تفجرت الثورة في أقطارنا العربية، دون اصطناع ولا مخطط مسبق، نابعة من إحساس بالظلم تراكم عبر العقود وإرادة في التغيير فاجأت كل مثقفينا، بل كل مثقفي العالم ومحلليه،(عدا بعض المؤمنين بإرادة الشعوب) وكانت بدايتها في تونس سلمية نجحت بقدرة قادر في ظرف وجيز في إسقاط رأس النظام. وامتدت سريعا إلى مصر حيث اكتمل المثال بعد الاستفادة من التجربة الأولى، ومنها إلى اليمن وليبيا وسوريا. كل ذلك وعين الغرب على الأحداث تصل ليلها بنهارها لا تريد لزمام الأمور أن ينفلت من قبضتها وهي التي رعت، من قبل، الأنظمة الفاسدة المستبدة خوفا على مصالحها. والدافع نفسه دعاها للحضور بقوة حتى تتمكن من ترتيب الأمور لفائدتها. في تونس، أيا كان سبب ما وقع، انقلاب الثورة المضادة على الثورة أو نجاح الثورة، فإن الغرب قد سارع، رغم وقوفه إلى جانب الطاغية إلى آخر لحظة، إلى التدخل غير المباشر معتمدا على بعض الرموز التي تكفل له هيمنته، لذلك لم يتمّ أمر في البلاد إلا وفق ما يريد وليس وفق ما يريد الشعب الثائر تحت غطاء العدالة الانتقالية والخوف من الفراغ السياسي. وانتهى هذا التدخل بإغراق البلاد في الديون التي ستلزم كل من سيحكمها مستقبلا باتخاذ السياسات الغربية المفروضة. وفي مصر، أمسك الجيش بزمام الأمور لإيجاد حل بين إرادة الشعب في التغيير وإرادة الغرب في ألا تسير الأمور على غير ما يريد، وعلى رأس المسائل اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر، حيث سارع الجيش المصري من البداية إلى التأكيد على الالتزام بكل المعاهدات. ولكنه في المقابل سارع إلى فتح معبر رفح تأكيدا على ما نرى في هذه المعادلة من وقوفه( الجيش) بين الإرادتين( الشعبية و الغربية). ولا يزال التدافع في البلدين على أشده بين الثورة والثورة المضادة، وحالم من يظن أن الثورة قد أنجزت في كليهما. فما هي إلا بداية، هي في الحقيقة أيسر مما ينتظر الثوار حاضرا ومستقبلا. قد تتشابه الثورتان التونسية والمصرية، دون إنكار لبعض الخصوصيات، ولكن الاختلاف ماثل حقا بينهما معا وبين ما يحصل في ليبيا. الاختلافات الموضوعية: - إذا قارنا النظام الليبي القائم منذ 42 عاما و النظامين التونسي والمصري نلاحظ دونما عناء فرقا شاسعا فإن كان في القطرين الأخيرين ملامح دولة حديثة وإن شابها الفساد والاستبداد ، كان الغياب علامة بارزة لهذه الملامح في ليبيا. قد يكون هذا القول متسما بالمبالغة، ولكن نسبة الصحة تبقى عالية، بل إن القذافي قد دعا في كثير من خطاباته إلى حل الإدارة. وانتهى به "التنظير الثوري" إلى الدعوة إلى إلغاء المدارس والمعاهد والجامعات. من هنا يتحول الشعار الخالد للثورات العربية " الشعب يريد إسقاط النظام" في ليبيا إلى "الشعب يريد بناء النظام". - وصل القذافي سنة 1969 إلى الحكم بعد انقلاب عسكري يسميه ثورة على النظام الملكي لعائلة السنوسي، وبرر شرعية حكمه بكونه قائدا لهذه "الثورة"، بل سعى إلى أن يستمد رمزية عربية بعد أن لقبه عبدالناصر ب"أمين القومية العربية"، لذلك كله يحاول دائما أن يبرز نفسه مختلفا عن مبارك وبن علي فما هو برئيس خاصة إذا اعتمد على "نظريته الرائدة" في أن الشعب هو الذي يحكم نفسه بنفسه وما هو إلا قائد ثورة لا دور له في عملية الحكم. ورمز لا يمكن بحال من الأحوال أن يسقط عليه ما يوصف به غيره. ويتضح بذلك ما يمكن أن نسميه بالتوصيف المغلوط في الحالة الليبية. وإن كان هذا التوصيف موجودا في الحالتين التونسية والمصرية حيث ادعاء الديمقراطية في واقع استبدادي مقيت. ولكن يبقى الأمر في ليبيا أكثر تزييفا وتحريفا. - إن الإدعاء عند القذافي غير حديث بل عرفناه منذ زمن يتبجح بكونه ضد الامبريالية العالمية و ساع إلى محاربتها وداع إلى الوحدة العربية سيما وهو "أمين القومية" و مبشر بالاشتراكية والنظرية العالمية الثالثة. وسرعان ما سقط هذا القناع ، بداية بسقوط العراق واعتقال صدام ثم إعدامه حيث سارع العقيد إلى تسليم أسلحته وفتح أبواب ليبيا أمام الامبريالية، وحدث ولا حرج عما دار في كواليس سياسته. ولا أبشع من كونه اليوم يقتل أبناء شعبه بسلاح إسرائيلي. ومرتزقة مدربة كان يجهزها للجارة تونس انتصارا لصديقه المخلوع. - الموقع الجغرافي لليبيا بين دولتين احتضنتا بداية نجاح أول ثورتين عربيتين، ونجاح الثورة في ليبيا استكمال للحلقة الثلاثية. وهذا ما يدعو للقلق الغربي. فنجاح الثورة في هذه الأقطار الثلاثة مجتمعة قد يؤدي إلى الاتفاق فالتنسيق فالاتحاد بين هذه الأقطار وإن في المواقف، فضلا عن المبادلات التجارية. وسياسة الغرب داعمة للفرقة التي تساعده على الهيمنة وجني الثمار. - ليبيا ليست تونس ومصر، هذا ما قاله نجل القذافي، نعم اللعاب الغربي لا يسيل على زيتون وبرتقال وتمر تونس، ولا على القطن والموز والتفاح المصري. لأنه لا يسيل إلا على موائد البترول الشهية، وإن كان غير مفرط في مصالحه المدافع عنها كما أشرنا بكل شراهة وشراسة في هذين القطرين، فإن تدخله في ليبيا سيكون أكثر مكرا و شراسة. لضمان نصيبه في النفط الليبي. لذلك منذ صدر قرار الأممالمتحدة عدد 1973 والقاضي بالتدخل لحماية المدنيين الليبيين، حتى وجدنا قوات النيتو هي التي تقوم بالمهمة. وليس قوات الأممالمتحدة. لقد خرج الليبيون، كإخوانهم، في بداية الأمر في مسيرات سلمية، و لكن رد القذافي تجاوز مراحل الهراوة والغاز المسيل للدموع ليرد على الهتاف بالرصاص والاعتقال العشوائي والاغتصاب وهتك الأعراض، في جنون وهيجان ضد كل مناد بالحرية والكرامة والديمقراطية، بل إن الرصاص في ليبيا لم يفرق بين كبير و صغير، ولا بين رجل أو امرأة. في الشرق سرعان ما حرر الثوار بنغازي والبيضاء وطبرق بانضمام فرقة الصاعقة إليهم وتمكنوا من بعض مخازن الأسلحة والذخيرة وتحولت الثورة إلى طور التسلح، بعد أن فرض عليها فرضا، ولا ندري هنا هل كانت نية مبيتة من القذافي أم ظن أنه قادر على إخمادها بقوة السلاح؟ وأمام انعدام التوازن في ميزان القوى تعالت الأصوات بضرورة التدخل الأممي. وكان القرار 1973 وجاء النيتو بطائراته ورحب الثوار. وهنا ستحاصرك الأسئلة أيها العربي المسلم، ما موقفك من هذا الواقع الليبي اليوم؟ أي موقف نتبناه حين يخيروننا بين الدكتاتورية والتدخل الغربي لمص الدماء والثروات وقتل التحرر والثورات؟ نحن ضد كل دكتاتور ملتصق بكرسيه، قامع لشعبه، رافض للحرية، مصاص دماء، سارق خيرات بلاده، ومع حق الثوار الليبيين في تحرير ليبيا من براثن القذافي، ولكن أي معنى لهذا الغربي المترصد بنا، الوصي علينا، أي مصير ينتظر الثورة الليبية بعد سقوط الطاغية؟ كيف يمكن لدولة ليبية جديدة ناشئة أن تقرر ما يريده الشعب بعيدا عن اليد الغربية المترصدة؟ أم يصدق القول العربي في هذه الحالة الليبية نحن أمام حلين أحلاهما مر؟ إما القبول بالقذافي وبالتالي استمرار الظلم والاستبداد والفساد، أو القبول بالمعونة الغربية تحت غطاء الأممالمتحدة و من ثم التدخل في شؤون البلاد وإن باستنزاف ثرواتها فضلا عن قبول أجندة النيتو و سياساته تكريما لوقوفه "التاريخي"؟