لقد كانت سنوات عصيبة تلك التى مرت بالمسلمين فى مكة حيث الإضطهاد والملاحقة والتشريد والمقاطعة ، إلا أن إيمان المسلمين بأن النصر من عند الله جعلهم متمسكين بدينهم تحت قيادة الحبيب المصطفى ، ولم تلن لهم عزيمة حتى يأس الكفار من القضاء على هذه الدعوة التى أقضت مضجعهم. لقد حاول صناديد قريش أن يقدموا الإغراء تلو الإغراء لعلهم يحصلون من رسول الله على بعض التنازلات ، فعرضوا عليه المال ثم عرضوا عليه الحكم ويتركهم ومايعبدون إلا أن الرسول الكريم قال لعمه " والله ياعم لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أترك هذا الأمر ماتركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه " وبذلك قد وضع حداً لقريش حتى لاتسول لها نفسها أن هذا الأمر يمكن التفاوض عليه. لقد ضرب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه مثلاً للأمة كيف تكون المبدئية فى العمل للتغيير ، فلاتنازل عن أى شىء حتى لو كان المقابل هو الحكم . وحين أدرك كفار قريش أنه لاحيلة أمامهم لمنع هذه الدعوة إتخذوا قرارهم الشيطانى بقتل رسول الله ، حتى يتسنى لهم القضاء على الدعوة وأتت اللحظات الفارقة بين مرحلة الضعف والإضطهاد وبين مرحلة النصر والتمكين ، يخرج المصطفى ويضع خطته ويطمئن على صحابته ومن معهم من الذرارى ، وبعد وضع اللمسات الأخيرة لطريق الهجرة تأتى لحظة خروجه الصعبة وتركه لأحب بلاد الله إلى الله ، ويصطفى لرحلته الصديق أبا بكر ليصاحبه فى رحلة التمكين لدين الله وماأجلها من رحلة إيمانية . يصل المصطفى إلى المدينة حيث الأنصار الذين نصروه ووضعوا أنفسهم وأموالهم تحت تصرفه قربة منهم إلى الله ، ثم يباشر الرسول الكريم بناء الدولة ويحدد معالمها بعد أن آخى بين المهاجرين والأنصار لتقوم على سواعدهم الدولة الإسلامية التى نقلت العرب من حياة الجاهلية إلى أن يصبحوا سادة الدنيا. نعم هذه هى النظرة الرعوية التى تخطت حدود المدينة لتشمل الدنيا كلها وبذلك قد تشكل عند المسلمين الأوائل المفهوم الصحيح للوعى السياسى والذى جعلهم ينظرون إلى الدنيا كلها من زاوية العقيدة وبأنهم أصحاب رسالة مأمورون بحملها حتى يرضى عنهم رب العالمين. وعاد رسول الله مرة أخرى إلى مكة حيث أولئك الذين أخرجوه مخاطباً إياهم " ماذا تظنون أنى فاعل بكم " وتأتى إجابتهم " أخ كريم وأبن أخ كريم " وهذا هو موقف أهل الباطل حين ينتصر عليهم أهل الحق ، فيعفوا عنهم رسول الله وهو اليوم صاحب قوة . وبعد أن أتم الله الأمر ويخطب رسول الله فى خطبة الوداع ليدل المسلمين بأنه " قد ترك فيهم مإن تمسكوا به لن يضلوا بعده أبداً : كتاب الله وسنته " . ماأحوجنا اليوم فى ذكرى هجرة المصطفى أن نهتدى بهديه ، ونعلم أن طريق التمكين يشترط التمسك بالإسلام تمسكاً مبدئياً كما تمسك به الرسول وصحابته ، وبأننا بعد الثورات التى من الله بها علينا لن نعود أهل قوة إلا أن نعمل لتطبيق الإسلام كاملاً غير منقوص فى دولة هويتها واضحة ليست مدنية بمرجعية إسلامية بل دولة إسلامية تطبق الإسلام وتحمله رسالة هدى للبشرية