في ذكرى اغتيال الشهيد شكري بلعيد، الذي يظلّ لغز قتله يثير سلسلة من الشبهات حتى ولو اعترفت الف من الجماعات المتطرفة باغتياله. فلا التوقيت ولا والوضع السياسي آنذاك ولا الأهداف كانت في تمام الجلاء. وظلت سلسلة من الأسرار تحيط بالعملية، و في تناولها سياسيا و اعلاميا، وكأن المراد تعويم الجريمة، وطمس الحقيقة. اغتيال شكري بلعيد واحد من اغتيالات عدّة شهدتها تونس. وهي اغتيالات سياسية بامتياز، وارتبطت بمراحل مهمّة في تاريخ الدولة، وخاصة في مراحل تكوين الجمهورية الأولى والثانية. المرحلة الأولى، كانت تقريبا منذ سنة 1952 الى سنة 1961، وهي بداية تكوين الجمهورية الأولى، من أواخر الاستعمار الى السنوات الأولى للاستقلال. وقد كانت هذه الفترة مثقلة بالاغتيالات لشخصيات ثقيلة، اما معادية للمستعمر الفرنسي او لزعيم الجمهورية الأولى بورقيبة. في 1952 اغتيل الزعيم فرحاد حشاد، في 1953 اغتيل الهادي شاكر، في 1954 اغتيل عبد الرحمان مامي، وفي 1956 اغتيل الحسين بوزيان وفي 1961 تمّ اغتيال الزعيم صالح بن يوسف. والمرحلة الثانية، كانت ما بعد أحداث الربيع العربي، 2010/2011، وحين بداية تكوين الجمهورية الثانية. اذ تمّ اغتيال شكري بلعيد ومحمد الأبراهمي في 2013، وجملة من الأمنيين والعسكريين. في المرحلتين، كان هناك صراع حضاري، وتوجه الى حمل هويّة الدولة بعيدا عن اصلها العربي الإسلامي. فبورقيبة كان بلشفيا، وغربي الهوى. نال شهائده وتكوينه السياسي في فرنسا، وعمل على تكوين دولة على الطراز الغربي. فدعى الى تكوين الأمّة التونسية ليخرج عن أمّته العربية، وحاول محاربة الدين وعزله، مثل اجهاره بالدعوة الى افطار رمضان، الاّ ان الخط الدفاعي الأولّ للحفاظ على هوية الأمّة قد تصدّى له. وفي هذه المرحلة الدقيقة حصلت كل الاغتيالات المذكورة، وفي صلب خطّ الدفاع، بأياد فرنسية او تابعة لبورقيبة. وأمّا ضمن أحداث الربيع العربي، وما تلاها من تدافع على ملئ فراغ السلطة، فقد عاد للمشهد الصراع على هويّة الدولة مرّة أخرى. فدخل الخط المناقض للعروبة والإسلام بكل ثقله من خلال بعض الأحزاب والجمعيات والمؤسسات الإعلامية لأحداث الصدمة في عقل التونسيين، الصدمة حول هويتهم الحقيقية، واخترعت الف معركة من أجل ذلك. فعرضت افلام تنتهك القداسة والتطاول على خالق الكون، وعرضت صور مسيئة للرسول الكريم، وحرقت مساجد وجوامع، وتمّ استفزاز التيارات الدينية، ولمّ تأخر ردّها، تكفل البعض بصناعتها وتوريد شاحنات من اللحى الاصطناعية. حتى ان الدستور كاد ان يسقط فصله الأول، الاسلام دين الدولة. وفي ظل هذا الوضع، لم يكن شكري بلعيد، لا مع هذا او ذاك، فهو ينحاز للدولة الوطنية، ويعادي صراحة التيار الإسلامي والتيار الرأسمالي المتوحش. وهو ما أعاد طرح السؤال، لماذا قتل شكري؟ هل من أجل اسقاط حكم الإسلاميين؟ وهو ما حصل كنتيجة، او من أجل تغليب مشروع كامل، يناقض مشروع شكري الوطني ومشروع الإسلاميين؟ حكومة الصيد كانت الجواب على موت شكري بلعيد. الحكومة لم تكن ذات مشروع، كانت أعمدتها النظام القديم بكل تفاصيله، برأسماله الفاسد، بمزوريه، بعلاقاته المفتوحة على الكيان الصهيوني، وقد ضمّت على الأقل شخصيتين متهمتين بالعلاقات مع كيان العدو. كما ضمّت رفاقا لشكري بلعيد، رفاقا يبدو بانهم قرؤوا جيّدا خارطة الجيوسياسة، وفهموا مآلات ما يحدث، فركبوا نعش شكري، من أجل كرسي. وهكذا كان شكري والأبراهمي والجنود القرابين لبناء الجمهورية الثانية، ولكن بنكهة خارجية، يقصى فيها الصادقون من اليسار، والصادقون من الإسلاميين.. وأما من ركب مركب "الصيد" فهم الذين رفضوا تجريم التطبيع.. بل وفتحوا الباب لمن اختطف الوطن. ورحم الله شكري وكل الشهداء.