ما يحدث ويدور حول أوكرانيا هذه الأيام يشدّ الأنظار ويدعو إلى التركيز و استجلاء ما يكْمُن وراءه من خطط و تجاذبات. روسيا بوتين تقول: يجب أن يترك الشّعب الأوكراني ليقرّر مصيره بنفسه.. وتغنّي نفس الأغنية الولايات المتّحدة بقيادة كيري و أوباما لكن بلحنها و تقول: يجب أن يترك الشّعب الأوكراني ليقرّر مصيره بنفسه.. الخطابان المتناسخان يظلّان مجرّد تصريحات جاهزة وسريعة على طريقة الهمبورغر ليستهلكها الرأي العام العالمي وإن شاء أن يشرب معها الفوتكا الرّوسية فليفعل.. هذا بالنسبة للتصريحات أمّا المناورة السّياسية فروسيا تقول نعم أتحاور مع الغرب في الشأن الأوكراني لكن بشرطين وهما على التوالي: تطبيق اتفاقية فبراير/ شباط بين الرئيس المعزول يانوكوفيتش والمعارضين له والتي أهمّ ما فيها: إصلاحات دستورية وانتخابات رئاسية مبكرة وحكومة وحدة وطنية، وأيضا حوار وطني تشارك فيه كلّ الأطياف على الأراضي الأوكرانية وتضمن فيه أسباب وجودها خصوصا الأكرانيين الرّوس.. وليس لأمريكا مناورة حاليا إلا التّهديد بمقاطعة قمّة الثّماني التي من المفروض أن تدور في روسيا وفرض عقوبات عليها.. لكن ما وراء كلّ ذلك وفي ما يسمّى بما خلف الكواليس تكمن نوايا استراتيجية مهمّة، و مختلفة حسب اختلاف أصحابها، أحاول تبسيطها لكم على التوالي: 1) الإستراتيجيا الرّوسية: التي يدافع عنها بوتين الآن كالمجنون روسيا بوتين تحلم بإعادة الإتّحاد الأوراسي بدل السّوفياتي.. الّذي يقال أنّه سيشمل: كازاخستان، أوزبكستان، طاجيكستان، قيرغيزستان، مولدوفا، أرمينيا، وآذربيجان.. ويقول له الغرب هذا سفيات جديد لن نسمح له بالقيام مرّة أخرى... أوكرانيا رغم أنّ النسبة الدّيمغرافية للرّوس فيها لا تتجاوز 17 % إلّا أنها كانت تسمى تاريخيا "روس كييف"، وذلك قبل أن تتفكك في القرن الثاني عشر. لكن يجب أن يُعلم استراتيجيا، أنّ أوكرانيا خصر سمين لروسيا لا يجب أن يُمسّ.. فمدينة "سيفاستوبول" الساحلية في شبه جزيرة القرم الأوكرانية تحتضن أسطول البحر الأسود الرّوسي منذ القرن الثامن عشر.. ثمّ باتّفاقية تأجير في عهد الإتحاد السوفياتي ورثته روسيا بعد تفكّكه لتحقّق من خلاله جهوزية استراتيجية للتحرك بمرونة في الحرب العالمية الثّالثة الّتي ستندلع عمّا قريب..!! ثمّ أيضا تمتلك أوكرانيا ثاني أكبر جيش في أوروبا، بعد روسيا و ثالث أكبر ترسانة أسلحة نووية فى العالم، .. هذا بالنسبة للإستراتيجيا العسكرية.. ثم من النّاحية الإقتصادية واللوجستية تعتمد أوكرانيا إلى حد كبير على روسيا كمورد للطاقة فهي تستورد نحو 35 في المئة من حاجتها من روسيا وأيضا يمر 85 في المئة من الغاز الرّوسي إلى غرب أوروبا عبر أوكرانيا. 2) الإستراتيجيا الأوكرانية: رغم ما ذكرناه من أهمّية أوكرانيالروسيا، إلاّ أنّ الشعب الأوكراني أغلبه يريد أن يدير ظهره للحقب السّتالينة الشيوعية والحقب السّوفياتية التي بعدها، والأزمات الاقتصادية المتعاقبة منها أزمتي 2003 و 2008، وشبح الفقر الذي بلغ فيه انخفاض دخل الفرد الأوكراني إلى دولارين.. و بالتوقيع على اتفاقية الشّراكة مع الاتحاد الأوروبى، التي خرجت الجماهير تدافع عنها هاتفة بصيحتنا التونسية (الشعب يريد إسقاط النظام) هي تأمل في ازدهار وتحسّن في مستوى العيش في فضاء أوروبي جديد.. 3) الإستراتيجيا الأمريكية باختصار: أمريكا الّتي تعمل منذ أمد بعيد على محاصرة روسيا بصواريخها حاولت أن تقنع تركيا بالسّماح لها بتركيز درع صاروخية على أراضيها المقابلة لعدوّتها فأبت تركيا عليها، فتغيّرت البوصلة وأصبحت تحلم بانضمام أوكرانيا لحلف الناتو لتتمكّن من تلك الغاية فتنصب آلاف من صواريخها الإستراتيجية الموجّهة نحو الدبّ الرّوسي.. وهدف آخر وهو طرد الأسطول الرّوسي من القرم.. 4) الإستراتيجيا الأوروبية: الاتحاد الأوروبى الّذي يتقهقر اقتصاده، يريد غزو الأسواق الأوكرانية دون قيود، ويريد إنعاش مؤسّساته هناك باستخدام اليد العاملة الرّخيصة كما يستغلّها في بلداننا المغاربية، وقد بدأت الشّركات الأوروبية تتمركز وتنتج فى أوكرانيا.. أحد المحلّلين الإستراتيجيين يقول: "فى كييف يوجد الكثير من الصناعات الثقيلة المشتركة بين روسياوأوكرانيا، كالطيران والمعادن والفضاء وحتى السلاح، وأوروبا ترغب فى سحب هذه الامتيازات من روسيا لصالحها، والتحكم بها جزئيا أو كليا" لكن في خلال هذه الإستراتيجيات الأربعة الرّئيسية يحلو لي أن أذكر إستراتجيتين إثنتين على الهامش: الإستراتيجيا الهامشية الأولى: تتسلّل داخل اللعبة بحذر وترقّب.. وهي الإستراتيجيا الصّهيونية، والأمر اليومي فيها هو مراقبة إيران عن قرب، وقطع الطّرق الإستراتيجية على من يمكن أن يفكّر في التّسلّح من بلدان الشّرق الأوسط عبر المحور المتنازع عليه.. وأنا في الحقيقة على عكس الفزعين المهوّلين لحجم الكيان الصهيوني أرى إسرائيل غير قادرة على توجيه دفّة هذه الصّراع على أوكرانيا كما تريد، لكن الخطّة، هي أيّهما ينتصر تقوم باستقطابه و منه وتستفيد.. والإستراتيجيا الهامشية الثّانية: هي الإستراتيجيا العربية الإسلامية فهي غائبة تماما رغم الإستحقاقات والجذور التاريخية للدّولة العثمانية وعدد المسلمين المتواجدين في السّاحة المتصارع عليها الّذي يتراوح بين نصف المليون و المليون، وهم يصارعون التّذويب والإبادة كلّ يوم ... ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله..