليس ما تأكله فحسب بل هو ما تأكله وتشربه وتلبسه وتسكنه وتركبه وتنكحه وتراه وتسمعه وتقرأه وتستأمنه. ذلك هو الطعام في اللغة والدين. إنما إختصر في لفظ الطعام لأنه هو الأشهر الذي يأتيه الإنسان مرات في اليوم الواحد. أن تكون مستطاب الطعام معناه أن تكون مستطاب الحياة. أن تكون مستطاب الحياة معناه أن تتحرى الطيب الحلال مكسبا ومصرفا ما إستطعت وحييت لك ولمن تعول. لم كان ذلك هو الشرط الأكبر من شروط إستجابة الدعاء؟ لأنه أمر على يسره لا يحسنه الناس كلهم بسبب فتنة الدنيا التي لا يشبع منها شبعان.
إذا كنت خالدا فكن في الآن ذاته أويسا.
تلك هي أم هذه الموعظة المتواضعة المرتجلة. إذا كنت خالدا وأعني في هذه الموعظة خالدا الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس من حوله في حقل الدعوة الإسلامية .. إذا كنت خالدا يا خالدا الذي أعني فكن أويسا كذلك. كن مع ربك أويسا مستجاب الدعوة وأي مقام لك عند ربك أن تدعوه فيستجيب! وكن مع الناس خالدا الذي يحشدهم إلى قيم الشهامة والكرامة والمروءة والإنتصار للمقهورين.
كان خالد من قبلك من قبل عزله ومن بعده أويسا وكان أويس من قبل إلتقائه عمر ومن بعده خالدا.
أما أنت اليوم فإنك تحتاج إلى أن تكون خالدا الذي ينصر الإسلام وقيم العدل والحرية بسيفه والقلم سيف واللسان سيف وأسياف أخرى كثيرة ولكل سيف محله المناسب.. بمثل ما تحتاج إلى أن تكون أويسا الذي ينصر الله سبحانه فينصره سبحانه وكفى به نصرا مبينا وفتحا عظيما أن تمد راحتيك إلى السماء تقول يا رب : فيقول لك : أي عبدي لبيك وسعديك!
والله أعلم.

الهادي بريك المانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.