محمد علي الشحيمي انتظرت كما انتظر الشعب التونسي تولي احد مواطنيه رئاسة البلاد ، والقاء خطابه الاول ، وردة فعل المرؤوسين عما يرد فيه من اقوال . كنت في حقيقة الامر اعدّ الايام ، والساعات التي تفصلني عن الموعد المضروب . وكنت احس في اكثر الاحيان التي اتذكر فيها هذا الموعد _ وانا في العمل او في المنزل ، او في الطريق ... بالخوف و الارتباك لا فقط لعظمة اللحظة على اهميتها ، ولا تشوقا لنهاية الفوضى السائدة في البلاد ، ولكن لإحساس كنت اشعر به في عودة حق صادره معاوية ابن ابي سفيان من الشعب ، او كما كان يقال من الناس مع بداية ترسيخه لمؤسسة الحكم ... قال معاوية في اول خطبه سنة 41 ه " اما بعد فاني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي ، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة ولقد رضيت لكم نفسي على عمل ابن ابي قحافة واردتها على عمل عمر فنفرت من ذلك نفارا شديدا ، واردتها على سنيات عثمان فأبت علي فسلكت بها طريقا لي ولكم فيه منفعة : مؤاكلة حسنة ومشاركة جميلة ، فان لم تجدوني خيركم فاني خير لكم ولاية والله لا احمل السيف على من لا سيف له ، وان لم يكن منكم الا ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك دبر اذني ، وتحت قدمي ، وان لم تجدوني اقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه فان اتاكم مني خير فاقبلوه فان السيل ان جاد يثري وان اقل اغنى واياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة " . فهو في خطبته هذه ابان عن إختلافه مع كل من ابي بكر وعمر وعثمان في التعامل مع الناس اولا ، وطريقة الحكم ثانيا ، و وقبول المعارضة او الراي المخالف ثالثا . وهو ايضا من استمد شرعيته من السيف وبه حصد المبايعة على خلاف من سبقوه . هو من لم تميزه الافضلية عن الآخرين ، ولكنه فرض نفسه كالأفضل لهم . هو من اقر بالسيف كي يكون حكما امام من يرفع السيف ضده ، هو ايضا من اعترف بوجود من يتقوّل من الناس بما لا يرضيه ووزع اقوالهم بين دبر اذنه اي لا يعير له اهتماما وتحت قدمه لسحقه ... هو من يعترف بان منح حقوق الناس في دولته لن يكون عادلا ولكنه طالب بقبول ذلك منهم ، وهو من حذر شعبه من الفتنة لا لشيء الا لكونها تفسد المعيشة ، وتكدر النعمة . لنقل نعمة العطاء او نعمة الامن ... هذا ما افتتح به معاوية ايام حكمه واردت ذكره في البداية لا للتصنيف ولكن للمقارنة به خطاب السيد رئيس الجمهورية التونسية المنصف المرزوقي . يقول انه ما كان ليوجد في هذا المنصب لو ان المجلس التأسيسي الاول نجح في آداء مهمته ولو ان المرحلة التي عمل فيها تختلف عن هذه المرحلة . ومع ذلك فلا يمكن الانكار بان النواب حينها عملوا ما في وسعهم لكتابة احسن دستور ونضام سياسي قاده بورقيبة ... نجح بورقيبة الى حد كبير في وضع اسس الدولة العصرية وتعميم التعليم وتحسين مستوى العيش ... ولكن من جهة اخرى هؤلاء المشرعون في المجلس اسسوا لنضام بشقيه التشريعي والتنفيذي كي يصادر اموال الشعب وحريته ...الوطن اذا لم ينجح في توفير الكرامة والخبز لبنيه . الى هذا الحد في الخطاب قدّم المرزوقي الطريقة التي قدم بها الى منصب الرئاسة وسببها وهي الثورة الشعبية والتي تعود اسبابها الى فشل المجلس الاول ، اذا الشعب هو من رشحه كي يكون رئيسا عليه ، ويضمن له التقدم نحو نيل حقوقه وصيانة كرامته على عكس معاوية الذي قدم نفسه لا كبديل او خليفة وانما كمبتز للسلطة بحد السيف ... هو اذا يعترف بما هم مقتنعون به بانه ليس خيرهم ، ولكنه يفرض عليهم نفسه على انه خير لهم ... وهو لن يسعى حريصا على اعطاء كل ذي حق حقه ، ولكن من اصابه شيء منه ينبغي ان يرضاه كما هو ... المرزوقي يقول في كلمة شاملة ان مهمته هي تحقيق اهداف الثورة . واهداف الثورة هي وضع اسس عميقة وصلبة تسهل على التابعين مواصلة بناء الدولة وترسيخ الحرية والمساواة . مواجهة البطالة ، الاصلاحات العاجلة والرصينة على مستويات الادارة . الاستقرار الامني والاجتماعي ، حماية الشغالين والمشغلين ، حرية الرأي ... فهذه حقوق يتساوى فيها المواطنون ويعتقد ان مهمته الاساسية من خلال منصبه هي آدائها الى اصحابها ... نحن نفهم الى هذا الحد ان طرح المرزوقي جاء معاكسا لطرح معاوية ابن ابي سفيان ونفهم اكثر عندما نسمع تصريحه بسماع المعارضة وتكليفها بالتقييم الصارم لأداء الحكومة ... نفهم ان السلطة وان ارتسمت تشريعيا في شخصه الا انها كممارسة عملية من مهام الحكومة من جهة ومهام المعارضة من جهة ثانية ... بينما وضع معاوية كلام معارضيه دبر اذنه ، وتحت قدمه ... قد يبدو للكثيرين سواء من اليسار او حتى من الاسلاميين والسلفيين ان المقارنة بين الشخصيتين غير جائزة لاعتبار المدة الزمنية الفاصلة بينهما ، وهي قرون طويلة ... ثم لان الاول كان صحابيا للرسول (ص) وعسكريا في نفس الوقت ، بينما الثاني طبيب اعصاب ، ومدافعا شرسا عن حقوق الانسان ... قد تكون هذه الاسباب معقولة ولكن انطلاقا من نقطة تاريخية معينة اعتقد انه بالإمكان فعل ذلك . اما النقطة التاريخية فهي لحظة افتكاك السلطة الشرعية من اصحابها بالنسبة لمعاوية واسترجاعها بعد قرون من مغتصبيها من طرف السيد المنصف المرزوقي ... نحن نعلم ان الدولة في الاسلام قامت مع الرسول في المدينة ، وعندما توفي بايع المسلمون ابا بكر وبعده بايعوا عمرا ثم عثمان ثم عليا ليغتصبها منه معاوية ويورثها ليزيد ويستمر الامر بعد ذلك والى حد الان اما اغتصابا واما توريثا ولا مجال ابدا للمبايعة او للإنتخاب ... حتى في دول الجمهوريات كمصر وسوريا وتونس والجزائر وغيرها ... ان الشعب هو من اختار من يمثله في مجلس تأسيسي وكلفه من بين ما كلفه بانتخاب رئيس للبلاد في مرحلة اولى .. وكان الامر كذلك وبغياب سلطة السيف او سلطة القهر ... كان انتخاب السيد الرئيس اذا وبشكل شرعي بعد ان غابت هذه الشرعية لمئات السنين ... وفي كل الدول التي سادت من الدولة الاموية وحتى دول الجمهوريات القائمة الان ... قد يقول الكثيرون انه ليس اكثر من رمز او رئيس خال من الصلحيات ، ولكن الحقيقة هي انه يتمتع بما ينبغي ان يتمتع به الرئيس او الحاكم الشرعي للبلاد من تمثيل للبلاد في الخارج ، ومن قيادة للقوة العسكرية ، ومن امضاء للأوامر والقرارات ... وبهذا المعنى كل كبيرة او صغيرة تمر على يديه . ان الحكومة ورئاستها وان بدى انها قد استحوذت على السلطة الفعلية في تسيير شؤون البلاد فان الواقع يؤكد غير ذلك . اولا لان قراراتها كي تكون نافذة ، لبد من ان يوافق عليها هو . ثم هو في سماع مستمر لراي المعارضين . اما الحكومة فهي تحت رقابة المجلس التأسيسي وتقييمه ... ان ما وصل اليه الشعب التونسي اليوم هو في واقع الامر اعظم ما وصلت اليه الشعوب العربية بعد قرون طويلة من الململة ، والنضال ، ولكن هل يمكن لهذا الشعب ان يحافظ على انجازه من المتربصين في الداخل والخارج ؟ . محمدعلي الشحيمي تونس