صلاح الدين الجورشي - تونس الربيع العربي تفسده من حين لآخر سُحب داكنة وأمطار متفرقة، وأحيانا زوابع رعدية وصواعق خلفت وراءها ولا تزال ضحايا كثيرة في الأرواح وخسائر مادية. وإذا كان الإنتقال الديمقراطي في كل من تونس ومصر يمرّ بصعوبات حقيقية جعلت الشعبين في قلق متجدد، فإن الأوضاع في ليبيا واليمن وسوريا تتسم بشدة التعقيد وبكلفتها العالية. إنه المخاض العربي الصعب تتقاطع حلقاته في مفاصل مشتركة، وتبقى الخصوصيات المحلية هي المحددة للمسارات والتداعيات. في الوقت نفسه، يتابع مئات الملايين من المواطنين العرب بكثير من الغضب والدهشة الشراسة التي كشفت عنها أنظمة الحكم بالعالم العربي، واستعداد ما يُطلق عليهم "القادة العرب" لاستعمال كل وسائل الإرهاب والقتل والتدمير من أجل البقاء على حساب حقوق شعوبهم في الحرية والإختيار. كما أن الأخبار التي أصبحت متداولة بين الجميع حول حجم فساد الفئات الحاكمة وحواشيها، والبنية العائلية لأنظمة الحكم، جعلت شعوبا عربية بكاملها تعتبر أنها محكومة بدول فاسدة بامتياز، وقامعة إلى حد العظم. مع ذلك، فإن المشهد الراهن للثورات العربية متفاوت من حالة إلى أخرى. تونس.. شكوك وضباب ففي تونس، يلاحظ بأنه كلما طالت حالة غياب الشرعية إلا وصاحب ذلك اضطراب سياسي وأمني يبلغ أحيانا درجة الخطورة، ويفتح المجال للحيرة العامة والخوف من وجود أطراف قد تصبح قادرة على فرض أجندة متناقضة مع خارطة الطريق التي تم التوافق عليها خلال الفترة القليلة الماضية. وبالرغم من أن موعد فتح باب الترشحات لانتخابات المجلس التأسيسي يحل بعد أقل من شهر ونصف، إلا أن أصواتا بدأت تتصاعد هنا وهناك تثير الشكوك حول احتمال تأجيل موعد الإنتخابات المقررة ليوم 23 أكتوبر القادم. هذه الشكوك مؤسسة على ثلاث مؤشرات: أولا: استمرار الأزمة داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، وذلك بعد أن قرر حزب حركة النهضة الإنسحاب منها إلى جانب حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وآخرين. لقد أخفقت الجهود التي بذلت من أجل تطويق الخلاف، بما في ذلك المسعى الذي قام به السيد الباجي قايد السبسي، وهو ما زاد في تشخيص الخلافات وتسميم الأجواء، وأضعف من قدرة الجميع على تحقيق التوافق الأدنى بين مختلف الأطراف. ويُخشى في هذا السياق أن تنهار هذه الصيغة التوافقية التي مكنت طيلة المرحلة الماضية من إيجاد حالة من التوازن الهش بين الحكومة والمعارضة. ثانيا: ارتبطت أزمة الهيئة العليا بقرار اتخذته بعض الصفحات التونسية على الفايسبوك وأيدته بعض الأحزاب السياسية والقاضي بتنظيم ما أطلق عليه تسمية "اعتصام القصبة 3" الذي كان يفترض أن ينطلق يوم الجمعة 15 يوليو، من أجل ممارسة الضغط على الحكومة، واحتجاجا على ضعف أدائها ومطالبتها بمراجعة تعيين بعض الوزراء. لكن هذه المبادرة لم يكتب لها النجاح بسبب عاملين أساسيين، وهما من جهة إحجام أطراف عديدة عن المشاركة لأسباب سياسية وأخرى تتعلق بعمومية المطالب التي رفعت، والعنف المفرط الذي قامت به قوى الأمن من أجل تفريق المعتصمين من جهة أخرى. وهو العنف الذي أثار ردود فعل واسعة في مختلف الأوساط السياسية والحقوقية. ثالثا: على إثر ما حدث بساحة القصبة، وبالأخص إقدام قوات الأمن على انتهاك حرمة أحد المساجد بقذف المعتصمين داخله بالقنابل المسيلة للدموع، اندلعت أحداث عنف متفرقة بعدد من البلدات التونسية، مما أدى إلى سقوط طفل بمدينة سيدي بوزيد والإعتداء الشديد على بعض من أعوان الأمن، وحرق مقرات أمنية ومؤسسات إدارية واقتصادية بمناطق أخرى. ورغم أن هذه الأحداث اكتست في غالبها طابعا إجراميا، إلا أنها زادت من حالة الاحتقان السياسي، خاصة بعد أن اتهم الوزير الأول أحزابا لم يُسمّها بمحاولة تعطيل العملية الإنتخابية. وهو ما جعل الكثيرين يعتقدون بأن الخلاف مع حركة النهضة لم يعد مقتصرا على رئاسة الهيئة العليا أو مجموعات اليسار، وإنما اتسع ليشمل أيضا الحكومة ورئيسها الباجي قايد السبسي. في هذه الأجواء المشحونة، ومع بطء عملية تسجيل الناخبين في القوائم الإنتخابية، هيمنت على الساحة التونسية أحاسيس متناقضة، لكنها زادت بالتأكيد من حجم الإرتباك التي يُعاني منها التونسيون منذ فرار الرئيس السابق، وأضعفت من حماسهم وانخراطهم الجدي في عملية الإنتقال الديمقراطي. مصر: مخاوف من الجيش والإسلاميين هناك نقاط تشابه كثيرة بين الحالة المصرية والحالة التونسية، سواء من حيث بطء التغييرات، أو ضعف الحكومة، أو هشاشة الوضع الأمني والإقتصادي. لكن الحالة المصرية تتميز بالدور المحوري الذي تقوم به المؤسسة العسكرية في ضبط وتيرة الإنتقال الديمقراطي في البلاد. ويبدو أن هذا الدور قد أخذ يثير مخاوف لدى القوى السياسية الثورية العلمانية، التي أصبحت تخشى من وجود خطة ترمي إلى احتواء الثورة من المجلس العسكري لاستمرار هيمنة الجيش على السلطة في مصر. وتمتزج هذه المخاوف مع توجس متزايد لدى هذه القوى من تزايد حجم انخراط معظم الفصائل الإسلامية في الشأن السياسي، بما في ذلك جناح من السلفيين اختاروا تأسيس حزب أطلقوا عليه اسم "حزب النور"، بل إن التيّار الصّوفي، الذي كان من قبل أبعد ما يكون عن العمل السياسي، قرّر هو أيضا أن يحتل موقعا في المشهد السياسي الجديد. هذا التحول في مواقف الأطراف الدينية زاد من حجم مخاوف العلمانيين من هيمنة محتملة للإسلاميين على السلطة والفضاء العمومي. وهو ما زاد في تغذية الإنقسام حول أولويات المرحلة الإنتقالية، خاصة فيما يتعلق بالدستور. ولا شك في أن وجود مصر على خط التماس مع إسرائيل من شأنه أن يفسر حجم العقبات الإضافية التي ستواجه الثورة المصرية خلال المرحلة القادمة. ليبيا : سيناريو الإستمرار إلى النهاية في ليبيا يبدو الوضع مختلفا تماما حيث تقف الثورة الليبية في منتصف الطريق. فهي لم تتمكن من حسم الموقف العسكري لصالحها بعد أن أثبت نظام القذافي قدرته على الصمود طوال الفترة السابقة، رغم الخسائر الكثيرة التي منيت بها الكتائب المسلحة التابعة له. اتضح أن الدولة الريعية تملك القدرة على شراء الذمم وإطالة الأزمات من خلال تحكمها في مدّخرات الوطن، كما أن القذافي قادر على تدمير ثلثي ليبيا مقابل البقاء في السلطة مدة أطول. أما الغرب، فيبدو أنه يلعب في ليبيا لعبة مُزدوجة في انتظار أن ينهار البلد بكامل أجزائه، وتأتي ساعة الحقيقة والمحاسبة، لكن الليبيين لم يعُد لهم اختيار آخر غير مواصلة الحرب حتى ينهار ما تبقى من أركان النظام. ويبدو أن الأسابيع القادمة ستكون حاسمة. اليمن: هذا البلد المُعلق اليمن تحول إلى بلد مُعلق. فلا النظام بقي قادرا على إدارة شؤون البلاد، ولا قوى الثورة تمكنت من حسم الصراع نهائيا لصالحها. لم يبق لعلي عبد الله صالح إلا رهان وحيد وهو جرّ اليمنيين إلى حرب أهلية، وذلك من خلال الدفع في اتجاه عسكرة الثورة، ظنا منه أن ذلك من شأنه أن يثير مخاوف شرائح واسعة من شعبه، وأن يدفع بالقوى الإقليمية والدولية نحو مساندته بحثا عن الإستقرار بحجة أنه سيكون الأكثر قدرة على الإنتصار في أي نزاع مُسلح بين الدولة والشعب، بفضل الأجهزة العسكرية المتعددة والتي يقودها أفراد أسرة الرئيس صالح. سوريا: هل تسير نحو السيناريو الليبي؟ أخيرا توجد الثورة السورية في مفترق طرق. فهي وإن كشفت عن إرادة فولاذية لمواطنين عزل قرروا التمرد على نظام حكم البلد بيد من حديد، وضمنت من جهة أخرى هذا الإمتداد الجغرافي الذي يكاد يشمل كل المدن السورية، إلا أن ذلك لا يعني حتى الساعة أن نظام دمشق قد أصبح على شفا جرف هار. فحالة المواجهة لا تزال في بدايتها رغم مرور ثلاثة أشهر على اندلاع الثورة. كما لا يزال النظام السوري يتمتع بقدرة واسعة على البقاء وضمان الإستمرارية بوسائل متعددة، وفي المقابل يُصرّ الشعب على المقاومة، لكن إلى متى سيتمسك السوريون بالمنهج السلمي؟ ومن جهة أخرى، فمن شأن موقع سوريا الإستراتيجي أن يغدذ التنازع الداخلي، ويزيد من حجم الأطماع الدولية والإقليمية. هذا حال الثورات العربية، لم يسلم أي منها من مخاطر داخلية وأخرى خارجية، كما أن جميعها، بما فيها تلك التي سقط فيها رأس النظام لم تتضح بعد معالم الطريق التي من شأنها أن تساعد الشعوب على قطع خط الرجعة نهائيا بوجه قوى الردة والإلتفاف والإرتكاس إلى الوراء. لكن مع كل هذا الحجم الكبير من الخسائر المادية وفي الأرواح البشرية، فإن الشعوب العربية - وبدون أي استثناء - لم تعد مستعدة للعودة إلى الخلف رغم صعوبة المخاض، أو هكذا تبدو الصورة في اللحظة الراهنة.. على الأقل.