كلام كثير نسمعه قبل الانتخابات التشريعية في تونس بأيام معدوة بعضه من محللين وغيره من إعلاميين أو سياسيين أو فاعلين في المجتمع المدني جلّه يستقرئ أن إقبال المواطنين في الانتخابات القادمة سيكون ضعيفا جدا مقارنة بالانتخابات الماضية. وبقطع النظر عن صحة هذه الاستقراءات من عدمها أو عن دوافعها وخلفياتها فإنه يجدر لفت نظر الهيأة العليا المستقلة للانتخابت إلى أن الاقبال المكثّف على الانتخابات هو من أهم المقاصد التي يجب أن تعتمد في تحقيقها كل الوسائل التي لا تتعارض مع القانون، خاصة مع ما نسمعه من دعوات لتحريض الناخبين للزهد في الانتخابات ومقاطعتها وهي دعوات صادرة من أقصى اليمين وأقصى اليسار. ومن المهم أن نذكّر أيضا أنه رغم الإقبال الكبير في الانتخابات الماضية فإن كثيرين حاولوا التشكيك في نتائجها وطعنوا في شرعية من أفرزتهم الانتخابات بدعوى أن نسبة كبيرة جدا من الناخبين* لم تدل بأصواتها. وهنا لابدّ من التنويه إلى أن ما عملت عليه الهيأة العليا المستقلة للانتخابات من التسجيل الإرادي للناخبين هو عمل جيّد وأسلوب ينّمي الوعي الديمقراطي لدى المواطنين. وقد حاولت الهيأة بذل الوسع في الوصول إلى الناخبين وتحريضهم على التسجيل الإرادي للانتخابات، ولكن ذلك يجب أن لا يكون بحال من الأحول سببا في منع من لم يسجل اضطرارا أو اختيارا من القيام بواجبه الانتخابي إن أراد ذلك. والأكيد أن هذه الفئة ليست قليلة، فقد أثبتت التجربة أن أغلب الناس يتهاونون أثناءالإعداد ولا يتحركون إلا في الدقائق الأخيرة، كما أن ما أقدمت عليه الهيأة الماضية من السماح لكل المواطنين بالقيام بواجبهم يوم الانتخاب دون الاكتفاء بالمسجلين فقط، قد حمل كثير من الناس على التواكل والتعويل على ذلك. وفي كل الأحوال كان قرار الهيأة الماضية في هذه النقطة قرارا صائبا ولم يؤثر على سلامة الانتخابات أو نزاهتها. ويمكن القول بأن الصرامة في معاقبة من لم يسجل بمنعه من حقه في الانتخاب إن أراد هو خيار خاطئ بكل المقاييس، لأن ذلك من قبيل تحميل عموم الناس ما لا يطيقون، أو هو من قبيل بناء سقف ديمقراطي عال قبل وضع الأساسات الصحيحة والأعمدة التي يستند عليها. وحتى في البلاد العريقة في الديمقراطية لا يطلب من الناخبين أن يسجلوا مسبّقا في قوائم انتخابية، وكل من بلغ سنّ الانتخاب تأتيه دعوة بالبريد توجهه إلى أقرب مكتب من سكنه. وهب أن عددا من المواطنين كان لهم موقفا سلبيا من الانتخابات وبعد الحملة الانتخابة والتواصل مع المرشحين اقتنعوا بالانتخاب، ما الفائدة من حرمانهم؟ أليس من مصلحة تونس وتجربتها الديمقراطية الوليدة السماح لهم بالانتخاب في المكاتب التي يعودون إليها بالنظر؟ هذا فضلا على أن هناك أعداد غير قليلة قد تواكلت على التسجيل الماضي واعتقدت أنه كاف، لكن أسماءها لم تكن في القوائم النهائية. وهناك أعداد أخرى سجلت لهذه الانتخابات ولكنها لم تراجع القوام في الوقت المناسب لتعترض على عدم وجودها ضمن المسجلين في الوقت المناسب. وحرمان الناس من حقهم في الانتخاب أشد فداحة من تهاون المعنيين في المتابعة والجري وراء حقّ من المفروض أن يكون بديهيا، مع اعتبار ظروف الناس المختلفة في الوقت والإمكانيات التقنية أو حتى درجة الوعي في تحمل المسؤولية. ولا نعتقد أن الهيأة العليا المستقلة للانتخابات تُعدم وسيلة تسمح "للمهمشين" من عملية التسجيل القيام بواجبهم، فإضافة إلى اعتماد الحبر الانتخابي يمكن مثلا اعتماد ختم خاص بالانتخابات في الصفحة الأخيرة لجواز السفر بالنسبة لغير المسجلين ويكون ذلك بالتنسيق مع وزارة الداخلية، أو اعتماد منظومة إلكترونية، وفرض عقوبات على من يحاول التلاعب. ولاشك أن الوسائل عديدة ومتعدة وما كان في الانتخابات الماضية ممكنا، فالمفروض أنه في هذه أيسر. ويبقى الأهم هو المشاركة الواسعة للمواطنين في الانتخابات التي ليس لها من بديل غير الانقلاب أو الاحتراب! والمأمول أن تتدارك الهيأة العليا المستقلة للانتخابات الأمر قبل فوات الأوان، أو أن تجبر على ذلك ممن له سلطة أعلى من سلطتها! * عدد الأصوات في الانتخابات الماضية 4053905، وعدد من يحق لهم الانتخاب 8289900 طه البعزاوي 21 أكتوبر 2014