أعرف الأستاذ راشد الغنوشي منذ أكثر من عشرين عاما ، وجمعتني به لقاءات كثيرة ، وكنت قديما أحرص إذا سافرت إلى "لندن" على أن أزوره في مكتبه حيث كان لاجئا سياسيا وأستمع منه إلى رؤيته للأحداث وتقديرات المستقبل ، ليس في تونس وحدها بل في مجمل المنطقة العربية ، كنت أحترم فيه رصانة الفكرة والبعد عن الانفعالية والارتجال ، حيث امتزجت في خبرته العاطفة النبيلة بالثقافة الجادة ، كنت أعرف أنه ومعه حركة النهضة نسيج خاص في الحالة الإخوانية التي ينحدرون منها ، كما أن رسوخ المذهب المالكي في تونس كما في المغرب العربي كله جعل من العناية بتقديرات "المصالح والمفاسد" المبنية على الفقه المقاصدي حاضرة دائما في الخيار السياسي للحركات الإسلامية وتعطيهم مساحات أكثر رحابة في الحركة الاجتماعية والسياسية ، وهذا ما عصمها عن كثير من الزلل والدم الذي وقعت فيه حركات أخرى ، لكن الغنوشي من ذلك النوع من المفكرين أو المثقفين الذين تستمع إليهم وتحاورهم ولكن لا تقرأ لهم حوارات ، لأنه وافر الذكاء والمراوغة في حواراته ، إلى الحد الذي يصعب أن تخرج منها بمعنى محدد عند الأزمات ، لأنه كقائد سياسي يعرف عواقب الكلمات وآثارها فيهرب منها إلى الكلام العام والعناوين الفضفاضة ، ولكني هذه المرة توقفت كثيرا عند حواره مع صحيفة الخبر الجزائرية ، لأنه حوار كان فيه على غير العادة أقرب إلى الوضوح والحسم والصراحة ، كان كمن يبدو في حال استشعار ضرورة توجيه النصيحة من خلال هذا الحوار ، وهو حوار استثنائي بالفعل ، كما أنه شديد الأهمية للإسلاميين في مواقع كثيرة الآن وهم في قلب العواصف التي هبت مع رياح الربيع العربي وانكساراته . في تفسيره لامتناع حركة النهضة عن التقدم بمرشح لها في رئاسة الجمهورية التونسية قال )إن الحركة لم تتقدم بمرشح فى انتخابات الرئاسة لأن موازين القوى الداخلية والخارجية لم تكن تسمح بذلك) وأشار إلى تفضيله الانتقال من السلطة إلى المعارضة على الانتقال من السلطة إلى السجن قائلا : (أنا مقتنع تماما أننا لو رشحنا نهضويا لما وصلت تونس إلى هذا اليوم، ولما وصلنا إلى الانتخابات) . وبحكمة من ينظر إلى أبعد من تحت قدمه وأبعد من المشهد اللحظي الذي يراه الآن يقول: «ميزان القوى لا يسمح بأن تقدم النهضة مرشحا عنها، موازين القوى لا تتحدد بالعدد، وإنما تتحدد بجملة المعطيات الداخلية والخارجية؛ ومعنى ذلك أننا لو تقدمنا إلى هذا المنصب سينهار المسار «الديمقراطي» ب”انقلاب، أو إرهاب، أو اغتيالات، أو فوضى عارمة”، كل عمل لا تبرره موازين القوى لا يتم». وتابع: «فى الجزائر عام 1992، الإسلاميون أخذوا 80 بالمائة من الأصوات، لكن موازين القوى الداخلية والخارجية لم تكن تسمح للإسلاميين بالحكم فى الجزائر» ، والحقيقة أن هذا الانتباه إلى "موازين القوى" الحقيقية وخطورتها في الحساب السياسي ، وأن موازين القوى لا تحسب بعدد من صوتوا لك في صندوق الانتخابات فقط ، أو بمعنى آخر أن الديمقراطية ليست مجرد "صندوق انتخابات" ، أو بمعنى ثالث أن "صندوق الانتخابات" ليس هو الضمانة الوحيدة لنجاح الديمقراطية ، هذه الرؤية هي خلاصة للدرس الذي غاب عن الإسلاميين فخسروا أكثر من جولة ، وخاصة في مصر ، حيث علق الغنوشي في حواره ذاته عن تجربة الإخوان واستعجالهم التصدي للسلطة وقيادتها ، فقال : «موازين القوى لم تكن تسمح لهم بأخذ الرئاسة، الجيش والأقباط والإدارة المصرية، والفلول، والدولة العميقة، والإعلام والوضع الجيوسياسى، لم تكن تسمح لهم بالقيادة والرئاسة، ولكن كانت تسمح لهم بالمشاركة» ، وقيمة هذا الكلام ، وتلك الرؤية أنها تأتي من داخل الإطار الإخواني ، وليست من خارجه ، وليست القيمة هنا في "الاعتراف" ، فهذا فات أوانه ، وإنما القيمة الحقيقية في مسار المستقبل والاعتبار بالخبرات التي دفع الآلاف ثمنها دما وسجنا وتشريدا