المنظر يستدعي وقفة تأمل؛ فقد وقفوا عرايا في موقف تجريدي تآمري فاضح، يختصر المشهد الكبير في تداخل وتناغم ما بين ما يجري للإسلاميين في مصر وما يجرى لحماس على يد فتح بالتعاون مع بعض المنتفعين في مصر، وما الوثائق التي عرضتها حماس في مؤتمرها الصحفي -التي تثبت تورط فتح في تشويه حماس، وصناعتها كعدو أول وأوحد للمصريين، وتصدير القضية على أنها عداء للإسلاميين وليس للصهاينة- إلا قليل من كثير. خروج حماس الإعلامي للرد على حملة التشويه والشيطنة المُمنهجة جاء متأخرًا، ربما حرصًا على الوَحدة والمصالحة والنسيج الوطني، وغيرها من الشعارات الإعلامية التي لا ترجمة لها على أرض الواقع البائس الذي تسيطر عليه عقلية تآمرية مخابراتية تضمر الحقد والغل والغيرة القاتلة. ولا جديد بعدما رأيناه من وثائق فاضحة بالنظر إلى مواقف "فتح" بعد فوز "حماس" التاريخي في الانتخابات التشريعية عام 2006م؛ ولا يوجد فارق كبير بين ما ترتكبه "فتح" وما يصدر عن تيارات سياسية مصرية على نفس النهج الفكري إزاء منافسيها الإسلاميين؛ فبعد طرد "الانقلابيين" من غزة، وبعد سيطرتها على المقرات الأمنية للسلطة الفلسطينية؛ أعلنت كتائب الشهيد عز الدين القسام في يونيو 2007م أنها عثرت على وثائق تؤكد تورط جهاز الأمن الوقائي التابع لرئاسة السلطة الفلسطينية في التعاون مع الاحتلال في تعقب قيادات المقاومة، وتؤكد تورط محمد دحلان في اغتيال عرفات. بل إنه في الثاني من أغسطس 2007م تقدمت كل من قطر وإندونيسيا بمشروع قرار لمجلس الأمن، بسبب تدهور الحالة الإنسانية والاقتصادية في غزة، يدعو هذا القرار إلى اعتبار غزة منطقة منكوبة، ويدعو إلى تسهيل عودة الفلسطينيين العالقين على معبر رفح، وإلى ضرورة توصيل المساعدات الإنسانية والطبية والغذائية إلى الشعب المحاصر في غزة. وكانت المفاجأة التي لم تخطر على بال أكثر المراقبين تشاؤمًا؛ فقد أقدم مندوب (فلسطين) لدى الأممالمتحدة رياض منصور -نعم والله مندوب (فلسطين) وليس مندوب (إسرائيل)- على إجراء اتصالات بجميع أعضاء مجلس الأمن لمعارضة مشروع القرار التي تقدمت به قطر وإندونيسيا، وتحالف المندوب (الفلسطيني) مع المندوب (الإسرائيلي) في الأممالمتحدة لتعطيل القرار وعدم اتخاذه والعمل على عرقلته وعدم التصويت عليه وبالفعل نجحا في ذلك! تقول صحيفة "معاريف" الإسرائيلية تعليقًا على هذه السابقة: "لقد تحول الفلسطينيون إلى خدم ل"إسرائيل" في المحفل الدولي، فسفيرا "إسرائيل" والسلطة تمكنا في مسعًى مشترك من عرقلة مبادرة رفع الحصار عن غزة في مجلس الأمن ". وأكدت معاريف وقتها على أن: "القرار كان سيحسن للسكان الفلسطينيين في غزة أوضاعهم المعيشية، إلا أن "عباس" ورئيس حكومته "فياض" أمرا المندوب الفلسطيني في الأممالمتحدة بإقناع الدول الأعضاء في مجلس الأمن بتجاهل الطلب القطري الإندونيسي". التشويه الفلسطيني لحماس لا يختلف عن التشويه المصري للإسلاميين وشيطنتهم ووصمهم بالإرهاب؛ تمهيدًا لإبادتهم أو على الأقل حصارهم في رابعة العدوية وميدان النهضة؛ فلا يدخل إليهم طعام ولا دواء، وهذا ما طالب به بعض من هم على شاكلة دحلان من المصريين، وهم كثيرون، بل وطالبَ به أحدُ الصحفيين وزيرَ الداخلية المصري دون استصدار إذن من النيابة. الصورة صارتْ أكثر وضوحًا بعد المؤتمر الصحفي لحماس، والذي جاء متأخرًا؛ والأسلوب المتبع يعتمد على التشويه والشيطنة والحملات الإعلامية التحريضية المكثفة والمطرزة مخابراتيًّا، والأدوات صارت واضحة تمامًا، وتشارك بقوة تيارات سياسية تظهر تبني القضايا العادلة وتضمرُ التآمر وتتبنى التحريض، والهدف النهائي هو إخراج الإسلاميين من المعادلة في مصر وفلسطين؛ لتنعم "إسرائيل" بسلام دائم وشامل مع العلمانيين. وتجدر الإشارة هنا إلى مصير الدكتور مرسي في المكان المجهول الذي يحتجزونه فيه، والذي يتكتمون عليه خوفًا من مرسي وشعبيته الجارفة، لا خوفًا عليه. لكن، هل نسيتم مصير عرفات في حصاره الشهير في رام الله؟ لا يشك أحد أن الانقلاب على مرسي متعلق بالإرادة المصرية للانعتاق من الأسر الأمريكي ومحور "واشنطن-تل أبيب"، وقد تواترت التقارير في الصحف والدوريات العالمية التي تتحدث عن تنسيق عال ودقيق مع الإدارة الأمريكية منذ مراحل الانقلاب التمهيدية. فأمريكا و"إسرائيل" لا تريدان ظهيرًا وسندًا لحركة المقاومة الإسلامية في مصر؛ إنما تريدُ بديلاً مُدجَّنًا يَقنعُ بالفتات؛ في استنساخ واضح لما فعلته "إسرائيل" برعاية أمريكية، حينما دعمت واستبدلت حماس بفتح، وعرفات بعباس الذي ظل يردد قائلاً (وهذا نص تصريحاته): لا بديل عن التسوية السلمية، نستطيع عن طريق المفاوضات انتزاع حقوقنا، "إسرائيل" مستعدة للسلام، لكن حماس وصواريخها هي التي تستفزها. ما فعله رموز العلمانية في مصر من دفاع عن نظام مبارك -حليف "إسرائيل" الإستراتيجي- بل والتحالف معه والاستفادة من خبراته وإمكانياته في القضاء على الحركة الإسلامية في مصر بعد صعودها من خلال آليات الديمقراطية، بعد إلصاق تهمة الإرهاب زورًا بها في أعقاب الانقلاب العسكري، هو ذاته ما فعله محمود عباس أبو مازن الذي دافعَ كثيرًا عن العملية السلمية وعن المفاوضات وعن رغبة الأمريكان والإسرائيليين الحقيقية في تحقيق السلام المزعوم، وأيضًا دافعَ كثيرًا عن سلطة متخمة بالمفسدين والمتربحين من القضية، ودافع عن كل القادة الصهاينة الذين عاصرهم وتعاملَ معهم، بداية من أولمرت، مُرورًا بليفني وانتهاءً بنتنياهو، وفى المقابل سمى عباسٌ المقاومةَ إرهابًا، وبرأ "إسرائيل" واتهم حماس، وحملها المسئولية عما حدث ويحدث؛ بادعاء أنها لا تطبق القرارات والمعاهدات والمبادرات العربية وخارطة الطريق. برأ عباس "إسرائيل" من كل ما ارتكبته وما ترتكبه من جرائم، وسعى لشيطنة حماس، وحرض عليها بقوة في كل محفل، وكان من أخطر ما فعل في هذا الاتجاه: سعيه لدى الأممالمتحدة إلى اعتبار حماس حركة إرهابية خارجة عن القانون، وتصريحه باختراق القاعدة لصفوف حماس، وكأنه يعطي المبرر ل"إسرائيل" لضرب غزة واجتياحها في إطار الحرب العالمية على الإرهاب. وهذا ما تفعله بالضبط القوى السياسية العلمانية التي صعدتْ إلى الحكم في مصر على ظهر دبابة بالسعي لشيطنة المنافسين وتصوير ما يحدث من ثورة شعبية في كل محافظات مصر وميادينها على أنه حشد إرهابي لجماعة الإخوان المسلمين. وفى اجتماع حملة تمرد مع كاترين آشتون بالقاهرة سألوها عن رد فعلها إذا قامت عناصر إرهابية من تنظيم القاعدة بالاعتصام أسفل منزلها، في محاولة لتبرير دك اعتصام رابعة وحصاره بادعاء اختراقه من تنظيمات إرهابية على رأسها القاعدة، وهو نفس الأسلوب الذي استعمله عباس مع حماس لإحكام الحصار عليها في قطاع غزة. ومن ميدان رابعة -الذي يسعون لاقتحامه أو على الأقل حصاره قبل فضه بالقوة وإرغام من فيه على الاستسلام للمشروع الأمريكي في مصر والمنطقة- إلى غزة المُحاصرة لهدف مُشابه، ثم إلى مقاطعة عرفات في رامَ الله؛ حيث تم حصاره من قوات تابعة للأمن الوقائي والاستخبارات الإسرائيلية، ثم إلى المكان المجهول الذي يحاصرون الرئيس المصري المختطف داخله، وقد نقلت بعض المواقع الإليكترونية خبرًا مفاده إضراب الرئيس مرسي عن الطعام خوفًا من محاولة تسميمه والتخلص منه لطمس قضية شرعيته، وفى أغسطس 2007م، وخلال مؤتمر صحفي في رام الله نقلته وسائل الإعلام، اتهم بسام أبو شريف المستشار السياسي للرئيس الراحل "إسرائيل" بقتله بالسم، بنفس الطريقة التي قتلت بها القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وديع حداد في ألمانيا الشرقية عام 1978م، وكان الرئيس الراحل قد شعر في مساء الثاني عشر من أكتوبر 2003م بحاجته للتقيؤ واضطراب في الأمعاء وإسهال، وذلك بعد أربع ساعات من تناوله وجبة العشاء بمقر المقاطعة برام الله، وقبل أسبوعين من نقله إلى فرنسا للعلاج وهناك يغادر الحياة. يبدو أن الرئيس مرسي مايزالُ ثابتًا على مواقفه، لا يقبل المساومات والتنازلات المُهينة والمُضرة بقضية تحرر المصريين واستقلال الإرادة المصرية، وقد رفض قبلَ تنفيذ مخطط الانقلاب الإملاءات الأمريكية بأن يصبحَ رئيسًا شرفيًّا مع تشكيل حكومة من العلمانيين المعارضين له ومنحها صلاحيات تشريعية واسعة، ويبدو من نتائج لقاء آشتون الأخير به أنه يرفض ما يرفضه أنصاره من اعتراف بخارطة طريق الفريق السيسي، ولا يزال متمسكًا بثوابته؛ فلا تنازل عن الشرعية الدستورية، ولا تنازل عن المسار الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، ولا تنازل عن استقلال الإرادة المصرية والسير في مشروع اكتفاء مصر ذاتيًا من السلاح والغذاء والدواء. كذلك رفض أبو عمار في إطار التسوية السلمية المهينة التي رضي بها عباس وقرينه المصري الدكتور محمد البرادعي؛ فلا تنازل عن القدس وعن الأقصى، ولا تنازل عن حق العودة للاجئين وعن حقوق الأسرى. الولاياتالمتحدة بعد فشل الحلول الأمنية -رغم الضحايا الذين يسقطون يوميًّا والمجازر المُروعة التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية في حق مؤيدي الشرعية في مصر- تحاول الضغطَ من جديد على الرئيس المنتخب المُختطف بطريق غير مباشر، من خلال مقابلة آشتون الأخيرة التي خرجت بعدها خالية الوفاض؛ فمرسي لا يتنازل عما وصَّى شعبه بالتمسك به قبيل تنفيذ المؤامرة حيث الشرعية الدستورية خط أحمر. وكذلك عندما ضغطت الإدارة الأمريكية -إدارة الرئيس كلينتون- على الرئيس الراحل ياسر عرفات ليتنازل عن قضايا شعبه، رفض ذلك بقوة وإصرار أثارَا دهشة وذهول أمريكا و"إسرائيل". وعندما ضغطت عليه أمريكا في محبسه -كما تضغط على مرسي الآن- رد عرفاتُ ساخرًا من كلينتون: "سأقدم لك المَخرج من هذه الأزمة؛ قال كلينتون: وما المخرج؟ أجاب عرفات: "سأغادر أنا إلى القاهرة أو تونس بصفة نهائية، وعلى باراك وعليكم أن تتدبروا أمركم مع الشعب الفلسطيني". عندها هدده كلينتون بالقتل، فقال الرئيس الذي تحولَ إلى زعيم وهو لا يبالى بالموت في سبيل أرضه وطنه ومقدساته وشعبه: "أنا وقعت طائرتي في عام 1992م ولم أمتْ، وعندما يأتي أجلى سأموت، أنا لو وقعت على القدس وعلى حق العودة للاجئين فسوف يقتلني شعبي. ماذا بعد التضحيات الجسام التي قدمها المصريون من أجل استكمال ثورتهم، وبعد نضال أسطوري في الشوارع والميادين لأكثر من شهر، وبعد سقوط آلاف الشهداء والجرحى، فهل يأتي مرسي اليوم ويتنازل؟! لو فعل -وهذا مستبعد تمامًا- فسيقتله شعبه. وخيار مرسي هو خيار الشعب المصري والفلسطيني المقاوِم، فالثبات على المبدأ؛ وإما نصر وإما شهادة. كما ردد عرفات: شهيدًا.. شهيدًا.. شهيدًا.