في آخر الثّمانينات كنت أدرس في المدرسة التّطبيقية لمختلف الأسلحة، وفي صبيحة يوم مشهود كنت وزملائي عائدين من المطعم بعد تناولنا فطور الصّباح وبعضنا لا زالت بيده القهوة ونتناقش كالعادة ونحن نستعدّ للالتحاق بقاعات الدّروس وفجأة سمعْنا ارتطاما عنيفا خارج حرم المدرسة الحربية لكن بحكم الأشجار الكثيفة والسّياج التي تفصلنا عن الحادث لم نهتمّ بالأمر كثيرا وخصوصا أنّ وقت الالتحاق بالدروس قد حان . لكن بعد وقت سمعنا انفجار في سياج المعسكر المحاذي للطّريق الرئيسية ثمّ تعالت نار قوية تجاوزت السّياج وبلغنا لفْحُها. كانت شاحنة صهريج لنقل الوقود مارّةً في الطّريق في اتّجاه الجنوب ثمّ حادت وارتطمت بسياج الثّكنة. في ذلك الوقت لا وجود للهواتف الجوّالة، لكن بعض التّلاميذ الضبّاط وضبّاط الصّف داخل المدرسة هرعوا إلى مركز الدّوام وبعضُهم إلى مركز الحراسة للإعلام بما حدث على سياج الثّكنة. أمّا في مكان الحادث فكان الصراع مع الموت لمن كان في الشّاحنة، وقد علمنا فيما بعد أنّه كان بداخلها شخصان : السّائق ومُساعده وعلمنا أيضا أن الموت انفرد بالأول بعد صراع ما يُقارب لمُدّة سّاعة من الزّمن دون وصول تدخّل ولا نجدة ونجا الآخر دون مُساعدة من أحد بعدما لحقتْهُ حروق في أنحاء مختلفة من جسمه. وأصِبْتُ أنا وعدد من زملائي الّذين شاهدْنا الحادث من داخل سياج المعسكر بنكسة أصابت عزّتنا العسكرية وأدْمَتْ قلوبنا، وسرْبلتْنا بالخزْي والإحساس بالعار، لأنّنا أثناء استغاثة المواطنَيْن في داخل الشاحنة المقلوبة على ظهرها كنّا نرى الآليات والمزنجرات ذات السّلاسل والرّافعات العملاقة والشاحنات العسكرية ذات صهاريج المياه ومُعدّات التّدخّل راسية داخل المعسكر في السّاحات وكنّا نعلم أنّ الثكنة فيها ما يكفي للتدخّل وإنقاذ المُصابَيْن وكنّا نرى أيضا كثيرا من الجنود البواسل وحتّى التّلاميذ من مختلف الرّتب والّذين وإن كانوا في الأصل ضيوف في المعسكر بحكم أن جاءوا للدّراسة. رأينا الجميع يتحفّز والحسرة تّمزّقهم وهم ينتظرون صدور أوامر من القيادة العليا للمعسكر ليقفز الجميع خارج السياج للإنقاذ. ولكن لا حياة لمن تنادي .. والتحقنا بقاعات الدّروس والألم يمزّق قلوبنا. وأتذكّر أنّني أضْرَبْتُ أنا وبعض الزّملاء عن متابعة الدّرس حتّى أجْبَرْنا النّقيب الّذي كان يُدرّسنا على الدّخول معنا في حوار حول الحادث عندها طرح الجميع نفس السؤال: لماذا لم يتدخّل المعسكر لإنقاذ المواطنَيْن وخصوصا أنّ الحادث قد وقع على سياجه ولم تأت الحماية المدنية؟. فكان جواب الضّابط يحمل تعابير الحسرة وقال لنا أنّ الأمر ليس بالسّهولة الّتي تجول داخل عقولنا البريئة. ثمّ ذهب إلى الباب فأحكم غلْقه بعد أن ألقى نظرة خارج قاعة الدّرس، ثمّ قال لنا إنّه متأكّد كلّ التّأكّد من أن ضابط الدّوام المشرف على الحراسة بالمدرسة العسكرية قد قام بعمله ولا شكّ من إعلام قيادته العليا بما حدث وممّا لا ريب فيه أنّه قدّ أعدّ قوّة للتّدخل . لكن.. أردف النقيب: لكيْ يتدخّل العسكر خارج سياجه فاعلموا يا أبنائي أنّه لابدّ من مرور التقارير عن الحادث وتفاصيلها والأجراءات لمجابهة الطّارئ صعودا بسلسلة من المكاتب والمسئولين ابتداء من معتمد الجهة والكاتب العام للولاية ثمّ الوالي ثمّ الوزارة الفولانية والوزارة الفولانية حتّى يصل الأمر لرئاسة الجمهورية ثمّ هكذا نزولا. وأخيرا علمْنا اختصارا أنّ جيْشنا يئنّ تحْت بيروقراطية مَقيتَة مفْروضة عليه استغلالا لانضباطه الأعْمى واستخفافا به لطاعته والتزامه باختصاصه. ولعلّ الآن يكون التونسيون قد أدركوا لماذا لم تقُم المضادّات الجوية حتّى بمناوشة الطّائرات الإسرائيلية الغازية يوم استهْدفت القيادة الفلسطينية بحمّام الشّطّ. تذكّرت تلك الحادثة وأنا أرى مؤسستنا العسكرية هذه الأيّام تُستعمل في غير المهمّة الّتي جُعلت من أجلها... إنّها تُستعمل اليوم لقمع الشّعب كما استُعملت من قبل. الخطّة الآن المضادّة لغضب الشّباب المُعتصم بالقصبة وباقي السّاحات داخل تراب الجمهورية، هي مجابهتهم بفرق أطفال بورقيبة المجهولي النّسب، المرضى بالسّادية الماسوشية والرّغبة في الاغتصاب والمفسدين في الأرض وتسليطهم عليهم بكلابهم المسعورة ليسومونهم سوء العذاب ثمّ يُعبّئونهم في شاحنات الجيش وإرسالهم إلى المُعسكرات الصّحراوية. هذه هي مُهمّة الجيش الآن تحت حكم قائد السّبسي لا أكثر ولا أقلّ من ذلك. الذّاكرة العمومية للتّونسيين تحملنا إلى شتاء 1966 وعمري آنذاك سنة واحدة حيث شهِدَتْ الجامعة التّونسية أحداثا طُلاّبية معروفة فقام بورقيبة بقمعها وإرهابها وتمّ تجنيد تسعة طلبة منهم وقتها لقلّة عدد الطلبة كان من بينهم السّياسي المعروف خميس الشّماري و أيضا صالح الزغيدي النّقابي والناشط السّابق في قضايا حقوق الإنسان. وكان وقتها قائد السّبسي هذا وزير للدّاخلية عند بورقيبة وهو الّذي جاء ببدعة التّجنيد للمتظاهرين. الذّاكرة تحملنا أيضا إلى حقبة تبدأ منتصف الثّمانينات حين تأسس "الاتّحاد العام التّونسي للطّلبة " الّذي تبنّى قضايا الطّلبة الّذين ناضلوا من أجل حرّيّة العمل السّياسي و النّقابي و الثّقافي في الجامعة وكانت أحلامهم أكبر حيث حملوا همّ الأمّة التونسية بأكملها والعربية والإسلام. فواجهتهم الدّولة البورقيبية بشتّى المصائب من ذلك تسليمهم كلّ مرّة للجيش التّونسي ليتعامل معهم وكان زبانية بورقيبة قد حفظوا الدّرس وأتقنوا هذه التّقنية فاستعملوها لمّا انقضّوا على الحكم فيما بعد وفي شتاء سنة 1990 كنّا وقتها تحت حكم بن علي وكنت وقتها في الجنوب التّونسي بمدينة ڤبلّي حيث كنت في مكان غير مكاني حيث أنّ اختصاصي (قُوّات خاصّة) لكنّني أرسِلتُ هناك عقابا لأنّني أصلّي وأدعو جنودي وزملائي للصّلاة. وقد حدثت الاضطرابات الطّلاّبية المعروفة و شُنّت اعتقالات بالجملة حيث بلغتْ في ليلة واحدة بين 500 و 600 مُعتقل سُلّمُوا لنا لنذهب بهم إلى الصّحراء في (رجيم معتوق) و (قرعة بوفليجة) بالصّحراء وقد أرادوا أن تُطْلَقَ أيدينا فيهم وقيل لنا لِيَمُتْ من يموت، ومن أراد الفرار وذهب في الرّمال فلا تتّبعوه حتّى يهلك عطشا في الصّحراء، وكأنّ السّياسيون يظنّون أنّنا مثل فرق (البُوبْ) و أطفال الزّنا من البوليس السّياسي منزوعي الأخلاق نتدرّب داخل ثكناتنا على الاغتصاب ونزع الاعترافات الكاذبة. الزّمن يدور ويعود الباجي السّبسي ليُعيد الكرّة ويستعمل ثكنات الجيش كمعسكرات تعذيب للمحتجّين المناضلين من أجل عزّة الشّعب. لا يوجد جيش يُضاهي جيشنا في الانضباط والتّفاني فمتى يُحترم وتُرفع عنه التّبعية والتّهميش. وإلى لقاء قادم مخلوف بريكي عنصر سابق في القوّات الخاصّة