الشعب بعبع النخب الفاشلة..! نصرالدين السويلمي تعد المؤسسة العسكرية في الكثير من بقاع العالم بمثابة الحاجز الأكبر والعلّة المزمنة التي تحول دون الشعوب وطموحها، وقد أفشلت هذه المؤسسة أغلب محاولات التحرر التي قامت بها الأمم المكبّلة بحكم الدكتاتوريات بل قامت بالسطو على غالبية هذه المحاولات الناجحة وأخضعتها إلى حكم البدلة الخضراء ، وعلى مدى ما يناهز القرن من الزمن استحوذت الثكنات وباستحقاق غير قابل للجدل على لقب قاهرة الشعوب وهاتكة الحرية.. لكن يبدو أنّ الثورة التونسية القالبة للكثير من المفاهيم والقالبة أيضا للكثير من الطاولات على رؤوس صعاليك القصور قد أحدثت في هذا المسلّم التاريخي وحوّلته من عامل منغص إلى عامل محسن لشروط الثورة، صحيح أنّ المؤسسة العسكرية في تونس لم تمتهن القتل وحافظت على نظافة حرابها في الكثير من المحطات العصيبة لكن لا أحد كان يتصور أنّ القائد الأعلى سوف يطلق الصرخات المتتابعة ويعلن التعبئة العامّة ويستعدي الجيش على شعبه بموجب أوامر مجبرة والدبابات تتجاهله وتمضي في حيادها متلذذة بنخوة شعبها محافظة على برودة فوهاتها في وجه ثورته الحامية.
بتخطي حاجز الجيش وضمان حياده تنفّس الشارع التونسي الصعداء وظنّ أنّه في طريق مفتوح لبناء مؤسساته بشكل توافيقي وفي مناخ مريح، لكن وبينما تفرّغت الثورة لمحاصرة فلول الجنرال وحماية نفسها من ردّة محتملة نشأت خلفها عمليات تعبئة مشبوهة تصبّ في أجندات ضيقة ليس لها أيّة علاقة بالأجندة الأمّ ، وبدى أنّ بعض الطوائف الفكرية تحرّكت نحو السطو على الشرعية!! طوائف برزت في عهد المخلوع ببعض أدوار في إطار الفعل النخبوي وذلك عندما كانت إرادة الشعب معطلة وهياكلهالكبرى محاصرة، مهجرة، ومغيّبة خلف السجون؟ احتشدت هذه النخب وسيطرت على بعض المؤسسات وشرعت في استنزاف صلاحيات الشعب تحت تعلّة بساطته وسذاجته وإمكانية الضحك عليه ثم حشدت مجموعة من المغالطات تُظهر الشعب في موقع هشّ وغير قادر على فهم الواقع السياسي والاهتداء إلى الخيارات الحكيمة ولما نفثت شحنات هائلة من التشكيك انتقلت إلى الحجر على المواطنين ونصّبت نفسها وصية عليهم، وعندما استعتبت ثارت وخيّرت الوطن بين الاستسلام أو الردّة والإنفلات.. هذه المجموعة عمدت إلى الدكتاتوريات العسكرية فتخلت عن هيكلها الخارجي وارتشفت جميع خصائصها.. وبعد أن اتخذت لها بؤرا وجعلت منها ثكنات مدنية تفرّغت لتفريخ البيانات والعقود واللوائح المزودة بسيف الإلزام.. هاهنا ثكنات مقنعة تنبعث منها رائحة الحرب ولا يسمع فيها أزيز البارود!! هو القتل المدني الناعم لأحلام الشعوب.
هذه الطوائف الفكرية ليست بتلك الأجسام الكبيرة المرائية الموازية التي يمكن للشعب أن يحشد مكوناته لمغالبتها ومن ثمّ استنقاذ حقوقه منها إنّه مكون مغروس في جبح الشعب يفرض طروحاته من الداخل وإذا فشل يحدث التشنج والارتباك ويزرع الفتن السياسية، ديدنه "سياسة الأمر الواقع" ومذهبه "أنا والطوفان من بعدي"، هو كائن مثير يستفزه سواد الشعب !! ويفقد صوابه إذا قيل له إنّ شأن هذا الوطن لا يعود بالنظر إلى نخيبة أو نخيبات إنّما مرد جميع أمره إلى مواطنيه، إلى الجماهير، إلى الناس المتدافعة المتدفقة في المحطات والساحات العامّة والشوارع الطويلة.
هؤلاء المفزوعين من الشارع العازمين على عدم التسليم بسلطة الشعب ولو كلّفهم ذلك تبني خيار الفوضة الخلاّقة يجب عليهم أن يتخلوا عن الوسواس القهري ويتقربوا من الشعب، يلامسوه يمشوا في أسواقه ويأكلوا من كسرته ويريّحوا جباههم فوق سجّاد مساجده، يسرحوا في أنحاء مدنه وقراه، يتوددون إلى عُمّاله ويتقربون من طلبته وأُطره..عندها سيكتشفون أنّ هذا الشعب واع منتبه يحسن التفريق بين اصل اللون والمتلون، بين الأصيل والدخيل وأنّه ذلك الشعب الذي أخرج الجنرال من بروجه المشيّدة.. وإذا فعل فلن يعجزه أن يخرج نتيجة مفيدة من صناديق الإقتراع... واعلموا أنّ البيعة بعد الثورة لم تعد من شعب لشخص أو أشخاص إنّما على النخب أن تتعود على مبايعة شعوبها، فمنذ مساء الرابع عشر لم يعد الشعب في أياد آمنة بل أصبحت النخب في أياد الشعب الآمنة