تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شبهات حول الإسلام وأخرى حول حركة النهضة
نشر في الحوار نت يوم 14 - 09 - 2011


شبهات حول الإسلام وأخرى حول حركة النهضة
قال تعالى : „ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا “. الإسراء 36.
وقال صلى الله عليه وسلم : „ طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب “. وليس في أي رواية ( ومسلمة ) ولكن وضعها المتأخرون لتأكيد فرضية العلم وطلبه على المسلمة كذلك بسبب ما ران على منزلة المرأة من دخن. أخرجه إبن ماجة وغيره عن أنس.
قصة هذه الموعظة.
كتبت موعظة قبل يومين أو ثلاثة وكان موضوعها : أنى لحركة النهضة وهي حركة إسلامية أن ترأس بعض قوائمها الإنتخابية إمرأة سافرة والمقصودة هنا هي الدكتورة سعاد عبد الرحيم المناضلة السابقة بالإتحاد العام التونسي للطلبة. ولما كنت بصدد تجهيز الموعظة إلى الإخوة في الحوار.نت لنشرها دخلت علي فتاة ألمانية في مقتبل العمر وهي تسأل بحرقة طالب العلم ( يقول عنه عليه الصلاة والسلام :منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب دنيا) عن معنى الهداية في الإسلام. تقول الفتاة الألمانية : أنا لا أومن بأي دين ولا أنتمي إلى إي دين ولكني قرأت القرآن الكريم كاملا أي بالألمانية لأنها لا تعرف لغة غيرها فوجدت فيه مواضع لا حصر لها تعلن كلها أن الهداية ( حق مطلق ) من حقوق الله تعالى فهو الذي يهدي من يشاء. تسأل الفتاة : إذا كانت هدايتي بيده هو فما هو دوري في العملية إذن؟
عندها بادرت إلى جمع الموعظة من جزءين : جزء يتعلق بالمرأة في حركة النهضة وجزء يتعلق بالمرأة أو الإنسان بصفة عامة في الإسلام. الموضوعان متلازمان. هذه مرأة وتلك مرأة. وهذه حركة إسلامية وذلك هو الإسلام الذي يعلن كتابه أن الهداية بيد الله.
أنى لحركة إسلامية أن ترأس قائمتها الإنتخابية إمرأة سافرة؟
طرحت السؤال سيدة فاضلة في سهرة كان موضوعها التحضير لإنتخابات المجلس التأسيسي الوطني التونسي في 23 أكتوبر المقبل إن شاء الله تعالى. إذا قلت أن السؤال مطروح في الوقت الضايع ما جانبت صوابا بسبب أن المعروف عن أبناء وبنات حركة النهضة التونسية هو نضجهم الثقافي ورشدهم الديني بما وصلوا من خيارات الأصل بضرورات العصر. ولكنها ركسة إلى وهدات الأمية الدينية بسبب هجران طلب العلم وفاقد الشيء لا يعطيه كما قالت العرب بحق. وإذا قلت أن السؤال مطروح في وقته المناسب ما جانبت صوابا كذلك بسبب أن الشبهات حول الحركة بل حول الإسلام ذاته حركة سليلة عقود الجمر الحامية التي إهتبلها الإستبداد في تونس للتنفير عن الحركة وعن الإسلام وربما يكون السؤال مناسبة لمزيد من نفض الغبار عن هوية الإسلام وهوية الحركة فما لاقى مقاوم شرا قط إلا قلبته بركة مقاومته خيرا أبدا. تلك سنة من السنن الماضية.
الدليل الأول : مستويات التشريع في الإسلام ثلاثية الأبعاد.
هذا دليل من القاموس الأصولي وعلى طلبة العلم أن يبدؤوا به حتى يغرسوا الفقه الواعي الصحيح فيهم وفي الناس من حولهم في تربة مناسبة وعمق موات بمثل ما يفعل الفلاح الذي يختار لجذر شجرته خير الأرض. مستويات التشريع في الإسلام لها زوايا نظر كثيرة. ما يهمنا هنا هو هذه الزاوية من النظر : مستويات التشريع هنا ثلاثية الأبعاد وهي : الإخبار بمثل حال العقائد وما يتعلق بالغيب بصفة عامة. والإنشاء بمثل ما يتعلق بالعبادات وما في حكمها. والإقرار بمثل ما يتعلق بما عدا ذلك أي بأكثر المعاملات بين الناس في شتى الحقول. الموقف حيال الإخبار موقفان لا ثالث لهما : إما التصديق أو التكذيب. الموقف حيال الإنشاء موقفان لا ثالث لهما : إما الطاعة أو المعصية. الموقف حيال الإقرار لا هو ذاك ولا هو ذلك. الموقف هنا مزدوج يحتمل مواقف كثيرة : أحيانا يكون الموقف مترددا بين العدل وبين الجور وأحيانا يكون الموقف مترددا بين المصلحة وبين المفسدة.
ترؤس سيدة سافرة لقائمة إنتخابية لحركة إسلامية يندرج ضمن مستوى الإقرار بما يقتضي التردد بين المصلحة والمفسدة أو بين العدل والجور ذلك أن مستوى الإخبار لا يخبرنا عن حكم ذلك ولا مستوى الإنشاء يخبرنا عنه. ذانك مستويان يخبراننا عن الحلال والحرام في الإسلام. أو قل بتعبير أدق : عن الحرام في الإسلام لأن الحلال ليس متعينا حتى يخبر عنه دين إلا فيما دق وهو قليل من قليل من قليل.
الدليل الثاني : مستويات الفقه في الإسلام رباعية الأبعاد كذلك.
هذا دليل من القاموس الفقهي وعلى طلبة العلم حشره بإزاء الدليل الأول ليكتمل المشهد. قوام هذا الدليل هو أنه على طالب العلم إذا أراد أن يتعرف على حكم شيء فما عليه أولا وقبل كل شيء إلا أن يحدد الحقل الذي ينتمي إليه ذلك الشيء. المسألة شبيهة جدا بل هي نفسها في النظر المنهاجي بمن يبحث عن موقع مدينة أو قرية فوق الأرض. أليس عليه أن يعرف موقع المدينة من الأرض : شرقا أم غربا أو شمالا أم جنوبا؟ إذا حدد ذلك أليس عليه أن يعرف القارة ثم البلاد ثم موقعها من تلك البلاد وهكذا كلما إقترب من الإتجاه الصحيح إقترب من تحديد موقع تلك القرية. هذا أمر يدركه من يستخدم أدلة الخرائط والطرقات الموجهة بالأقمار الصناعية (navigationsystem). ذلك أن الأمور والأشياء في الحياة متشابكة تشابكا لا يدرك ولا يحصى بمثل تشابك الطرقات الجانبية والفرعية الصغيرة جدا في مدينة حاضرة مأهولة من مثل : نيويورك مثلا أو بيجين أو نيودلهي أو بمثل تشابك الجهاز العصبي في الإنسان. ذلك هو ما يتعلمه الطبيب الذي يؤهل لإجراء عمليات جراحية على المخ و ما يتعلمه الطيار. تلك هي فلسفة التشريع الإسلامي من زاوية نظر محددة. مستويات الفقه هنا رباعية وهي : العقليات والمحسوسات والمرويات والملهمات. إذا أردت أن تعرف هل أن الله موجود مثلا أم لا فإنك تقبل على حقل العقليات ولو أقبلت على حقل المحسوسات أو المرويات أو الملهمات ما ظفرت بشيء من ذلك إلا إستئناسا بعيدا قد لا يسمن من جوع ولا يغني . لأنه سبحانه ببساطة شديدة لا يقع تحت طائلة حواسنا المادية. المرويات وحدها هنا لا تكفي لأن المرويات ذاتها سيما القرآن منها يحيلك مباشرة إلى العقليات ولك أن تفتح الآن أي صفحة من الكتاب العزيز فتحا عشوائيا لتجد أن الكتاب الذي أقبلت عليه ليرشدك إلى الله سبحانه يحيلك مباشرة إلى النظر في الكون ( سماء وكواكب أو أرضا وموجودات إلخ..) وذلك بغرض التعقل والتفكر والتأمل والتدبر لأن ذلك الحقل وهو عقلي بإمتياز شديد هو الكفيل بالإجابة الصحيحة. ألم يقل سبحانه : “ أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة”.أي إحالة إلى العقليات. هل قال مرة واحدة : ناموا وسأقذف في روعكم أني هنا. أو قال : إستمعوا إلى فلان فإنه سيخبركم عني. أو قال :إلتمسوني بحواسكم.
في أي حقل نجد قصة سعاد عبد الرحيم مع حركة النهضة؟
طبعا لن نجد الحل في الإلهامات ولن يتجرأ كاذب بقوله إنه رأى محمدا عليه الصلاة والسلام في نومه وأشار عليه برئاسة الدكتورة سعاد لقائمة النهضة. أغلب من ينسبون مثل ذلك إليه عليه الصلاة والسلام بل كلهم في الحقيقة إما كذبة أو سذج بسطاء لا يصلحون لمثل هذا.
طبعا لن نجد الحل في المحسوسات لأن الحس هنا لا يميز بين إمرأة وبين رجل ولا بين إسلامي أو عالماني. طبعا لن نجد الحل في المرويات لأن أحدا من الرواة لم يخبرنا عن صلاحية ترؤس الدكتورة سعاد لقائمة النهضة. لم يبق لنا إذن إلا أن ننشد الحل في العقليات أي تقليب المصلحة من المفسدة والعدل من الجور في المسألة. من ظفر بحقل آخر جديد بعد حقول العقليات والمرويات والمحسوسات والإلهامات فليدل به لعله يحدث معجزة الإجتهاد التي تقلب العلم رأسا على عقب. دعك من ذلك وصن عقلك ولا تكلفه ما لا يطيق فهو مخلوق مثلك له طاقة تحمل محدودة وإن كانت واسعة جدا لم نستخدم منها بحسب العلماء سوى السدس أو نحوه.
الخلاصة حتى الآن هي إذن.
1 المسألة لا تخضع لميزان الحلال والحرام ولكن تخضع إلى ميزان المصلحة والمفسدة أو العدل والجور بسبب أنها معاملة هي معاملة سياسية هنا وذلك هو مبنى المعاملات بخلاف العقائد والعبادات.
2 المسألة إقرارية من جانب وعقلية من جانب آخر أي أن الإجتهاد يثبتها بحسب المعروف بين الناس عرفا إذ ليس لنا فيها لا خبر قاهر ولا عبادة ثابتة موقوفة بمثل أن ذلك الإجتهاد ذاته يثبتها بحسب ما تؤول إليه العقول إذ لا يمكن حسمها لا بالحس ولا بالمروي ولا بالرؤى والإلهامات.
الدليل الثالث : المسكوت عنه يجتهد فيه بحسب المصلحة والحاجة والضرورة.
أصل هذا الدليل وهو دليل ينتمي شطره إلى الأصول من جهة بمثل ما ينتمي شطره الآخر إلى الفروع من جهة أخرى هو قوله عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح للدارقطني :” إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها”. المسألة هنا مسكوت عنها قطعا وهل يجرؤ واحد منا أن يقول عليه سبحانه بغير علم ليدعي أن المسألة فريضة أو هي حد أو حرام؟ الحدود على ندرتها لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة متعلقة كلها عدا واحدة منها بالأسرة والمرأة. أما قائمة المحرمات فلم تترك حتى لسنة إلا تأكيدا أو بيانا بتقييد مطلق أو بتخصيص عام أو بتفصيل مجمل بل دونت كلها في الكتاب العزيز ولك أن تراجع أواخر الأنعام وأوائل الإسراء ونطفا أخرى متناثرة هنا وهناك في الكتاب العزيز وقليل عديدها حتى قال فيها عليه الصلاة والسلام : “ الحلال ما أحله سبحانه في كتابه والحرام ما حرم في كتابه وما سكت عنه فهو عفو لكم”. وبذا تغدو السنة هنا بالتدقيق والتحديد مكرهة ليس أكثر كلما أتت بما خرج عن دوائر التأكيد أو البيان بمختلف أنواعه آنفة الذكر.
زاوية نظر أخرى تساعد طالب العلم.
سل نفسك دوما ولكن بسرعة لا تردد فيها على نحو يجعلك السؤال أسير الجدل الفارغ. سل نفسك : هل هذا الأمر الذي أنا بصدده ليكن هذا الذي وقع بين سعاد وبين النهضة أو غيره لي فيه نص من الوحي الكريم من قرآن أو سنة؟ إن ألفيت نصا يفرض أو نصا يحرم فبها ونعمت وحلت المشكلة. فإن لم أجد أقول : هل تستوعبه بعض مقاصد الإسلام ومصالحه وهي مبسوطة كذلك في الكتاب العزيز وعلى رأسها طرا مطلقا : العدل والقسط والتعاون والتكافل والتعارف والتواصي بالحق والصبر والمرحمة والإعتصام بالوحدة وغير ذلك .. فإن إستوعبته بعض تلك المقاصد فيها ونعمت وإن لم تستوعبه وهو أمر نظري يبسط لدفع الجدل وليس حقيقة إذ أنه ما من أمر في الحياة يعرض لك إلا فيه نص مباشر أو غير مباشر أو مقصد مباشر أو غير مباشر فهل يؤول هذا الأمر الذي أنا بصدده إلى خير أو إلى شر؟ فإن كان سيؤول إلى خير بحسب التجربة أو العقل أو غير ذلك فبها ونعمت وهو محمود شرعا وإن كان سيؤول إلى شر فتجنبه أحرى. وعادة ما لا يتمحض أمر بالخير كله ولا بالشر كله في مثل هذه الأمور ولكن نحكم قالة فقيه عظيم كبير هو إبن تيمية : ليس العاقل من يدرك الخير من الشر ولكن العاقل من يعرف خير الخيرين وشر الشرين.
أي : ردد المسألة بين النص وبين مقصده أو المقصد العام وبين المآل.
موازين النظر الإسلامية إذن كثيرة وما عليك إلا معرفة الحقل الذي ينتمي إليها موضوعك.فإذا وضعت موضوعك في حقله الصحيح فإنك ظافر بالجواب الصحيح. وإن ضللت الحقل ضللت الخير ولا أقول ضللت الحق هنا لأن الخلاف هنا ليس بين حق وباطل ولكن بين خير وأخير منه أو بين شر وأشر منه.
أدلة أخرى لا حصر لها من السيرة النبوية الكريمة.
1 إذا كان عليه الصلاة والسلام قد إستأمن على أخطر رحلة تاريخية عرفتها الأرض أي رحلة الهجرة .. إستأمن عليها مشركا هو عبد الله إبن أرقط أو أريقط فإنما لأجل أن يعلمنا أن التعاون في شؤون الحياة خارج دائرة العبادة الموقوفة أمر مباح يخضع للمصالح والمفاسد والعدل والجور وليس للحلال أو الحرام. الذي جعله يفعل ذلك أمران ربما لا ثالث لهما : الأول نشدان المصلحة والعدل وهما قيمتان إنطبقتا يومها على مشرك والثاني ليعلمنا خارطة طريق الحياة فلا نحشر أنوفنا تحت أقدامنا ولكن نبسط الأبصار بمثل ما يبسطها سائق السيارة الذي لا يفتأ يجول ببصره يمنة ويسرة وخلفة وقداما ولو حشر بصره بين قدميه لداس الناس وقتل نفسه.
2 إذا كان عليه الصلاة والسلام قد إستأمن مشركا هو مطعم إبن عدي لإجارته من بطش قريش التي علمت أنه كان في الطائف يطلب نصرتها.. إذا كان قد فعل ذلك فإنما ليعلمنا أن الشؤون العامة ينشد لها الميزان الإسلامي الذي خطته إبنة شعيب عليها السلام فأضحى معيار العدل والإستصلاح : “ إن خير من إستأجرت القوي الأمين “. ذلك المشرك يومها هو أقوى من يجيره عليه الصلاة والسلام وهو في الآن ذاته أشدهم أمانة ولو وجد غيره لما مال إليه.
3 تحالفاته السياسية والعسكرية الكثيرة صلى الله عليه وسلم مع خزاعة وهي قبيلة عربية مشركة وكان الهجوم عليها من لدن قريش هو السبب المباشر في فتح مكة. ومن تحالفاته التي لم تتم بعد أن هم بها : إعطاؤه ثلث تمر المدينة ( أي ثلث ميزانية الدولة ) لقبيلة غطفان لفك حلفها العسكري مع قريش وهما يحاصران المدينة زهاء شهرين كاملين. ومنها إستلافه أسلحة من قريش وهي أم القبائل العربية المشركة التي تقف شرطيا منيعا قاسيا في شبه الجزيرة العربية للصد عن محمد ودينه عليه الصلاة والسلام. إستلف منها أسلحة لمقاومة عدو آخر هم بشن الحرب عليه.
وأدلة أخرى كثيرة لا تحصى من السيرة النبوية وهي كفيلة برسم منهاج الحياة وخارطة الطريق سيما للمقاومين والمجاهدين في شتى الحقول العسكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية بما إنطوت عليه من مقامات يستأنس بها المقاوم ليضع نفسه في المقام المناسب لحاله وعرفه ووضعه إجتهادا منه.
ختام المسك في هذه.
ختام المسك في هذه أن العقل المسلم الذي فقه التشريع الإسلامي لا يطلب صك الإباحة والحلية لما هو مباح بالأصل والضرورة ولو فعل ذلك لحول حياته جحيما لا يطاق ولشغل نفسه بما لم يشغله به الكتاب العزيز. ليعلم العقل المسلم المعاصر أن حقول النظر كثيرة منها :حقل إسمه الحلال والحرام وحقل إسمه العدل والجور وحقل إسمه المصلحة والمفسدة وحقل إسمه الخير والشر. ثم لينظر أين يبوئ مسألته فإن من يبوئ مسألته في حقل غير حقلها كمن يستأمن ولده عند مرب ساقط أو معلم جاهل أو مستأجر ظالم. عقلك أغلى عليك من ولدك قطعا لأن عقلك يربي ولدك ولا يربي ولدك عقلك على الأقل في سنوات طفولته ويفاعته وصباه.
إلى التي سألت : أين دوري إذا كانت الهداية بيده وحده.
أنفعل كثيرا كلما إلتقيت بشرا غير مؤمن يبحث عن الإسلام أو يهتم به. لم يكن ذلك حالنا في تونس بسبب عدم الإحتكاك بمثل هذه القضايا بل ربما كان بعضنا يزدريها جهلا. ألم يقل عليه الصلاة والسلام : “ لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم”. هل يدعي أخطل أن الهداية مقصورة على الرجال أو أنهم مقدمون إليها بسبب ورود كلمة الرجل هنا؟ أما علم أولئك أن العلم باللغة العربية شرط مشروط لحسن فقه الإسلام سيما لمن ينصب نفسه للناس واعظا وإماما ومفتيا وهاديا إليه بإذنه سبحانه؟ أخطاء شنيعة وقعت فيها بعض الترجمات الألمانية للكتاب العزيز وقفت على بعضها فاقعشر جلدي وقف شعر رأسي وقد نبهت إلى بعضها في مقالات سابقة. أخطاء تهدم كثيرا من قيم الإسلام وفقه الإسلام ووسطية الإسلام. أخطاء ما كان لها أن تبرز لولا تأخر العرب عن أم رسالتهم في الحياة : نقل الإسلام الذي نزل بلغتهم تكريما لهم وتشريفا ولكن بغرمهما إلى الناس أجمعين قاطبة لأنهم الأجدر بحسن فقه معانيه وأحكامه والدعوة إليه بمنهاجه. ذلك هو معنى أن العروبة والإسلام وجهان لقطعة واحدة وليس معناها العنصرية والشوفينية بمثل ما تلقي فينا القوميات الكريهة النتنة بجدبها وقحطها.
أنفعل بمثل تلك المشاهد كثيرا بسبب أن المنفعل لأجله هنا سيشهد إن شاء الله تعالى فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه أكبر نقلة في حياته وأخطرها وأي نقلة أجزل أجرا وأبقى ذخرا من نقلة تتزحزح بها عن النار مصيرا أزليا أبديا لا يفنى إلى جنة عرضها السماوات والأرض؟ لا يعني ذلك تهوينا من دعوة المسلمين إلى مزيد من الإلتزام بالإسلام عقيدة أو فكرا أو خلقا أو عبادة أو معاملة. ولكنه فرق في النوع خطير جدا وكبير جدا. كلاهما هداية ولكن شتان بين هداية من النار إلى الجنة وبين هداية من منزل في الجنة إلى آخر أعلى منه وأبهى.
هل قامت الهداية فعلا على مشيئته هو وحده فحسب سبحانه.
ذلك هو مخ سؤال الفتاة الألمانية ولا أظنه إلا سؤالا يمخض أفئدة كثيرين حتى من المسلمين بله غيرهم.
1 لم تكن الفتاة الألمانية دقيقة في ملاحظتها بسبب أمرين :
أ أولهما أن تأكيد رهن الهداية بيده وحده سبحانه وهو أمر كثير وروده هو شجرة في حقل واسع مزهر إسمه : حقل المشيئة الإلهية التي لا يعلوها شيء في الدنيا. تأكيد ذلك مرات ومرات كثيرة في القرآن الكريم لم يأت ليعدم دور الإنسان لأن دور الإنسان في الهداية سيأتي الحديث عنه بحوله سبحانه في الفقرة التالية ولكن جاء ذلك ليعلم الإنسان حقيقة الإيمان بالله وحقيقة الإعتقاد الصحيح السليم.ذلك الإيمان لا يقوم سوى على إعتقاد قوامه أن الله وحده يفعل ما يشاء وقتما يشاء وكيفما يشاء. لأنه لو قام أي فعل في الكون على إرادة أي شيء آخر لكان ذلك الشيء إلها معه سبحانه. حتى الإرادة البشرية الحرة بمثل ما سنرى في الفقرة التالية بحوله سبحانه هي حرة بمعنيين : المعنى الأول أن حريتها حرية الكفر هنا هي المقصودة وهي مضمونة في الإسلام قطعا حرية مسؤولة إذ أن كل نفس ستسأل يوم القيامة عن إختيارها. المعنى الثاني من الحرية البشرية هي أنها حرية مقيدة تقييدا لا ينال من إلهيته سبحانه ولا من هيمنته ولا كبريائه وعظمته وغير ذلك مما هو معروف من أخص خصائص أسمائه وصفاته أي الوجود والقدرة والعلم والحياة وغير ذلك. هي حرية مقيدة في حدود كونية وقدرية معلومة من مثل أن الإنسان ليس حرا في إختيار الزمن الذي يحيا فيه ولا المكان الذي يولد فيه ولا الإسم الذي يختار له ولا اللغة التي هي لغته الأم وغير ذلك مما لن يسأل عنه يوم القيامة من جهة ومن جهة أخرى لا يعضله ذلك عن إختيار الإيمان إن شاء أو الكفر إن شاء. حريته هي الحرية المقيدة التي تسبح فيها الكائنات كلها. الحرية المطلقة التي لا يحدها حد أبدا طرا مطلقا هي مشيئته سبحانه لأنه هو الخالق وحده وهو الصانع وحده وهو الرازق وحده وهو المحيي وحده وهو المميت وحده ومقتضى ذلك أن يكون هو المالك وحده ومقتضى ذلك أن يكون هو المعبود وحده لمن أراد أن يكون عقلانيا أريبا حصيفا يتبع المعطيات العلمية بمنهاج علمي خطوة من بعد خطوة بمثل ما فعل إبراهيم عليه السلام وهو ينشد الإيمان الحق والعقيدة القحة.
الخلاصة هنا هي إذن أن تأكيد مسكه الكلي الجامع بالهداية إنما يراد منه تحرير الإيمان تحريرا سليما حتى تغرس العقيدة في النفوس غرسا يانعا مثمرا إذ أن الإنسان إذا إعتقد أنه هدى نفسه بنفسه فإنه سيكون من بعد قليل إلها يعبد نفسه ولكن قام التوحيد الخالص في الإسلام على رد الأمر كله في الهداية و في غير الهداية إليه وحده سبحانه. التأكيد هنا جاء ردا على عقائد نصرانية ويهودية وشركية وأخرى كثيرة باطلة كلها. عقائد وجدت يومها ولن تزال موجودة تريد أن تجعل لها من الهداية إليه سبحانه حظا. ألا ترى أن بعض المشايخ والعلماء والفقهاء والمصلحين يريدون سرا أو جهرا اليوم أن يجعلوا من ذلك لهم حظا منا على من هداهم إليه سبحانه على أيديهم؟ ألا ترى أن بعضهم يتباهى بذلك ذكرا خفيا أو معلنا؟ ذلك هو المقصود من تأكيد إختصاصه وحده سبحانه بالهداية. لأن القلوب بيده وحده سبحانه فهو يقلبها كيف يشاء.
ب ثانيهما أن دور الإنسان محدد هنا أي في مسألة الهداية والأدلة على ذلك كثيرة في الكتاب العزيز ومنها قوله سبحانه : “ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. أليست هنا نسبة صريحة للهداية إلى الإنسان؟ هناك قال : “ يهدي من يشاء “ وهنا قال “ من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر “. أليس ذلك هو ( التناقض ) الذي وقع فيه رجل مثل بورقيبة وغيره ممن أعلن ذلك أو أسره. هو ( تناقض) دعينا إلى حسن فقهه. إذا قرأت الكتاب العزيز كله هديت إلى حل ذلك ( التناقض ) وإذا عاجلت نفسك بمشهد واحد من الكتاب العزيز ثم تواريت عنه فقد ضللت لأن نظم الكتاب العزيز ليس نظم بقية الكتب. بقية الكتب عادة ما تتحدث عن كل موضوع في فقرة واحدة أو موضع واحد. نظم الكتاب العزيز مخالف لذلك فهو يتحدث هنا عن موضوع ثم يرجع إليه في مناسبات أخرى كثيرة مرات ومرات. فمن لا يصبر على تتبع ذلك كله من ألفه إلى يائه كما يقولون فلن يظفر إلا بما ظفر به كل من الإخوان العميان الذين إجتمعوا على فيل يتلمسونه بأيديهم فلما فرغوا طفق كل واحد منهم يصف الفيل بحسب ما وقعت عليه يداه ولن يتعرف أي واحد منهم على حقيقة الفيل حتى تجتمع لديه مشاهد الإجتماع كلها. ذلك هو حال طالب العلم في الكتاب العزيز.
2 ماذا تعني نسبة الهداية إلى الإنسان إذن.
أ تعني أن الإنسان حر مختار مريد في قراره بمثل منطوق الآية بالتمام والكمال. ألا يدلنا ذلك على أن الهداية خيط يمسك الله سبحانه بطرفه العلوي ويمسك الإنسان بطرفه السفلي. إذا حرك الإنسان طرف الهداية الذي يليه تحرك طرفه الآخر فحدث التفاعل : قلب يريد الهداية وينشد لها أسبابها بمثل نشدانه أسباب الأكل إطفاء لجوعة البطن وإله كريم عظيم يريد الهداية إلى عباده كلهم أجمعين. أما إذا تحرك الطرف الأعلى الذي يمسك به الله سبحانه وهن طرف متحرك دوما بسبب قوله سبحانه : “ ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم “ ولم يقابل ذلك التحرك العلوي بتحرك سفلي من لدن الإنسان فإن الإنسان لن يهتدي لأنه لم يشإ الهداية لنفسه.
ب هما إذن إرادتان : إرادة الله سبحانه التي أرادت لكل شيء في الكون أن تكون عبادته كرها إلا الثقلين ( الإنس والجن ) اللذين كرما بالإرادة الحرة. وإرادة الإنسان التي كرم بها فإن عمل بها إلتقطته إرادة الرحمان سبحانه بحنان ولطف ليكون مؤمنا مسلما وإن لم يعمل بها تجاهلته إرادته سبحانه فظل كافرا. إرادتان تتكاملان ولا تتضادان. الله تعالى يهدي من يشاء ولكنه لا يهدي إلا من شاء الهداية. هي أسباب وسنن : من شاء الهداية مثله مثل من شاء الأكل أو الشرب أو العمل أو النكاح. أكله موجود في مكان ما وزمان ما وكذا شربه وعمله ونكاحه فإن هب إليه أناله الله إياه وإن قعد وخمل حرم منه. هداية الإنسان مكتوبة منه سبحانه على نفسه ولكنه لا يهبها إلا لمن طلبها.ليس هناك في الدنيا مخلوق طلب الهداية فلم يهد. إلا مخلوق واحد طلبها بكبر وصلف. ذلك لم يطلب الهداية تواضعا لله سبحانه بما أودع فيه من عقل يدرك لأول وهلة أنه مخلوق ضعيف جدا جدا جدا في مملكة إلهية واسعة عظيمة لا يكاد يحوز منها بصره ميلا أو ميلين. وذلك هو معنى أنه سبحانه يهدي المؤمنين ويضل الكافرين : من يقبل على الكتاب العزيز وهو ينشد الهداية والحق بإخلاص لا كبر فيه يهدى بإذنه سبحانه قطعا. أما من يقبل عليه متكبرا يبحث فيه عن الأخطاء فلن يهدى لأنه إن هدي سيظل متكبرا صلفا ولا خير في إيمان لا إخلاص فيه ولا تواضع فيه.
هذا ما قلته للفتاة الألمانية.
1 عودي إلى الكتاب العزيز مرة أخرى متدبرة متأملة لتلفي أن الهداية خط سير مزدوج الإتجاهات وليس هو خط سير أحادي الإتجاه.ستلفين ذلك مرات ومرات في الكتاب العزيز ببيان عذب جميل لا يحتاج إلى مفسر أو مؤول بل هو ناطق بذاته مبين بنفسه.
2 قلت لها كذلك : أنا الآن مسلم ولكن أشعر من أعماق نفسي أني أملك قرار الردة عن الإسلام بما لا يشاركني فيه أحد ولا يكرهني عليه أحد. أجل. أملك الآن أن أجدد إيماني ليرتفع بي في مصاف الإحسان درجات بمثل ما أملك أن أرتد عنه جملة وتفصيلا دون أي إكراه من أحد. لا يعني ذلك أني أهفو إلى ذلك ولكن يعني ذلك أن إيماني كسبي وهو ملكي وهو رأسمال أقرضنيه سبحانه فملكنيه وأكسبنيه وهو وديعة عندي إن شئت إستثمرته فيما ينفعني وإن شئت بددته فيما يضرني ويضر الناس بي من حولي. من لا يخالجه ذلك الشعور يخشى عليه أنه مستودع لرأسمال غصبا عنه فهو حمل عليه شاق أو هي ضريبة حلت به. قلت لها : الأمر بالنسبة إليك هو ذاك. إن شئت آمنت الآن وإن شئت وسعت دائرة التدبر لتفيئي من بعد ذلك إلى ما قدره لك سبحانه ولكنه قدر لك أمرا لا تعلمنيه الآن وستعلمينه من بعد الآن : إما أن يكون قد قدر لك الإيمان وهو قدر إن صح وثبت ستسعين إليه لقطفه وكسبه. وإما أن يكون قد قدر لك الكفر وهو قدر إن صح وثبت ستتحملين مسؤوليته بسبب أنك لم تسعي إلى ضده أي إلى الإيمان أو أنك سعيت إليه بكبر وصلف وتكذيب لا يخضع للحقائق العلمية. قدرك الآن مجهول عندك وعندي وعند كل أحد ولكن عملك هو الذي سيفصح عن ذلك القدر.
3 كما قلت لها : نحن مبتلون في هذه الحياة الدنيا. كل مخلوق هو مبتلى. كل مخلوق حتى ممن يعبده سبحانه كرها فما بالك بمن يعبده حرا أو يكفره حرا. قلت لها : لو هداك هو سبحانه إليك بمثل ما أخطأت الفهم نسبيا في قراءتك الأولى للكتاب العزيز دون جهد منك ولا سعي منك فإنه لن يكون للجنة التي تطئينها من بعد موتك من معنى. قلت لها : نحن في الأرض جيلا من بعد جيلا مثلنا مثل تلاميذ أو طلبة في قاعة إمتحان. لو علم التلاميذ بالأسئلة والأجوبة قبل موعدها لما كان للإمتحان من معنى ولما عاد للمنظومة التعليمية كلها من معنى بمعلميها وأبنيتها ومناهجها وموادها وإمتحاناتها وجوائزها وشهائدها. ظل كل ذلك عبثا معبوثا ولم يفرق الناس من بعد ذلك بين الطبيب الذي يستأمنونه على أبدانهم وبين الحداد الذي يدعي الطب فيهلك الأبدان من حيث أراد لها أهلها الشفاء.
4 كما قلت لها : إنه سبحانه هدانا هدايتين : هداية طبيعية أولية يشترك فيها كل الناس من مثل هدايتنا إليه بالعقل والرسل والكتب والفطرة وغير ذلك من أدوات الهداية التي لم تحجب على مخلوق سيما ممن يعبده حرا أو يكفره. وهداية أخرى لا يهدى إليها إلا من إختار طريق الهداية بحق وإخلاص وسعي وكد وجد ومثابرة وحدب وكبد. مثلت الأمر بما يلي : مجموعة من الناس كبيرة ضلت الطريق في بيداء مقفرة حتى رأوا نارا فلما ورودها طهوا وأكلوا وشربوا وهنئوا فمنهم من بعد ذلك من واصل طريقه شاكرا نعمة صاحب تلك النار الذي دلهم على منشدوهم في تلك الصحراء القاحلة ولم ينثنوا عن إتباع إرشاده ومنهم من ظل هناك يتسكع بعدما نسي أنه إنما خرج من بيته إبتغاء الظفر بضالته أو منشوده. ظل هناك حتى أدركه الموت وهو غافل عن رسالته. ومنهم من ضل الطريق مرة أخرى فلم يستمع لإرشاد صاحب تلك النار الذي يهدي الحيارى مثله وأصر على سلوك طريق آخر. قلت لها : كل البشر هدوا إلى صاحب تلك النار فأكلوا وشربوا وهنئوا وتلك هي هدايته الفطرية الأولى سبحانه لا يضن بها عن سالك. ولكن المسلم فحسب هو الذي هدي إلى سلوك طريق تبلغه ضالته من بعد ما أكل وشرب وحمد نعمة صاحب النار. هدي هداية أخرى خاصة به ليس لسواد عينيه ولكن لأنه ظفر بمن يهديه إلى ضالته فاتبع هدايته.الهداية الأولى هي هداية عقلية فطرية والدليل عليها هو أن كل مخلوق يدرك أن القتل جريمة وأن الزنى خبيث وأن السرقة حرام. الهداية الثانية هي هداية إسلامية شرعية دينية وهي هداية خاصة بمن لم يغفل عن رسالته في الحياة وإتبع في ذلك سببا. أما من غفل أو لم يغفل ولكنه لم يتبع سببا فإنه لن يهدى وهو المسؤول عن عدم هدايته.
هما شبهتان تلتقيان.
1 شبهة شغبت على بعضنا وما ينبغي أن تشغب على أبناء وبنات النهضة حتى لو شغبت على غيرهم فجعلت من ترؤس الدكتورة سعاد عبد الرحيم لقائمة إنتخابية بإسم حركة النهضة مثار سؤال يغلب عليه الإستنكار والتعجب. الذين يريدون جعل ذلك ضمن إنفتاح الحركة فحسب واهمون لأنهم يعيرون الأمر سياسيا وواقعيا فحسب وهو تعيير صحيح ولكنه ناقص. التعيير الصحيح الجامع هو التعيير الذي يؤصل للمسألة شرعيا حتى بالتأصيل الأصلي العام الذي يعرفه كل مسلم ومسلمة أي أن الحرام في الإسلام مساحة ضيقة جدا وليس على المسلم أن يقبل على عمارة الأرض وهو خاضع لسيف مسلط فوق عنقه يقول له في كل حال وأوان : إحذر الحرام هنا.. فضلا عن كون الحرام لا يطأ المعاملات إلا قليلا جدا لأن مبنى المعاملات على المصالح والمفاسد في حقل وعلى العدل والجور في حقل آخر ثم يبحث لها عن مصالحها ومقاصدها المناسبة في الواقع المعيش.
2 وشبهة شغبت على هذه الفتاة الألمانية والحقيقة أن كثيرا منا يؤثر الإبتعاد عن حسن فقه عقيدة القضاء والقدر في الإسلام وقضايا المشيئة الإلهية وإرتباطها بالحكمة دوما وأبدا والمشيئة البشرية ومسؤولية الإنسان وغير ذلك مما هو مقتول بحثا في علم الكلام بدعوى أن ذلك لا يفيد أو أنه لا يفقه حق الفقه أو أنه ليس مطلوبا بل ألفيت أن من يحشر بعض المرويات الموضوعة للنهي عن ذلك أصلا .. ليت شعري قلت إذا كان فقه الإيمان وفقه العقيدة ومكوناتها ومشاهدها وأركانها ومعانيها ومقاصدها ومصالحها .. إذا كان ذلك مكروها أو منهيا عنه فأي فقه نتعلم!!! شبهة شغبت عليها وهي تشغب على بعضنا وهو لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم فكانت حائلا دون أن تغذ الهداية من جانب الإنسان سيرها إليه سبحانه ليهدينا إليه جميعا فهو يهدي “ الذين آمنوا لما إختلفوا فيه من الحق بإذنه “ بمثل ما يهدي الإنسان غير المؤمن.
سبحان من يهدي من يشاء..
سبحان من يضل من يشاء..
سبحان من أكرم الإنسان بمشيئة الهداية ..
سبحان من قرن مشيئته بحكمته ..
سبحان من أكرم الإنسان بموازين الحق والباطل وموازين الحلال والحرام وموازين المصلحة والمفسدة وموازين الخير والشر وموازين العدل والجور ليستخدم كل ميزان في حقله المناسب.
سبحان من علم الإنسان القرآن..
سبحان من علمه البيان..
سبحان من وهبه عقلا به يعرفه وبه يعبده وبه يكرم نفسه..
والله أعلم.
الهادي بريك ألمانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.