التعدد والاختلاف آية من آيات الله؛ وليس سببا من أسباب الفرقة والتناحر والنزاع، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) الروم:24، ولما غاب هذا المعنى القرآني عن كثير من بني البشر؛ ظنوا هذا الاختلاف وهذا التعدد والتنوع مما يرفع الإنسان أو يضعه، فراحوا يفخرون بالأنساب والأحساب غير مدركين سنة الله عز وجل من هذا الاختلاف، تلك السنة القدرية القهرية التي أثبتتها الآية السابقة يزيدها الحق سبحانه وتعالى شرحا وبيانا في سورة الحجرات فيقول: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات:13 والحكمة من ذلك يقول الزمخشري: "هي أن يعرف بعضكم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه؛ لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا (من الادعاء) التفاوت والتفاضل في الأنساب" الكشاف: ج3، ص569. أما الآية الأولى فيقول عنها "خالف عز وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ولا جهارة ولا حدة ولا رخاوة ولا فصاحة ولا لكنة ولا نظم ولا أسلوب ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها والألوان وتنويعها، ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة" الكشاف: ج، 3، ص: 214 . تلك سنة الله إذن، فما بال القوم يتنازعون؛ ظنا منهم أن وجود بعضهم فيه فناء للآخر، والأصل أن يكون خلاف ذلك، الأصل أن اختلافهم تكامل وإثراء، وليس موتا وإفناء. وما نراه في المغرب منذ ظهور ما اصطلح عليه بالقضية الأمازيغية، ولعله منذ الظهير البربري؛ ضرب من العبث لا أساس له. فإذا كانت الأمازيغية مكونا من مكونات البيئة المغربية، وهي كذلك فعلا، فإن هذا مدعاة للفخر والاعتزاز، وليس بابا من أبواب الصراع والتعصب والعرقية المقيتة. فالغريب في الأمر أن كثيرا من نشطاء هذه القضية توجهوا بها نحو الطريق الخطأ، فقد حاولوا ربط هذه القضية بالمعطى العرقي، ورفعوا شعار المظلومية؛ متوهمين أن واقع التهميش الذي يعيشه بعضهم مرتبط بالنسب العرقي، كما لو أن كل أبناء الوطن يعيشون في رغد؛ إلا هذه الطائفة التي ترى نفسها معزولة في دائرة خارج دائرة أبناء الوطن، وهذا وَهم يُكذبه الواقع بكثير من الشواهد. أما مناسبة هذا الكلام فهو الحوار الرفيع الذي جرى يوم السبت الماضي بقاعة المحامين بين مجموعة من الباحثين والمختصين في الشأن اللغوي؛ دعت إليه الرابطة المغربية للأمازيغية والمركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة؛ بحضور المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وكان فعلا حوارا فريدا من نوعه؛ تبين خلاله أن الجميع قبل ذلك كان يمارس سياسة صم الآذان، ويتحدث إلى نفسه في غرفة مغلقة، فلما اجتمع الجمع وتكلمت أطراف النزاع؛ تبين أن أوجه الاتفاق أكثر بكثير من أوجه الاختلاف، بل الغريب في الأمر أن أوجه الاختلاف لا تكاد تذكر أمام حجم المتفق عليه، مما يدل على أن السبب في كل هذه القطيعة وهذا الخصام المفتعل إنما هو العجز عن التواصل وتبادل أطراف الحديث بين أطراف الوطن الواحد في قضايا من مصلحة الجميع التوافق حولها؛ حتى تكون مصدر إثراء وليس مصدر نزاع. ما جرى في الملتقى كان حدثا فارقا في تاريخ النزاع المفتعل حول هذه القضية، والأكيد أنه سيكون له ما بعده، بل إنه سيشكل انطلاقة جديدة في مسار هذه القضية؛ إذا أخذته الأطراف المعنية بالجدية اللازمة. فكل المداخلات تقريبا كانت تؤكد على أهمية التوافق الوطني حول هذه القضية؛ لأنه يشكل عاملا من عوامل الوحدة الوطنية، بينما النزاع حولها؛ يزيد من فرقة أبناء الوطن الواحد، ويعمق الشرخ، ويفتح الباب للأطراف الخارجية للتدخل في الشؤون الوطنية. ولو أن الجميع عادوا إلى أصل المسألة، وجعلوا التعدد والتنوع والاختلاف أمرا طبيعيا سننيا لأخرجوا هذا الوطن العزيز من دائرة التناحر والصدام؛ وساهموا في تحقيق الوحدة الوطنية اللازمة؛ للدفع في اتجاه التنمية التي تفرضها المرحلة الراهنة، فما أكثر ما يفوت علينا من خيرات نتيجة النزاع حولها! أمَا كان الأولى أن نتوحد حول القضايا التنموية لهذا الوطن، بدل شغل الجميع في معركة مفتعلة خاسرة، الوطن فيها الخاسر الأول، والمتربص الخارجي فيها المستفيد الأول؟ نعم؛ الأكيد أن اللحظة التاريخية تقتضي وحدة وطنية عاجلة، والكف عن سياسة الآذان الصماء، وفتح باب التواصل والحوار، والمضي قدما نحو تفعيل الدستور في المسألة اللغوية، والدفع في اتجاه التكامل بين اللغتين الوطنيتين الرسميتين، لقطع الطريق أمام التغول اللغوي الخارجي.