حدّثني حسن طيّارة –و قد مضى على آخر لقاء بيننا أشهر مذ أن حكى لي قصّته العجيبة مع ليلى السحارة – وقال :" حلمت البارحة حلما غريبا ...." فقاطعته وقلت " خيرًا إن شاء الله ...." فأردف قائلا " وجدت نفسي في جنّة الشعراء – وهي جنّة إفتراضية يبنيها شعراء الغلبة إنطلاقا من أوهام كسراب يحسبها الظمآن ماءًا – فوقفت محتارًا وضلّ فكري متقلبا , أيًّ طريق أسلك ؟ وفجأة سمعت جلبة و غوغاء فأتجهت نحوها مهرولا وإذا بي أمام سوق كسوق عكاظ إختلط فيه الحابل بالنابل ...والجاهل بالعالم ....والفصيح بالرعيع....والظريف بالدميم...وقد جلسوا زرافات ووحدانا ... حلقا حلقا كعناقيد العنب ...فأخترت حلقة الصغير أولاد أحمد و الوهايبي –وهم كما تعلمون من قزّم لغة الظاد و قضم بأضراس الجهل على منابعها حتى صارت أرضها بورا و نكاد نفتقد الأدب الحقيقي ومن يذود على حياضه حتّى إذا وجدناه سرنا إليه سير المحموم إلى برد ماء الحشرج ( هذه جملة قالها والدي في محاضرة قبل وفاته ببضع أشهر )- وأردفت منشدا أبياتا قائلا : • إلى من طمس تاريخ أجدادي.... • إلى قلاّبي الفيستة ...و من مدح المخلوع وقال له أنت سيّد أسيادي .... لساني لن يهذأ وقلمي لن يجفّ ما دام قلبي ينبض وعيني ترفّ من سيقول لي لا زلت طفلا صغيرا قلت له أنت شاعر خَرِف لا تلمني يا سيدي عن وقاحتي فأنا من رُضاب الحرية أرتشف تحدثت أعواما وتكلّمت يوما ولكن حديثي وحديثك يختلف فقال أولاد أحمد :"أمن أمثال يكون هذا يكون الهجاء ؟ قلت :"أصلحك الله . لا تقل شيئا تأكل أصبعك أسفا بعده و تزدرد ريقك همّا دونه , وأنّي بعد أن إستقرّ يقيني و اهتدى جوهر عقلي إلىّ أنّ أمثالك سبب كلّ خراب و من جعل صروح المعرفة قفرا وترابْا , وكلّ ماتدعوه فكرّ إنّما هو وهيًّ رقعّه أمثالك وحرامٍ بالعقل أباحه أترابك و خبيث بالطبع إرتكبه أقرانك و قبيح في العادة إستحسنه أصدقائك ." قال:" لعلي أعقل نبرة صوتك و أسلوبك المتهكّم فمن أيّ مدرسة أنت؟" قلت :" من زيتونة أجتثت عروقها و جفت منابعها إلا من وصايا أبنائها من أهل الحزم والتجارب يحثون أولادهم ومن لهم بهم عناية تعلم المنطق وعلوم المقاصد والوسائل متحديين أقوال الأغبياء وفارغي الوفاض أمثالك ....وما يضر الشمس نباح الكلاب ...رجال نحتو ذاتي حتّى إذا ذهبوا أصبحت هذه البلاد أشبه بالقبور التي تضمّ بين دفّتيها أمواتا يفتقدون طراوة الحياة ...والمعضلة أنّ الزمان بمثلهم لبخيل ,,,حتى أنّنا لا نجد في هذا الزمان –والدليل موجود في مجلسكم الذي تحمون فيه الثروة –أقصد الثورة-إلاّ من لديه شجاعة الأرنب وحكمة الحمار – والحمار براء من ذلك ..." قال :"فلماذا تجلس مجلسنا وتستمع آراءنا؟" قلت :" إنّما هي المحادثة و الإقناع ففيها تلقيح للعقول وترويح للقلب وتسريح للهم وتنقيح للأدب . قال عبد الملك بن مروان "قد قضيت الوطر إلاّ من محادثة الإخوان في الليالي الزهر على التلال الخضر... فمن الحديث يتنوّر العقل بأفكار جمّة و نظريات مهمّة فتكتب الأطروحات وتنشد القصائد وكلّ عمل إنشائي . فالكلمة مبدأها العقل و ممرها اللفظ وقرارها الخطّ , حتى إذا إكتمل نسيجها إخترت أفضلها ليكون جوهر القصّ و بهرج النصّ وقد كان إبن المقفع يقف قلمه كثيرًا فقيل له في ذلك , فقال : إنّ الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لأتخيّره " . قال : " الحديث ذو شجون و إنّي لأرى الساقي قد أتى بالدنّ و القوارير و الأكواب فهلمّ نترشّف من الراح ونقارع الأقداح ... " فقاطعته وقلت " أخذتً عهدًا أن لا أستحيها في الدنيا و تركتها للآخرة ..." قال :" هات إذا ملحة الوداع –وهي حكمة يطلبها السامع عندما ينفض المجلس –" قلت : " قال بعض الحكماء :" قلَّ من سكر إلاّ عثر و قلّ من عثر فأنتعش و نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان الزاهدين