بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كلمات في وداع عميد المهاجرين الدكتور عبد الحليم خفاجي
نشر في الحوار نت يوم 17 - 09 - 2013

دعوني أرسم كلمات عتاب شديدة لا رقة فيها وذلك قبل أن أحبر كلمات أخرى في وداع عميد المهاجرين العرب الدكتور عبد الحليم خفاجي عليه رحمة الله سبحانه.
كلمات العتب الشديدة أتوجه بها إلى بيان النعي الصادر عن التجمع الإسلامي الأوروبي إذ بدا لي أن البيان ينعي الراحل الفقيد ببرودة شديدة يبخل فيها على الراحل حتى بلقبه العلمي بله سبقه الجهادي في جماعة الإخوان المسلمين وسبقه في الهجرة إلى ألمانيا وسابقته التي لم يسبق إليها وهي تأسيسه لصرح كبير في ترجمة الكتاب العزيز إلى مختلف اللغات الأجنبية بمؤسسة بافاريا الشهيرة هناك وقيامه على ترجمات أعمال أخرى. مصر على عتبي الشديد لأن الراحل رجل معروف في تلك الأوساط بقوة وهو سند كبير لها على إمتداد عقود فضلا عن مآثر أخرى للرجل أعرفها ويعرفها الناس هناك. كان يليق ببيان النعي أن يفرد للرجل الراحل كلمات أخرى تعرف به بل تقيم له تأبينا مكتوبا. إذ إستوى نعي هذا مع نعي ذاك فلا مجال للحديث عن المساواة عندي إذ المطلوب العدل حيال كسوب الرجال وخاصة عند رحيلهم. عرفنا معاشر العرب الغلاظ بمزاولة غلظة وجفاء شديدين كالحين عند ذكر الرجال وهم أحياء وهو أمر مبالغ فيه كثيرا عندنا ولا يحملنا على ذلك ما قد يغرك من الخوف على أعناق الرجال من القطع بمثل ما ورد في الحديث الصحيح الشريف ولكن الذي يحملنا على ذلك خلق الكبر الذي نقشبه بأثياب الخوف من الرياء وقطع العنق. وما ذا نقول عندما يلازمنا الخلق الذميم ذاته ونحن ننعي الرجال. الصمت أولى.

الفقيد الراحل مقاوم إسلامي من الصف الأول والجيل الأول.

الدكتور عبد الحليم خفاجي هو أحد الرجال الذين إعتقلهم عبد الناصر في أول محنة شهدتها الجماعة وكان يومها شابا يافعا وظل سجينا لمدة سبعة عشر عاما كاملة في ظروف معروفة تحكي أبشع ضروب الإنتقام الأعمى وأنكى صنوف التشفي الذي تلجأ إليها العجماوات المفترسة. عرفت ذلك في أول لقاء بالراحل المرحوم عام 1994 بالمركز الإسلامي بميونيخ الألمانية. كنت يومها حديث عهد بالتهجير وبالنفي وكذا بالثلوج المتراكمة وكنت ممن تربى على كتابات الراحل الفقيد من مثل كتابه الشهير ( حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون ) الذي كنا نرجع إليه في الحوار مع شيوعيي تونس في عقد السبعينات لإثبات ما ينفيه أولئك خارج أقبية السجون أي وجود الرحمان سبحانه. كلما ذكرت تلك الأيام قلت في نفسي : كم كنا عذريين في سذاجتنا. تلك أيام ولت ومضت وكتب الله لنا فيها على سذاجتنا أجر الدفاع عن الحق بإذنه سبحانه. إعتراني الشعور ذاته الذي يعتري أي طالب علم وهو يلتقي لأول مرة أحد الذين كان يتربى على كتاباتهم ومقاوماتهم. لأول مرة أقابل في حياتي رجلا قضى في السجن سبعة عشر عاما كاملة. ثم يخرج بشرا سويا يأكل ويشرب ويصنع الفكاهة صنعا عجيبا ويمشي في الأسواق. نحن قوم نزدري الرجال في جملتنا الغالبة ولا نتدبر قول الشاعر الحكيم : من هاب الرجال تهيبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا.

الفقيد الراحل أديب ومقاوم بسلاح الكلمة

لا تغني كلماتي هذه عن القارئ شيئا ولكن الذي يغنيه حقا هو تناول إرث الراحل الفقيد بالإطلاع والقراءة وهو تراث ليس كبيرا بالمعيار الكمي ولكنه تراث ثري جدا تتحدث فيه المعاناة والتجارب ومدرسة الحياة وليس الشقشقات اللفظية التي تعثر عليها في أحيان كثيرة وأنت تقرأ لأشباه الأدباء والكتاب. الراحل أديب وصاحب قلم فياض وهو من صناعة فقه الحياة بحلوها ومرها وكيف لا تصنع الحياة رجلا آثر الصمود في سجون فاسدة مفسدة زهاء ثلاثة عقود كاملات. قرأت نصيبي من فقه الحياة فظفرت بحقيقة قوامها أن الذين تصنعهم الحياة بألوائها أسوى نفوسا وأصدق خلقا من أولئك الذين صنعتهم الكتب والورقات والأقلام والألسنة. وأسوأ من هؤلاء وأولئك هم الذين يصنعهم الإعلام الدجال الذي يقدم الرويبضات في أيامنا أبطالا شرسا ويهيل التراب على الأسود الأشاوس.
من مؤلفات الفقيد الراحل كتابه : رسالة إلى أختي المؤمنة وهو كتاب أصله بالألمانية ثم ترجم إلى العربية. من الكتب التي ساعدتني كثيرا على حسن هضم اللغة الألمانية وحسن تأويل الإسلام إلى المعتنقين الجدد من الألمان نساء ورجالا. ولا شك أن دعاة آخرين كثرا يحفظون للرجل عليه رحمة الله سبحانه قدره وسبقه وعلمه ومنهاجه المعتدل في التعامل مع قضية الدعوة الإسلامية في ألمانيا.
لعل أكبر أفضال الرجل وكسوبه هو تأسيسه لمؤسسة بافاريا الشهيرة بألمانيا تحديدا في مدينة ميونيخ التي يقيم بها الفقيد عليه رحمة الله سبحانه وهي عاصمة أكبر ولاية ألمانية من حيث المساحة وهي ولاية بافاريا التي سمى الفقيد إسم المؤسسة على إسمها وهي بايرن بالتعبير المعاصر. ساهمت تلك المؤسسة العتيدة في إنتاج ترجمات للقرآن الكريم وهي من أفضل ما رأيت من ترجمات بما ترسخ لدى صاحبها من معرفة عميقة وصحيحة ودقيقة باللغتين العربية والألمانية وبما إستعان فيها من رجال لهم سبقهم الطيب في خدمة الدعوة من مثل المسلم الألماني الكبير أحمد فندنفر وغيره.
شدتني التجربة الدعوية التي إهتدى فيها الراحل الفقيد إلى ولوج البيت من بابه. وليس من باب لبيت الدعوة في مجتمع مسيحي عالماني غربي متقدم صناعيا سوى باب الكتاب العزيز الهادي الكفيل وحده بهداية الناس إلى ربهم الحق ولذا يكون ولوج البيت من باب الترجمة هو مفتاح الوصول وكان الأمر كذلك بإذنه سبحانه. ذلك هو الذي جعل الحبيب محمدا عليه الصلاة والسلام يحرض الأئمة الخطباء على قصر الخطبة وتطويل الصلاة ويجعل ذلك من علامة الفقه فيهم حرصا على أن يسمع الناس كلام الله مباشرة أكثر من سماعهم لأي كلام غيره ولكن من منا يهتدي إلى ذلك اليوم. أرصد ذلك بنفسك في المساجد وما تنقله الفضائيات ثم أخبرني. والعبد الفقير هو أول المتنكبين عن ذلك الفقه النبوي العظيم إذ يظل يرطن بكلام من عنده يزوره كما قال الفاروق لزهاء ساعة أو أدنى بقليل ثم يقتضب القرآن في الصلاة إقتضابا والشعور الذي يداخله ينبئه أن الملل إخترام الناس إختراما وهو صحيح وكيف لا يمل الناس من كلام الناس وكلام ربهم لا يجاد به حتى في صلاة الجمعة إلا قليلا. تلك إحدى البدع التي علينا جميعا إعلان الحرب عليها.

الفقيد الراحل داعية لطيف بالسليقة

لم يشدني شيء إلى الفقيد الراحل مثلما شدني خلقه الكريم الطيب ورب العزة سبحانه. تعلقت به مذ عرفته وليس هذا شأني فحسب بل هو شأن من عرفوه على إمتداد أزيد من عقدين كاملين في ألمانيا. كان الرجل لا يلقاك إلا مبتسما وهو لا يكاد يحصي إسم واحد منا سيما نحن التونسيين لكثرة أعدادنا في تلك السنوات الأولى من عقد التسعينات. شعرنا منذ اليوم الأول أن الراحل الفقيد قريب منا وكأنه يعرفنا منذ زمن بعيد. كان صاحب دعابة لطيفة وصاحب نكتة لا تنقضي. ربما بدا لغيرنا سيما من الإخوة من مصر الحبيبة الشهيدة النازفة اليوم وفجرها مرقوب بين الفينة والأخرى أن الرجل يبالغ في النكتة والبسمة والضحكة وربما بدا لهم أن ذلك يكون دوما على حساب النشاط المنظم في المركز الإسلامي في ميونيخ بل ربما بدا لبعضهم أن الأمر لم يعد بعيدا جدا عن التميع ولكننا كنا نراه فقرة ضرورية من فقرات النشاط سيما أننا في زمن محنة وغربة والترويح عن النفس وجبة روحية لازمة فما بالك إذا كانت الأخبار التي تردنا صباح مساء سيما من تونس يومها هي أخبار التعذيب للمقاومين في السجون والمعتقلات وموت بعضهم والتنكيل بالزوجات والأبناء والأرحام والجيران ومن تسول له نفسه التصدق بفلس واحدة لعائلة رزئت في عائلها بل ببسمة واحدة في وجه يتيم ما مات أبوه ولكن غيبته أقبية السجون أو ظلمات النفي والتشريد.
العبد الفقير إلى ربه سبحانه ممن يعجبهم اللهو والمرح واللعب والترويح حتى لو كنت لا أنتج شيئا من ذلك ورب مستهلك للترويح خير من منفر عنه أو مرغب. خبرنا في منافينا الغربية أن الإخوة في مصر أدنى الناس إلى مثل ذلك في جملتهم الغالبة وليس منا من هو بمثل ذلك إلا قليلا. في جعبتي التي أملؤها بخلاصات الحياة وربما ترى النور يوما أن الداعية المرح في كلامه وحركته أنجح من الداعية الخشبي مثلي. هي أقسام منه سبحانه والرضى بذلك هو ضرب من الرضى بقسمة في رزقه سبحانه.

للراحل الفقيد فقه خاص في الدعوة والتعارف.

كان كثيرا ما يجمعنا حول مائدة شاي ظريفة لطيفة في بعض أفناء المركز الإسلامي في ميونيخ. لم يكن يريد تمييع الأنشطة بل كان يريد تعليمنا أن التعارف الروحي بين الناس هو المفتاح الأول لملء القلوب بالحب فإذا تعارفنا تحاببنا وتهادينا وتعاونا وتغافرنا وتعاتبنا. لكم يعجبني الداعية الناجح عندما يعلم الناس الخلق الطيب بالقدوة وبالأساليب العملية اليسيرة السهلة. لا يقول لك : إفعل كذا تكن داعية ناجحا ولكنه يسوقك إلى محضن من محاضن الشاي مثلا سوقا لطيفا خفيفا وبإبتسامة أشد لطفا. لكم قرأنا أن الدعوة بالقدوة أنجح مليون مرة من الدعوة بالكلمة والتوجيه ولكننا لم نتعلم أن نصنع القدوات وذلك خلل منهاجي تربوي دعوي كبير. هي سلائق وأهواء وأمزجة. منا من يتربى على ذلك بتوجيه منه لنفسه وربما بتفكير ومنا من يظل جامدا على ما قرأ في السطور. لقد كان لحلقات الشاي تلك أثر طيب وكريم على نفوسنا. رب حركة صغيرة تصنع رجلا وتصحح له مساره في الحياة لا يلقي لها الناس بالا بل ربما حاربوها وتبرموا منها ورب مليون كتاب في الرفوف ومثله من الأشرطة والمعلبات بمثل معلبات الأطعمة المهيئة الطازجة لا تزيدك إلا جهلا. تجربتي تقول لي أن الناس اليوم أنفر من القراءة وأرغبهم عنها ولذا صار من الآكد أن يتوسل الدعاة الناجحون إليهم باللسان أكثر من توجههم إليهم بالقلم. تجربتي تقول لي أن الناس اليوم أفر من الكلام وأهربهم منه ولذا صار من الآكد أن يتوسل الدعاة إليهم بالمواقف الصحيحة في الحياة وصنع المحاضن العملية الميدانية التي تعكف على حل المشاكل التي تطحنهم. وتجارب أخرى كثيرة في حقل الدعوة تعلمنا كثيرا منها من هذا الرجل الراحل الفقيد عليه رحمة الله سبحانه.


من سجون مصر إلى الكويت ثم إلى ألمانيا.

لكم تركز تأملي في هذه الأسابيع الأخيرة في ما سماه العلماء المغيبات الخمس التي خامسها قوله :" وما تدري نفس بأي أرض تموت ". حصل ذلك مع الصديق الوفي الراحل الهاشمي الداعوسي الذي دعاه الموت إلى المغرب فمات هناك ولكنه دفن في تونس ومع الصديق أحمد البرقاوي الذي دعاه الموت إلى تركيا لينقذ رجلا وإبنه من الغرق ثم ليموت هو هناك ومع الدكتور الأستاذ المعلم والداعية الناجح عبد الحليم خفاجي. ذلك هو درب الحياة. من منا يعرف أين يموت؟ ذلك هو قهر الله فوق عباده سبحانه وليس قهره لهم كما يرد على ألسنة الخطباء.

لم ألتق الراحل منذ زهاء سنتين أو ثلاث.

كلما نعي إليه رجل ممن أعرف قفز ذهني إلى البحث عن آخر لقاء معه. فإذا كان اللقاء بعيدا حزنت حزنا إضافيا. أقول في نفسي الآن : كلما إلتقيت صديقا إحرص الحرص كله على أن تختم اللقاء معه بالحسنى لعلك لا تلقاه أو لعله لا يلقاك. بل أحدث نفسي بما هو أشد. أحدث نفسي بألا أدير ظهرا لصديق حتى أذكره بهذا المعنى ولكني أخاف سخرية الناس فأحجم. كان آخر لقائي بالراحل الفقيد هو هذا المشهد : دعيت إلى إلقاء خطبة جمعة في المركز الإسلامي بميونيخ قبل زهاء سنتين أو ثلاث وكان الراحل الفقيد أمامي جالسا على كرسي قبالة المنبر وإكتشفت أن الرجل الذي لم أره منذ سنوات قليلات شاخ وهزل جسمه وشحب لونه وعرفت أنه يعاني من أمراض كثيرة ربما. حزنت ورب الكعبة وأنا فوق المنبر وظللت أتحدث إلى الناس وأنا أذكر صولات الرجل وجولاته في ذلك المكان نفسه قبل زهاء عقدين كاملين. ولما إنقضت صلاة الجمعة تقدم إلي به رجلان يساعدانه على المشي وسألني من أكون ولم لا أخطب هناك بصفة منتظمة. عرفت أن الرجل نسيني فذكرته وربما ذكرني وربما لم يذكرني. ثم غادرني بصحبة مرافقيه ولا أدري إن كانت بعض الدموع قد إنسابت على وجنتي يومها أم لا. ولكني أذكر أن القلب بكى بكاء مرا وكثيرا ما يبكي قلبي بكاء مرا أخفيه عن الناس. ذكرت الحديث النبوي الصحيح : المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.

بل ظل المشهد حاضرا في بقوة حتى إني سألت عن الراحل مرات ومرات إذ كنت أرقب موته لما رأيت من حالته الصحية وتقدمه في السن. ظللت على ذلك أذكره وأنساه حتى فتحت حسابي الإلكتروني اليوم من بعد غياب لأسابيع بسبب الوجود في تونس وعدم الإستقرار فألفيت أن إبني الحسين يرسل إلي بنبأ الوفاء مرفوقا ببيان النعي المذكور في أول هذه السطور. حزنت حزنا مضاعفا لأني علمت بنبإ الوفاة من بعد مرور زهاء أسبوعين كاملين. تكرر هذا معي في بعض المرات السابقة عندما يتوفى صديق فلا أعلم بموته إلا من بعد مرور أيام. عندها يكون الحزن مضاعفا.

وعتب آخر أختم به شجوني.

عتبي على بعض المواقع الإلكترونية الجادة التي تجاهلت موت هذ الرجل الكبير. من مثل الحوار.نت في ألمانيا ومواقع أخرى لا فائدة من ذكر أسمائها. هل الرجل نكرة إلى هذا الحد عندكم يا دعاة ألمانيا. إذا غفر الأمر لمن يعيش خارج ألمانيا فإن الأمر لا يغفر لكم أنتم. هذا نذير شؤم لا يعجبني. لا يعجبني أبدا البتة أن يموت من يموت فلا يجد رجلا واحدا منكم يؤبنه بكلمة واحدة أو ينشر خبر موته. المطلوب أن نعرف به وبإرثه فأين أضعف الإيمان. جربت من نفسي مرات ومرات أن حديث الموت وقد سماه الله تعالى مرة يقينا ومرة مصيبة يعظم الميت في نفسي كثيرا. إذ للموت هيبة. لكم يعجبني ألا نبخس الناس أشياءهم وخاصة من بعد موتهم. كان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه ذلك والناس أحياء يرزقون إذ لا يفتأ يخلع لقبا عظيما هائلا على بعض أصحابه والناس يسجلون ويسمعون ويبصرون ويعون ذلك. ألم يكن أولئك عربا مثلنا يأنفون من مثل ذلك. أجل. كانوا عربا ولكن الإسلام أذهب عنهم نخوات الكبر المغلظة. يا حسرة علينا حقا : يموت الرويبضات من حولنا فتقام الدنيا لهم ولا تقعد ولا يساوي الواحد منهم عند ربه جناح بعوضة ويموت الرجال الكبار فينا فلا نأبه لذلك. هي رزية والرزايا كثير.

تلك هي كلماتي بهذه المناسبة وذلك هو عتبي والله أشهد ألا ناقة لي ولا جمل في شيء من ذلك ولكن الفؤاد يلتاع لوعات حرى عند فقد الأحبة. سيما أولئك الذين كانوا منا في منازل المعلمين.

الهادي بريك تونس
[email protected]
28420944


(التحرير)
الصورة المرافقة للمقال للمرحوم خفاجي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.