الثورات العربية تُصالح بين الألمان والمسلمين حادثة الشربيني هزَّت المجتمع
المانيا - إسلام أون لاين الهادي بريك - عندما وقعت كارثة 11 سبتمبر ( أيلول ) 2001 خيمت حالة من الذعر والريبة على الوجود الإسلامي في الغرب بصفة عامة، وأمريكا وأوروبا بصفة خاصة. فقد شعرت المؤسسات الإسلامية في أوروبا لأول مرة منذ نشأتها قبل عقود، بأن كسبها معرض للنسف، سيما أن كثيرا من المؤسسات الإعلامية القريبة من الدوائر الصهيونية انطلقت في حملات هوجاء، لا تميز بين بريء مسالم ومشتبه فيه. بل حاولت بعض الدوائر الأمنية في ألمانيا تحريك قضايا عدلية ضد بعض رموز العمل الإسلامي، مثل الدكتور إبراهيم الزيات رئيس التجمع الإسلامي الألماني السابق، والدكتور أحمد الخليفة رئيس المركز الإسلامي بميونيخ، ولولا ما تتمتع به ألمانيا من حصن عتيد يتمثل في استقلال القضاء، للفقت ضدهما تهم مجانية في مناخ أمني دولي بالغ التوتر. ولم يكن يسع الدولة الألمانية يومها، سوى أن تكفر عن نفسها بذلك وبغيره، بسبب انطلاق ما يسميه تنظيم القاعدة "غزوة نيويورك" من أشهر مدينة ألمانية معروفة بمرفئها الصناعي الكبير مدينة هامبورغ ذات الصيت السياحي المعروف. كما خضع الأجانب بصفة عامة، والمسلمون منهم بصفة خاصة، إلى إجراءات استثنائية كاسحة تعرض إقاماتهم الإدارية إلى الحد من الصلاحية، فضلا عن حملات التفتيش المهينة في المطارات. من ذلك، أن أحد التونسيين المقيمين في مدينة ميونيخ الجنوب الشرقي للبلاد رفض مطلبه في الحصول على الجنسية الألمانية بسبب ارتياده للمركز الإسلامي بميونيخ في أوقات الصلاة، وهو السبب الذي لم تتردد الإدارة الألمانية للأجانب هناك في تثبيته في الوثيقة الرسمية. وما كان اليمين الأوروبي لا المحافظ منه ولا المتطرف ليرسخ أقدامه في السلطة على امتداد سنوات الجمر الحامية الطويلة التي تلت كارثة سبتمبر أيلول، لولا استخدامه لما يمكن أن نسميه “بزنس” ظل يستعطف به المواطنين ويستدر به أصواتهم، وهو الأمر الذي نشأت على أساسه حركة عنصرية اصطلح على تسميتها إعلاميا بالإسلاموفوبيا Islamophobia. فما إن اندلعت الثورات العربية الراهنة بدءا من تونس في 14 يناير 2011 مرورا بمصر الكنانة حتى اليمن وسوريا وليبيا حتى تهيأت آثار كارثة سبتمبر 2001 لتضحى أثرا بعد عين. ولم يكن تتابع تلك الثورات العربية من الغرب إلى الشرق سوى رسالة إلى السلطات الأوروبية التي يهيمن عليها اليمين المحافظ، ومؤداها أن الذين ينظر إليهم قبل 14 يناير بعين السخط والريبة ليسوا إرهابيين ولا متطرفين، ولكنهم أبناء ثورة عربية تعمل على استعادتهم والاستفادة من عطائهم وإبداعهم في مختلف حقول الحياة، وتأمل أن يكونوا لها خير سفراء في أوروبا خاصة والغرب عامة. وصلت الرسالة واضحة جلية ودعيت قيادات المؤسسات الإسلامية من مساجد وغيرها إلى إلقاء المحاضرات حول الثورة العربية أو إلى المشاركة في إدارة النقاشات حولها. وأصبحت قيادات سياسية إسلامية من وزن ثقيل محل ترحيب بعدما كانت ممنوعة من مجرد دخول التراب الفرنسي أو الألماني بإيعازات شديدة مغلظة من بعض المخلوعين من الرؤساء العرب السابقين الذين أطاحت بهم الثورة العربية الراهنة. لك أن تقول إذا بمزيد من الاطمئنان، إن التاريخ ينسخ بعضه بعضا، فقد نسخت كارثةَ 11 سبتمبر أيلول 2001 ثورة 14 يناير 2011 وما جاء بعدها من ثورات.
أوروبا تحتضن حملات العرب ظل التقرير السنوي لأعلى سلطة قضائية في ألمانيا (المكتب الاتحادي لحماية الدستور) على امتداد سنوات منصرمة وطويلة، يدبج مقدمات مطولة عن الحركة الإسلامية بمختلف فصائلها التي قد يصل عددها في ذلك التقرير إلى ثلاثين تنظيما. تأخذ حركة الإخوان المسلمين من ذلك التقرير نصيب الأسد، وهي الحركة التي يصنفها التقرير على أنها متطرفة ثم يضم إليها ما عنّ له من تنظيمات إسلامية أخرى، ولم يجرؤ ولو مرة واحدة على نعتها بالإرهاب فيما يظل تصنيف “ متطرف” أهون بكثير. التطرف في نظر ذلك التقرير هو العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية من لدن تلك الحركة أو مجرد حمل فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية. والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الدوائر المعادية للإسلام في أوروبا، اهتبلت كارثة سبتمبر أيلول كأفظع ما يكون الاهتبال سيما ألمانيا اليمينية التي وضعت بين فكي عقدة التكفير عن الذنب، بسبب الشاب الذي انطلق من ألمانيا في “غزوة مانهاتن” المعروف ب"محمد عطا الله". غير أن بلدان أوروبا تشهد اليوم بشكل أكبر استعدادات حثيثة لاحتضان الحملات الانتخابية العربية التي تدشنها تونس بانتخاب أول مجلس تأسيسي وطني، ومن المقرر أن تنطلق الحملة الانتخابية في هذا الشهر سبتمبر أيلول 2011 ثم تلتحق بها الثورة المصرية، وربما تستعد ليبيا أيضا لشيء من ذلك، ومن يدري لعل أوروبا تكون من بعد ذلك على موعد في كل عام مع انتخابات عربية جديدة، سيما أن الثورتين اليمنية والسورية على صفيح ساخن جدا قد لا يحتمل شهورا أخرى طويلة للإفصاح عن ثمرة عربية أخرى، يرتقب أن تعزز قطار الديمقراطية والحريات والعدالة ودولة الشعب. ذلك القطار الذي لم يحدد حتى اليوم محطته الأخيرة، رغم أنه يسير إليها في اتجاه مستقيم لا تخطئه عين، صنع مناخا مواتيا للمقاومة الفلسطينية والمساهمة في العزلة الإسرائيلية التي بدأت بمحرقة غزة عام 2008 ثم بطرد سفيرين إسرائيليين من أكبر دولتين إسلاميتين في غضون أسبوع واحد تقريبا، تركيا التي تستعيد مركزها التاريخي قنطرة بين الشرق والغرب، ومصر التي ستعيد للوحدة العربية دلالتها، وللأزهر الشريف دوره.
توسع تدريس الإسلام آخر ولاية ألمانية أذنت بتدريس الدين الإسلامي فيها هي ولاية شمال نهر الراين، وهي أكثر الولايات الألمانية اكتظاظا بالسكان، إذ يقطنها ثلث الألمان الذين يبلغ عددهم الإجمالي 82 مليون نسمة، وهي الأكثر اكتظاظا بالأجانب كذلك، إذ يسكنها ثلث الأجانب المقيمين في ألمانيا والذين يبلغ عددهم الإجمالي زهاء خمسة ملايين نسمة، أكثر من ثلثيهم من الأتراك الذين استجلبتهم ألمانيا في أعقاب تدميرها في الحرب العالمية الثانية للمساهمة في إعادة البناء والتعمير. والحقيقة أن ذلك الإذن الجديد بتدريس الدين الإسلامي، جد قبل الثورة العربية الراهنة بقليل، بما يعني أن القبضة الأمنية المشددة التي لجأت إليها ألمانيا اليمينية في أعقاب كارثة سبتمبر، تراخت فعليا، سيما أن ألمانيا لم تتعرض لأي عدوان إرهابي بمثل ما تعرضت له لندن أو مدريد في أعقاب نكبة “غزوة مانهاتن”، ما جعل الاستخبارات الألمانية بين تشديد المراقبة ضد التطرف النازي الذي أحيته كارثة سبتمبر حتى أضحى كأنما بُعث من جديد - رغم أن الحزب النازي في ألمانيا (NPD) يعيش تحت الحظر منذ سنوات طويلة، وهو حظر شمل حزب التحرير الإسلامي من بعده كذلك - وبين تشديد المراقبة ذاتها ضد ما يسمى هنا في الإعلام الألماني (islamismus). وعندما طعنت شهيدة الحجاب كما تسمى في الأدبيات الإسلامية في ألمانيا مروة الشربيني- في الفاتح من يوليو 2009 على يد شاب ألماني شرقي من أنصار الحزب النازي المحظور أصيبت ألمانيا بأسرها بكابوس ألجم إلى حد نسبي بعض أصوات الإعلام اليميني المتطرف، ليترك مكانه لموجات تعاطف واسعة مع مسلمي ألمانيا بسبب تلك الجريمة النكراء. كانت أبواق إعلامية كثيرة تعمل على استفزاز الشباب المسلم في ألمانيا، لإيقاعه في أحابيل التطرف والعنف والإرهاب على غرار ما وقع في لندنومدريد في محاولة لشن حملات بوليسية لا تبقي ولا تذر، فلما طعنت الشهيدة مروة (صيدلانية مصرية متزوجة) ظهر للجميع أن الإرهاب الذي يخشى جانبه، هو الإرهاب النازي وليس من جانب المسلمين.
انتظار التحولات الثورة العربية الراهنة شبيهة بالزلزال الكبير المدوي بسبب عدم اقتصارها على شرق أو غرب ولا على بلاد دون أخرى، سيما من البلدان التي أوغلت كثيرا إما في الفساد والنهب والسلب، كتونس، أو التي طوحت بعيدا جدا في فرض التوريث مثل مصر واليمن. في الحالة التونسية مثلا فإن عشر السكان يعيشون خارج البلاد أي مليون نسمة، 85% منهم يعيشون في أوروبا وأغلب هؤلاء في فرنسا. ومعطيات أخرى كثيرة يضيق عنها هذا المجال من المنتظر أن تساهم في صنع أصداء معينة لذلك الزلزال الثوري العربي المدوي، ربما يكون أبرز عنوان لتلك الأصداء المرقوبة، أن الملف الأوروبي الأعقد على امتداد السنوات الطويلات المنصرمات: أي ملف الهجرة غير الشرعية أو الهجرة السرية سيشهد شيئا من الركود، ليظل موضوعا على الرف حتى لو لم يتعجل الأوروبيون بطيه بالكامل. معلوم أن ذلك الملف كان الملف الأبرز على طاولة كل اجتماع أوروبي يتداعون إليه بمناسبة وبغير مناسبة، بمثل ما يتداعى العرب عندنا إلى اجتماعات مكافحة “الإرهاب” والتنسيق الأمني لمواجهته، والتي كانت العاصمة التونسية دوما هي عاصمته المفضلة. مواجهة الهجرة السرية القادمة بعشرات الآلاف من الحوض الجنوبي للمتوسط، هي سياسة أثبتت أن لها انعكاسات سلبية غير قليلة، سيما في الملف الاقتصادي الأوروبي ذلك أن العمالة العربية والإفريقية التي استبدلت بعمالة شرق أوروبية - سيما روسيا وبولونيا ومخلفات الدب اليوغسلافي الشيوعي السابق- سجلت معدلات جديدة مرتفعة في الجريمة المنظمة مستغلة مناخات الترحيب الواسع بها. وقد استفاد من تلك العمالة شرق أوروبية كثير من الشركات الألمانية الوسيطة التي انتشرت كالجراد لاستيعاب عشرات الآلاف من تلك العمالة ضمن عقود عمل مهينة جدا، لا تمكن العامل من أكثر من ربع أجره عن ساعة عمل واحدة. تسمى تلك الشركات التي أسندت إليها من لدن الشركات الكبرى مهمة استيعاب العمالة الوافدة (leihfirmen أي الشركات المقرضة) وفرضت على العمالة شرق أوروبية أجرا صافيا لا يزيد على أربعة يورو في الساعة، في حين أن ذلك الأجر كان مضاعفا مرتين على الأقل، أي ثمانية يورو عن ساعة العمل الواحدة.
تعاقد الطرفان بعدما وقع حظر العمالة العربية والإفريقية الوافدة الجديدة، ولكن ذلك لم يجعل معدل البطالة يتزحزح قيد أنملة عن معدلاته السابقة، إذ ظل ذلك المعدل يحوم دوما في حدود أربعة ملايين عاطل عن العمل. في مقابل ذلك، لا شك في أن ألمانيا ظلت تحافظ على تصدرها البلدان الأكثر تصديرا في العالم منذ عام 2006 وظلت وفية في الأغلب الأعم لهويتها الاقتصادية ذات المنحى الاجتماعي التكافلي، رغم ما تعرضت له تلك السياسة من تضييق في السنوات الأخيرة التي شهدت عواصف مالية كاسحة جدا، ناهيك عن أن تلك الأزمات كادت تعصف بالدول التي تربعت على عرش المملكة المالية في العالم على امتداد عقود طويلة من مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية واليابان والصين. السؤال الكبير هو: إلى أي حد يمكن لتلك الثورات العربية المنداحة أن تمسك بملف الهجرة من طرف ما من أطرافه؟ إلى أي حد يمكن أن تنظم تلك الهجرة حتى لا تكون لا سرية ولا غير شرعية؟ وإلى أي حد يمكن أن تكون تلك الهجرة تعاونا اقتصاديا تبادليا حرا على قاعدة الندية؟ وإلى أي حد يمكن لمنطقة اليورو الأوروبية أن تتوسع في اتجاه العرب وإفريقيا بضرب ما من ضروب التوسع على قاعدة التعاون الاقتصادي المثمر، وليس على قاعدة ابتلاع تمساح العولمة لمقدرات الشعوب، بمثل ما يجري مع المستعمرات القديمة للدب الروسي قبل سقوطه؟ وإلى أي حد يمكن للعمالة العربية والإفريقية، أن تستعيد دورها الاقتصادي بعد الثورة العربية الراهنة بعدما ثبت أن استبعادها لم يجعل أوروبا في منأى من الجريمة المنظمة، حتى لو كانت تلك الجريمة المنظمة ليست على أيدي تنظيم القاعدة، ولكن على أيدي بعض مكونات العمالة شرق الأوروبية؟ تلك أسئلة حق للثورة العربية أن تطرحها، سيما أنها على مرمى حجر وبصر - في الآن نفسه - من الحوض الشمالي للمتوسط.