قال الكاتب والسياسي الانجليزي''لورد ماكوبي '' أمام البرلمان الانجليزي في 2فبراير 1835 :لقد سافرت في الهند طولا وعرضا , ولم أر شخصا واحدا يتسول أو يسرق . لقد وجدت هذا البلد ثريا لدرجة كبيرة , ويتمتع أهلها بقيم أخلاقية عالية , ودرجة عالية من الرقي حتى إنني أرى أننا لن نهزم هذه الأمة إلا بكسر عمودها الفقري , وهو تراثها الروحي والثقافي . ولذا أقترح أن يأتي نظام تعليمي جديد ليحل محل النظام القديم , لأنه لو بدأ الهنود يعتقدون أن كل ما هو أجنبي وانجليزي جيد وأحسن مما هو محلي , فأنهم سيفقدون احترامهم لأنفسهم وثقافتهم المحلية وسيصبحون ما نريدهم أن يكونوا أمة تم الهيمنة عليها تماما . وعى الغرب منذ زمن بعيد أهمية الهيمنة أو الاستعمار الثقافي في تمرير المشاريع , وترسيخ قواعد الهيمنة والتبعية والتغريب والاستلاب الحضاري، وكل ما يحولنا إلى مجرد هامش لحضارة الغرب، فنفقد خصوصيتنا. الخصوصية أو"التمايز الحضاري"(تعبير للدكتور محمد عمارة) تستدعي منا الحفاظ على الهوية، ليس لوضعها في متحف أو نتغنى بها أو مجرد شعارات ترفع، بل لما لها من دور في شحن الشعوب ب"الكبرياء المشروع والطاقات المحركة في معركة الإبداع". عادة ما تقاوم الأمم المستضعفة والمقهورة انطلاقا من مخزون حضاري ونموذج إدراكي يشكل هويتها، يكون له الدور الأبرز في إذكاء روح المقاومة لاسترداد ما سلب من كرامة وحرية...دون تلك الخصوصية تسهل الهيمنة وتمرر المشاريع بطريقة ناعمة لا تستدعي لا السلاح ولا الدبابة. ما الهوية'؟ الهوية بحسب تعريف الدكتور محمد عمارة هي "الجوهر الثابت والعام في أية شخصية إنسانية أو قومية أو حضارية...هي جوهر الإنسان كالنواة بالنسبة للشجرة..." مسيرة التجديد والتغيير في حياة الإنسان في استمرارية لا تتوقف، تجدد في الخلايا والأفكار وكل الأمور المعنوية، لكن هناك قسمات وسمات تميز هذا الإنسان عن غيره عامة وثابتة، تميز أو خصوصية لا تنكر المشترك الإنساني القائم على التعددية الحضارية وما تلعبه من دور في تنمية وتغذية مصادر العطاء العالمي. فقدان الهوية أو الخصوصية يعني الذوبان في الآخر والتفكير بعقل غير عقله...ما قاله "لورد ماكين" بالغ الأهمية وتلخيص موجز لخطط الغرب وأساليبهم في استلاب الشعوب، وترويجهم لنموذج واحد وحضارة واحدة"الإنسانية الواحدة" والتي أصبح من أهم تجلياتها هو ترويج السلع الغربية واكتساحها للأسواق للتخلص من فائض السلع، والشركات و القواعد العسكرية العابرة للقارات. بدل هذه الهيمنة أو الإنسانية الواحدة والحضارة الواحدة، نجد " فكرة الإنسانية المشتركة"( تعبير للدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله) يرى الدكتور المسيري أن البشر بداخلهم إمكانيات لا يمكن لها أن تتحقق إلا داخل زمان ومكان محددين وبتحققها تكتسب خصوصية أو هوية محددة، فقدرات الصيني على الإبداع لا يمكن أن تحقق النجاح إلا إذا اشتغلت وفق الزمان والمكان الصيني، وفق متطلبات الشعب الصيني...إمكانيات التونسي وإبداعاته لا يمكن أن تحقق آمال التونسي إلا إذا أبدعت داخل نموذج قيمي أو مرجعية تشكل هوية التونسي ورؤيته للكون وكل متطلبات ومناهج البناء الحضاري.... انطلاقا من هذه المعادلة فان الإنسان الذي لا هوية له لا يمكن أن يحقق تنمية مستدامة تستجيب لحاجياته ومتطلباته. الإنسان ينتج إذا ما كان تخطيطه بمنظاره وليس بمنظار الآخرين، لأنه بفقدانه لتميزه فأن عقله يصبح في أذنيه يكرر مقولات غيره ف"يبدع" من داخل تشكيلهم الحضاري، ليكون المنتج مشوها لقيطا لا يتلاءم مع الزمان والمكان الذي يعيش بداخله.... إن فشل المشاريع في بلداننا، اقتصادية أو تعليمية أو اجتماعية أو غيرها يعود إلى عدم الأخذ بعين الاعتبار خصوصية بلداننا. فشل مشاريع النهضة العربية يرجع إلى أن البعض لا يزال يعتقد أن نجاحنا يمر عبر التخلي عن هويتنا وتراثنا وما علينا إلا الالتحاق بسفينة الغرب، دون التبصر والتأمل في أن إبحار تلك السفينة له اتجاه واحد وهو إنتاج ما يستحقه الغربي وما يتلاءم مع متطلباته...القاعدة الطبيعية تقول:"إن الإنسان لا يستجيب للقانون العام وإنما يستجيب لما هو متعين وخاص، إذ بوسعه أن يستوعبه ويستنبطه ثم يتحرك في إطاره..." هذا من ناحية ثم من ناحية أخرى، الطبيعي أيضا هو أن نحذر الانغلاق والانعزال الحضاري الذي هو نوع من الانتحار، الموازنة تكون عبر التفاعل في المشترك الإنساني الذي يقوي ذاتية الأمة... مفيدة حامدي عبدولي
الاستقلال الحقيقي هو الاستقلال الحضاري.. بعد صراع مرير مع المستعمر المباشر واشتداد حركات التحرر الوطني في منتصف القرن العشرين، تحقق الاستقلال على امتداد وطن العروبة والإسلام . لكن بمرور السنين تكشفت حقائق عدة تتمثل في أن خروج الجيوش الجرارة وآلياتها لا يعني تحقق السيادة والإرادة الوطنية. فالتبعية مازالت قائمة عبر الهيمنة على مقدراتنا الاقتصادية والهيمنة الفكرية والحضارية التي تسعى لقطع التواصل الحضاري بين حاضر الأمة وبين حضارتها أو أسس هويتها... اليوم هناك وعي بهذه الإشكالية، وعي بأن جوهر الاستقلال الحقيقي هو الاستقلال الحضاري، وأن تميزنا الحضاري هو سر قوتنا و هو حقيقة لا يمكن طمسها أو تجاهلها...التميز هنا لا يعني تعصبا ممقوتا ولا هو انغلاق يرفض الآخر والتعامل معه، لا أبدا بل ذلك مخالفا للشريعة" جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..." التعارف بمعناه الشامل وما يحتويه من تبادل للمعارف والخبرات والعلوم، ضمن مشترك انساني عام تلتقي حوله كل الشعوب، في إطار الاحترام وليس بمنطق المهيمن والمهيمن عليه... التميز يعني هنا رفض هيمنة الآخر الذي علمنا التاريخ والحاضر عند قراءته بوعي وبطريقة شاملة لا تجزئ الأحداث بل تتناولها في سياقها العام علمنا أن الآخر دينه المصلحة أينما وجدها فوسيلة الوصول إليها لا تخضع لا للقيمة ولا للأخلاق...النظر الى مصالحنا وكيف نحققها من خلال خصوصيتنا هو ما يحقق لنا سيادتنا واستقلالنا ويجعلنا نبدع في البحث عن البديل الحضاري الذي يكفل للأمة نهضتها وتكون طوق نجاة من التخلف الموروث...الخصوصية الحضارية في تونس مثلا هي ملك للجميع بكل أطيافهم وتوجهاتهم الفكرية وليست حكرا لأحد وعلى الكل أن يسعى للتعامل معها ليس من باب المزايدة فهي ليست مجرد شعار، بل هي مجال فعل حقيقي للبناء والتشييد.... مفيدة حمدي عبدولي